عناصر الخطبة
1/بعض أحوال الناس في رمضان 2/عدم اختصاص العبادة برمضان 3/بعض علامات قبول الأعمال الصالحة 4/بعض الأمور التي يتعلم الإنسان من رمضان 5/خطر العودة إلى المعاصي بعد الطاعات 6/الاجتهاد في الأعمال الصالحة في رمضان ومواصلة العبادة بعده 7/فضل إتباع رمضان بست من شوال وبعض فوائد ذلكاقتباس
عباد الله: إن نهج الهدى لا يتحدد بزمان، وعبادة الرب وطاعته ليست مقصورة على رمضان، بل لا ينقطع مؤمن من صالح العمل إلا بحلول الأجل، فإن في استدامة الطاعة وامتداد زمانها نعيماً للصالحين، وقرة أعين الفالحين، يعمرون بها الزمان، ويملؤون لحظاته بما تسر لهم من خصال الإيمان، التي يثقل بها الميزان، ويتجمل بها الـ...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله ...
أما بعد:
أيها المسلمون: لقد كان شهر رمضان المعظم ميداناً لتنافس الصالحين بأعمالهم، ومجالاً لتسابق المحسنين بإحسانهم.
كم تهذبت نفوسنا -ولله الحمد- في تلكم الأيام والليالي؟
لقد تروضنا على الفضيلة، وارتفعنا عن الرذيلة، وأخذنا دروساً ودروساً في سمو النفس، واكتسبنا هدى ورشاداً وازددنا أخلاقاً وإحساناً، فحمداً لك يا رب على نعمك وأفضالك.
عباد الله: إن شهر رمضان تولى وانسلخ بما فيه، شاهداً مصدقاً على المحسن بإحسانه، وعلى المسيء بإساءته.
فعلى من منَّ الله عليه بالتوفيق فيه، وتاب إلى الله وأناب وصام وقام: أن يحافظ على هذه الدرجة الطيبة، ويزداد في الخيرات.
وعلى المسيء الذي فرّط في موسمٍ خصبٍ لا يُعوّض: أن يتوب إلى الله، ويبادر، فإن الله يقبل توبة عبده ما لم يغرغر.
كنتم بالأمس في شهر رمضان شهر البركات والخيرات، شهر مضاعفة الأعمال والحسنات، تصومون نهاره، وتقومون ما تيسر لكم من ليله، وتتقربون إلى ربكم -سبحانه- بفعل الطاعات، وهجر المباح من الشهوات، وترك السيئات الموبقات.
ثم مضت تلك الأيام، وقطعتم مرحلة من مراحل العمر، والعمل بالختام، فمن أحسن فليحمد الله، وليواصل الإحسان بالإحسان، ومن أساء فليتب إلى الله، وليصلح العمل ما دام في وقت الإمكان.
تمر بنا الأيام تترى وإنما *** نساق إلى الآجال والعين تنظر
فلا عائد ذلك الشباب الذي مضى *** ولا زائل ذاك الشيب المكدر
إن هذه الليالي والأيام، والشهور والأعوام، كلها مقادير الآجال، ومواقيت الأعمال، ثم تنقضي سريعاً وتمضي جميعاً، والذي أوجدها وابتدعها باق لا يزول، ودائم لا يحول، هو في جميع الأوقات إله واحد، ولأعمال عباده رقيب مشاهد.
قيل لبشر الحافي -رحمه الله-: إن قوماً يتعبدون الله في رمضان، فإذا انسلخ تركوا؟ قال: بئس القوم لا يعرفون الله إلا في رمضان.
عباد الله: إن نهج الهدى لا يتحدد بزمان، وعبادة الرب وطاعته ليست مقصورة على رمضان، بل لا ينقطع مؤمن من صالح العمل إلا بحلول الأجل، فإن في استدامة الطاعة وامتداد زمانها نعيماً للصالحين، وقرة أعين الفالحين، يعمرون بها الزمان، ويملؤون لحظاته بما تسر لهم من خصال الإيمان، التي يثقل بها الميزان، ويتجمل بها الديوان، وفي الحديث قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "خَيْرُ النَّاسِ مَنْ طَالَ عُمُرُهُ، وَحَسُنَ عَمَلُهُ".
واعلموا -رحمكم الله- أن لقبول العمل علامات، وللكذب في التوبة والإنابة أمارات.
فمن علامة قبول الحسنة: فعل الحسنة بعدها.
ومن علامة السيئة: السيئة بعدها.
فأتبِعوا الحسنات بالحسنات، تكن علامة على قبولها، وتكميلاً لها، وتوطيناً للنفس عليها، حتى تصبح من سجاياها، وكرم خصالها، وأتبعوا السيئات بالحسنات، تكن كفارة لها، ووقاية من خطرها وضررها: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ)[هود: 114].
وفي الحديث الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "اتَّقِ اللَّهِ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعْ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسن".
فاتقوا الله -عباد الله- في سائر أيامكم، وراقبوه في جميع لحظاتكم، وتقربوا إليه بصالح أعمالكم.
إن أصحاب العبادات الموسمية هؤلاء لا تنفعهم يوم القيامة، والذي كان يعبد رمضان يجب عليه إن يعلم بأن رمضان شهر لا ينفع ولا يضر، ثم إذا عبدت الله في رمضان، ثم عدت كما كنت في شوال، ومت في شوال، فماذا ينفعك رمضان، فالعبرة بالخواتيم؟
لقد كنا نُؤمِّن مع الإمام في صلاة الوتر: "اللهم اجعل خير أعمارنا أواخرها، وخير أعمالنا خواتمها" هل كنا نعي ما نُؤمِّن عليه؟
لو كنا نعي حقيقة لحرصنا على خير الأعمار، وخير الأعمال بعد رمضان.
أيها المسلمون: لقد علّمنا شهر رمضان: أننا نستطيع أن نبكي من خشية الله، وأن نذرف الدمع بين يديه، وأن نجهش في صلاتنا بالبكاء.
وعلّمنا: أننا نستطيع أن نقوم الليل، ونصوم النهار، ونكثر من قراءة القرآن.
وعلّمنا: أننا نستطيع أن نديم المكث في المساجد.
وعلّمنا: أننا نستطيع أن نترك كثيراً من شهواتنا ورغباتنا.
لقد فضحنا هذا الشهر، وكشف كذب دعاوى الكثيرين ممن يزعم أنه لا يستطيع البكاء، أو الصلاة، أو قراءة القرآن، أو البقاء في المسجد، فهل نتعلم هذا الدرس؟ هل ندرك أننا نقدر على فعل الكثير عندما نريد فعله؟ هل نتذكر أن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها، وأن في وسعنا أن نفعل الشيء الكثير؟.
أيها المسلمون: كم هو محزن أن يوفق أناس لعمل الطاعات والتزود في فرص الخيرات، حتى ما إذا انتهى الموسم نقضوا ما أبرموا، وعلى أعقابهم نكصوا، واستدبروا الطاعات بالمعاصي، واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، تلك هي النكسة المردية والخسارة الفادحة، أين دروس الصلاح والطهر والاستقامة والتقى من شهر رمضان؟ هل رأيتم أعظم مقتاً من الكسل بعد الجد؟ والتواني بعد العزم؟
ولكن أشد منه، من تنكب السبيل، فعاد إلى حماة الصبوات والهفوات، ومقارفة الآثام بعد إذ نجاه الله منها.
ألا فاتقوا الله -عباد الله- وأروه من أنفسكم خيراً، فمن كان مجداً فليزدد، ومن كان مقصراً فليرجع، من غلبه هوى أو تشاغل بلهوٍ أيام العيد، فليبادر بالتوبة النصوح، وليعظم رجاؤه بربه، فأبواب التوبة مفتوحة، ومولاه يناديه: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)[الزمر: 53].
ومن رحمة الله -عز وجل- بنا: أنه جعل لنا مواسم أخرى يتكرر علينا بعد رمضان، لو اغتنمه الإنسان، وأحسن استغلاله، لبقي محافظاً على إيمانه الذي اكتسبه في شهر رمضان.
فبين أيديكم -يا عباد الله- موسم يتكرر في اليوم والليلة خمس مرات، وهو الصلوات الخمس التي فرضها الله عليكم، تُدعون لحضورها في المساجد، لتقفوا بين يدي مولاكم، وتدعوه وتستغفرونه.
فلا تنقطعوا -يا عباد الله- عن المساجد بعد رمضان، فكم نتمنى أن نشاهد الذين كنا نراهم في رمضان في أوائل الصفوف؟ وكم نتمنى أن يملئ المسجد في صلاة الفجر كما كان عليه الحال في رمضان؟
فيا عباد الله: أجيبوا داعي الله إذا دعاكم: (أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَن لَّا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَولِيَاء أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ)[الأحقاف: 31 - 32].
وبين أيديكم موسم يتكرر كل أسبوع وهو صلاة الجمعة، ويوم الجمعة الذي اختص الله به هذه الأمة، وفيه ساعة الإجابة التي لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله شيئاً وهو قائم يصلي إلا أعطاه إياه.
وبين أيديكم مواسم في جوف الليل، وفي وقت الأسحار، فيا من كان يقوم الليل في العشر الأواخر: لا تحرم نفسك هذا الخير طوال السنة، فإن فيه الزاد على كل شيء، ولو كانت هناك وسيلة أخرى لتربية الفرد وتهيئته لتحمل الأمور العظيمة غير قيام الليل لأرشد الله -سبحانه وتعالى- نبيه -صلى الله عليه وسلم- ليهيئه لحمل أعظم رسالة: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا)[المزمل: 1 - 5].
فخزائن ربكم ملأى -يا عباد الله- لا تغيضها نفقة، ويده سحاء الليل والنهار، فإنه لا غنى بكم عنه طرفة عين في أي لحظة من اللحظات، فليست حاجتكم إليه في رمضان فقط.
فما بال أقوام يقبلون في رمضان على الطاعة، فإذا انسلخ تنكروا وتغيرت أحوالهم؟
لقد كانت تمتلئ المساجد بهؤلاء في الصلوات الخمس، وعندما انسلخ رمضان اختفوا وانمحت آثارهم إلى المساجد، وقبعوا في بيوتهم، كأنهم استغنوا عن الله، أو كأن الواجبات سقطت عنهم.
نعوذ بالله من الضلال بعد الهدى، ومن العمى بعد البصيرة.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ)[محمد: 33].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما قلت، فإن كان صواباً فمن الله وحده، وإن كان غير ذلك فمن نفسي ومن الشيطان، والله ورسوله منه بريئان، وأستغفر الله إنه كان غفاراً ...
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه ...
أما بعد:
أيها المسلمون: ها هنا نقطة قد نغفل عنها، وهو أننا عندما نطالب بالاستمرار في الأعمال الصالحة بعد رمضان، فإنه لا يلزم، ولا يمكن أصلاً أن يكون الناس في مستواهم التعبدي في شوال بنفس المستوى الذي كانوا عليه في رمضان، والذي يطالب بهذا، فهو يطالب بالمستحيل، فشهر رمضان شهر مميز، وله خصوصيات، ومن خصوصياته: الإكثار من التعبد فوق المستوى العادي للفرد طوال السنة، لكن الذي نطالب به هو عدم النزول عن المستوى الأدنى الذي يلحق الإنسان بالتقصير، وربما الإثم والوزر.
فالمستوى الأدنى الذي نطالب به هو: المحافظة على الصلوات الخمس في المساجد.
والمستوى الأدنى الذي نطالب به، هو: إن لا تعص الله في شوال.
فلنتق الله -أيها الإخوة- ولننظر ماذا خرجنا به؟ وماذا نحن عليه؟
فمن وجد خيراً فليحمد الله وليزدد من الخير، ومن وجد غير ذلك فليتذكر أن الموت آتٍ في أيّة لحظة قد لا يسبقها مقدمات، لا يلزم من الموت مقدمات كمرض أو نحوه، فآلاف الناس قد ماتوا بدون مقدمات، فنحن نعيش في زمن موت الفجأة، وجهنم آتية، قال الله -تعالى- عنها فيما تستقبل به أهلها: (إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا * وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا * لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا * قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاء وَمَصِيرًا * لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاؤُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْؤُولًا)[الفرقان: 12 - 16].
أيها المسلمون: أوصيكم بصيام ستة أيام من شوال؛ فعن أبي أيوب الأنصاري -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر"[رواه مسلم].
وفي معاودة الصيام بعد رمضان فوائد عديدة:
منها: أن صيام ستة أيام من شوال بعد رمضان يستكمل بها أجر صيام الدهر كله، كما سبق الحديث.
ومنها: أن صيام شوال وشعبان كصلاة السنن الرواتب قبل المفروضة وبعدها، فيكمل بذلك ما حصل في الفرض من خلل ونقص.
ومنها: أن معاودة الصيام بعد صيام رمضان علامة على قبول صوم رمضان، فإن الله إذا تقبل عمل عبد وفقه لعمل صالح بعده.
ومنها: أن صيام رمضان يوجب مغفرة الذنوب، والصائمون يوفون أجورهم يوم الفطر، فتكون معاودة الصيام بعد الفطر شكراً لهذه النعمة.
اللهم ...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم