حال الناس بعد رمضان (2)

ناصر بن محمد الأحمد

2015-03-22 - 1436/06/02
عناصر الخطبة
1/تنافس الناس في رمضان في الأعمال الصالحة 2/سروعة مرور أيام رمضان 3/فضل الحسنة بعد الحسنة وقبح السيئة بعد الحسنة 4/عدم انتفاع أصحاب العبادات الموسمية يوم القيامة 5/خطر العودة إلى المعاصي بعد رمضان 6/الحث على الأعمال الصالحة بعد رمضان وبعض العبادات المشروعة بعد رمضان

اقتباس

أيها المسلمون: إن فضل الله علينا متواصل، ومواسم المغفرة لا تزال متتالية لمن وفقه الله لاغتنامها، فإنه لما انقضى شهر رمضان دخلت أشهر الحج إلى بيت الله الحرام، فكما أن من صام رمضان وقامه إيماناً واحتساباً، غفر له ما تقدم من ذنبه؛ فكذلك من...

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله -تعالى- من شرور أنفسنا ...

 

أما بعد:

 

لقد كان شهر رمضان المعظم ميداناً لتنافس الصالحين بأعمالهم، ومجالاً لتسابق المحسنين بإحسانهم، كم تهذبت نفوسنا -ولله الحمد- في تلكم الأيام والليالي، لقد تروضنا على الفضيلة، وارتفعنا عن الرذيلة، وأخذنا دروساً ودروساً في سمو النفس، واكتسبنا هدى ورشاداً، وازددنا أخلاقاً وإحساناً، فحمداً لك يا رب على نعمك وأفضالك.

 

عباد الله: كنتم في شهر الخير والبركة تصومون نهاره، وتقومون من ليله، وتتقربون إلى ربكم بأنواع القربات، طمعاً في ثوابه وخوفاً من عقابه، ثم انتهت تلكم الأيام، وكأنها طيف خيال قد قطعتم بها مرحلة من حياتكم لن تعود إليكم، وإنما يبقى لكم ما أودعتموه فيها من خير أو شر، وهكذا كل أيام العمر مراحل تقطعونها يوماً بعد يوم في طريقكم إلى الدار الآخرة، فهي تنقص من أعماركم وتقربكم من آجالكم.

 

عباد الله: تذكروا قبل أيام، يوم استقبلنا شهر رمضان كنا فرحين مسرورين على إدراكه، وهي بلا شك نعمة كبرى، كنا نتبادل التهاني، يهنئ بعضنا بعضاً، وبالأمس ودعناه بالعيد، ودعه الصالحون أمثالكم بعبرات حشرجت بها الصدور، ودمعات أسالتها لوعة الفراق أو خوف عدم القبول، والفطن منا يتساءل: من سيستقبله منّا بعد؟ من الذي خرج كيوم ولدته أمه؟ من الذي سيضمه القبر منا وسيشنع له مواطن الركوع والسجود؟.

 

تذكرت أياماً مضت وليالياً خلت ***  فجرت من ذكرهن دموع

ألا هل لها يوماً من الدهر عودة *** وهل لبدور قد أفلن طلوع

 

عباد الله: ما أجمل الطاعة إذا أتبعت بطاعة، ما أجمل الحسنة تتبعها حسنة بعدها، ما أحسن الإحسان يتلوه الإحسان، والمعروف يتلوه المعروف، والخير يتلوه الخير، قال تعالى: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ)[محمد: 17].

 

وقال: (وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَّرَدًّا)[مريم: 76].

 

وقال: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ)[يونس: 9].

 

قال العلماء: إن من علامة قبول الحسنة: إن تتلى بشكر صادق على التوفيق لها، وبعمل صالح مماثل لها.

 

فيا إخوتي في الله: الذين أكرمكم الله بأنواع الطاعات، وتقربتم إلى الله في أيام رمضان ولياليه بأنواع القربات، محلقة بذلك نفوسكم مع عالم السماء الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون، صياماً وصلاةً، وتلاوةً وبراً، وصلةً وإحساناً، واستغفاراً وذكراً، وربما مشاركة في من عنوا بقول الله -سبحانه-: (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)[الحـج: 26].

 

واصلوا سيركم إلى الله، تعاهدوا زرعكم.

 

فمن زرع الحبوب وما سقاها *** تأوه نادماً يوم الحصاد

 

حافظوا على ما وفقتم له من طاعة الله، والتأهل به للفوز بمرضاة الله، وحسن الوفادة عليه، يوم أن تغادروا عالم هذه الحياة إلى عالم الأموات، وذلك بلزوم طاعته، والبعد كل البعد عن الاغترار بالعمل، أو رؤية استكثاره.

 

فما هذا نهج عباد الرحمن الراجين الفوز برضا الله، وحسن الوفادة عليه، بل نهجهم في قول الله -سبحانه-: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ)[البقرة: 218].

 

وقوله: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ)[المؤمنون: 60 - 61].

 

أيها الإخوة المؤمنون: لئن كان فعل السيئة قبيحاً، فإنه يعظم قبحه، وتشتد شناعته، وبشاعته، إذا جاء بعد فعل الحسنة، فلئن كانت الحسنات يذهبن السيئات، فإن السيئات قد يبطلن صالح الأعمال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى)[البقرة: 264].

 

فحذاري -أيها الإخوة- حذاري يا من سمت نفوسهم في رمضان إلى درجات الصالحين، ونعمت بلذة المناجاة والانضمام في سلك الطائعين: أن تهدموا ما بنيتم، وتبددوا ما جمعتم.

 

حذاري حذاري تصدوا قلوباً ونفوساً خلصت لله، ونقيت وصفيت من لوثة العصيان بإعادتها، فما أقبح النكوص على الأعقاب والالتفات عن الله، بعد إن أقبلت عليه تائباً من ذنبك، راغباً في رحمته، خائفاً من نقمته.

 

حذاري بعد أن كنت في عداد الطائعين، وحزب الرحمن، وأُهّلت للباس العفو والغفران: أن تخلعه بالمعصية فتكون من حزب الشيطان، قال تعالى -والعبرة بعموم الألفاظ-: (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا)[النحل: 92].

 

وقال في المرابين: (فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)[البقرة: 275].

 

قيل لبشر الحافي: إن قوماً يتعبدون في رمضان فإذا انسلخ تركوا، قال: بئس القوم لا يعرفون الله إلا في رمضان.

 

وقال الحسن: لا يكون لعمل المؤمن أجل دون الموت، وقرأ: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)[الحجر: 99].

 

وقال عليه الصلاة والسلام: "أحب الأعمال إلى الله أدومه وإن قل"[رواه مسلم].

 

وقال جل من قائل: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)[الأحقاف: 13].

 

إن أصحاب العبادات الموسمية هؤلاء لا تنفعهم يوم القيامة، والذي كان يعبد رمضان يجب عليه أن يعلم بأن رمضان شهر لا ينفع ولا يضر، ثم إذا عبدت الله في رمضان، ثم عدت كما كنت في شوال ومت في شوال، فماذا ينفعك رمضان، فالعبرة بالخواتيم.

 

لقد كنا نؤمِّن مع الإمام في صلاة الوتر: "اللهم اجعل خير أعمارنا أواخرها، وخير أعمالنا خواتمها" هل كنا نعي ما نؤمِّن عليه؟

 

لو كنا نعي حقيقة لحرصنا على خير الأعمار، وخير الأعمال بعد رمضان.

 

أيها المسلمون: كم هو محزن أن يوفق أناس لعمل الطاعات، والتزود في فرص الخيرات، حتى ما إذا انتهى الموسم نقضوا ما أبرموا، وعلى أعقابهم نكصوا، واستدبروا الطاعات بالمعاصي، واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، تلك هي النكسة المردية، والخسارة الفادحة.

 

أين دروس الصلاح والطهر والاستقامة والتقى من شهر رمضان؟! هل رأيتم أعظم مقتاً من الكسل بعد الجد؟ والتواني بعد العزم؟

 

ولكن أشد منه، من تنكب السبيل، فعاد إلى حماة الصبوات والهفوات، ومقارفة الآثام بعد إذ نجاه الله منها.

 

ألا فاتقوا الله -عباد الله- وأروه من أنفسكم خيراً، فمن كان مجداً فليزدد، ومن كان مقصراً فليرجع، من غلبه هوى أو تشاغل بلهوٍ أيام العيد، فليبادر بالتوبة النصوح، وليعظم رجاؤه بربه، فأبواب التوبة مفتوحة، ومولاه يناديه: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)[الزمر: 53].

 

أيها المسلمون: ثم هاهنا نقطة قد نغفل عنها، وهو أننا عندما نطالب بالاستمرار في الأعمال الصالحة بعد رمضان، فإنه لا يلزم ولا يمكن أصلاً أن يكون الناس في مستواهم التعبدي في شوال بنفس المستوى الذي كانوا عليه في رمضان، والذي يطالب بهذا فهو يطالب بالمستحيل، فشهر رمضان شهر مميز وله خصوصيات، ومن خصوصياته: الإكثار من التعبد فوق المستوى العادي للفرد طوال السنة.

 

لكن الذي نطالب به هو عدم النزول عن المستوى الأدنى الذي يلحق الإنسان بالتقصير، وربما الإثم والوزر، فالمستوى الأدنى الذي نطالب به هو المحافظة على الصلوات الخمس في المساجد، والمستوى الأدنى الذي نطالب به هو أن لا تعص الله في شوال.

 

فلنتق الله -أيها الإخوة- ولننظر ماذا خرجنا به؟ وماذا نحن عليه؟ فمن وجد خيراً فليحمد الله وليزدد من الخير، ومن وجد غير ذلك، فليتذكر أن الموت آتٍ في أيّة لحظة قد لا يسبقها مقدمات، لا يلزم من الموت مقدمات كمرض أو نحوه، فآلاف الناس قد ماتوا بدون مقدمات، فنحن نعيش في زمن موت الفجأة، وجهنم آتية، قال الله -تعالى- عنها فيما تستقبل به أهلها: (إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا * وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا * لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا * قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاء وَمَصِيرًا * لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاؤُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْؤُولًا)[الفرقان: 12 - 16].

 

نفعني الله وإياكم بهدي كتابه ...

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم ...

 

أما بعد:

 

فاتقوا الله -عباد الله- واعلموا أن مقابلة نعمة التوفيق لصيام شهر رمضان بارتكاب المعاصي بعد خروجك من تبديل نعمة الله كفراً.

 

فمن عزم على معاودة المعاصي بعد رمضان فصيامه عليه مردود، وباب الرحمة في وجهه مسدود.

 

أيها المسلمون: إن فضل الله علينا متواصل، ومواسم المغفرة لا تزال متتالية لمن وفقه الله لاغتنامها، فإنه لما انقضى شهر رمضان دخلت أشهر الحج إلى بيت الله الحرام، فكما أن من صام رمضان وقامه إيماناً واحتساباً، غفر له ما تقدم من ذنبه؛ فكذلك من حج البيت، ولم يرفث ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه.

 

فاعزموا النية على حج بيته من الآن، وتابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد.

 

أيها المسلمون: ألزموا أنفسكم المسلك القويم الذي سلكتموه في رمضان، من اجتناب المعاصي، والإكثار من أعمال البر، ومتابعة الإحسان بالإحسان، وإن من متابعة الإحسان: صيام ستة أيام من شوال، ندبكم إليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "من صام رمضان، وأتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر كله"[رواه مسلم].

 

إنني أوصي نفسي وأوصي إخواني: بصيام هذه الست، فإن صيامها مع رمضان يعادل صيام العام كله.

 

اللهم اهدنا لصالح الأعمال لا يهدي لصالحها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنها سيئها إلا أنت ...

 

 

المرفقات

الناس بعد رمضان (2)

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات