حال المسلمين بين الأمس واليوم

إسماعيل الحاج أمين نواهضة

2023-08-25 - 1445/02/09 2023-08-31 - 1445/02/15
عناصر الخطبة
1/عبر وعظات من حال المسلمين بين الماضي والحاضر 2/عوامل النصر والتمكين 3/صور من الضعف والهزيمة لمسلمي اليوم 4/تكالب أعداء الأمة عليها وواجب المسلمين تجاه ذلك

اقتباس

إن الواجب على الأُمَّة أن تَعلَم أنَّ ما أصابَها من هذه المصائب والبلايا فإنما هو بسبب تقصيرها في جنب الله، وتفريطها في الحكم بشريعته، وعدم تصدِّيها لرياح الإفساد، ومسيرة التغريب، التي نَخَرَتْ في شبابها، وفتياتها وأُسَرِها...

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله، أحمده -سبحانه-، أن هدانا للإسلام، وأشكره على ما حبانا به من الفضل والإنعام؛ (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا)[الْإِسْرَاءِ: 111].

 

وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ، وحدَه لا شريكَ له، -تعالى- عمَّا يقول الظالمون والجاهلون علوا كبيرًا، -سبحانه- خاطب المؤمنين بفضله؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ)[مُحَمَّدٍ: 7-8].

 

الحمد لله الذي جعلَنا من المرابطين في بَيْت الْمَقدسِ وأكنافه، الذي هو آية كريمة في كتاب الله -تعالى-، ولؤلؤة من لآلئ السنة الشريفة، فأصبح جزءًا من عقيدتنا، وموئلًا للقداسة والتكريم، وذلك شرف لا يدانيه شرف، ومكانة لا تدانيها مكانة، القدس درة الدر، ومدينة المدائن، ما حانت لمحتل ذميم، وما طأطأت رأسها لمستعمر حاقد، وهي أمانة في أعناق المؤمنين، في مشارق الأرض ومغاربها، تحوطها القداسةُ من أطرافها، وتُزيِّنها بركةُ السماء مع أكنافها، تاج عزها ومجدها المسجد الأقصى المبارَك، بكل معالمه ومساحاته، ما عزَّها أحدٌ إلا عزَّ، وما فرَّط فيها كائنٌ مَنْ كان إلا ذلَّ وخَسِرَ؛ فهنيئًا لأهل القدس ومن يسكن حولهم وبجوارهم، بهذا الفضل وهذا التكريم، فاغتنِموا هذا العطاء، ورابِطوا واحتسِبوا، حتى يكشف الله عَنَّا وعنكم وعن أمتنا هذا الغم وهذا الظلم.

 

وأشهد أنَّ محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، أرسله بين يدي الساعة، بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، فصلوات الله وسلامه عليك يا سيدي يا رسول الله، وعلى آلك وأصحابك هداة الأنام، ومصابيح الظلام، ومن اقتفى أثرهم، وترسم خطاهم إلى يوم الدين.

 

أمَّا بعدُ، أيها المؤمنون: سؤال يطرح نفسه على دوحة الأفق مفاده: كيف كنا بالأمس؟ وكيف أصبحنا اليوم؟ أقول وبالله التوفيق: حينما انتصر المسلمون على الروم في وقعة اليرموك المشهورة، وقف ملك الروم يسأل فلول جيشه المنهزم، والمرارة تعصر قلبه، والغيظ يملأ صدره: أخبروني عن هؤلاء الذين يقاتلونكم! أليسوا بشرًا مثلكم؟! قالوا: بلى أيها الملك، قال: فأنتم أكثر أم هم؟ قالوا: بل نحن أكثر منهم في كل موطن. قال: فما بالكم إذن تنهزمون؟! فأجابه عظيم من عظماء قومه: إنهم يهزموننا لأنهم يقومون الليل، ويصومون النهار، ويوفون بالعهد، ويتناصحون بينهم.

 

أيها المؤمنون: حقًّا إن تلكم السجايا العظيمة والخصال الكريمة، كانت وراء ذلك العز والمجد التليد، التي رسمت ملاحم النصر الباهرة، وأقامت حضارة الإسلام العالميَّة، وانتقلت بأسلافنا تلك النقلة الكبيرة، من أخلاق الجاهليَّة الفاسدة، إلى منازل (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)[الْفَاتِحَةِ: 5]، حيث الأرواح المتطلعة إلى السماء، والنفوس السابحة في العلياء، ولكن وما فتئ الزمان يدور حتى مضى بالمجد قوم آخرون.

 

نعم؛ لقد دارت الأيام فتغيَّر الحالُ، وهَوَتِ الأمةُ من العلياء، لتستقرَّ في الحضيض، ومع الأسف لقد أصبح المسلمون اليومَ -مع كثرتهم- غثاء كغثاء السيل كما جاء في الحديث المشهور، وأصبح زمام القافلة بيد أعدائهم، الذين تسلَّطوا على بلادهم، وثرواتهم وأبنائهم، والأملُ بالله كبيرٌ، في عودة أمتنا إلى سابق عهدها وما ذلك على الله بعزيز.

 

يا مسلمون: إن الناظر في حال أمتنا العربيَّة والإسلاميَّة يدرك تمامًا ما هي عليه من الضَّعْف والتخلُّف، فالعرب والمسلمون هذه الأيام أكثر أهل الأرض ضِيقًا في العيش، وأشدهم مكابدةً للحياة، وأكثرهم تعرُّضًا للحروب المدمرة الظالمة، كما هو الحال في كثير من بلادنا، والكثير من الدول، التي تئن تحت المأساة وآلام المعاناة، ولوعات الثكالى، وآهات اليتامى، وصرخات الأطفال، وصيحات التعذيب والحصار، ويصبحون ويمسون على صفوف الأكناف المرعبة، والجثث المتحللة التي تملأ الشوارع، والجنائز المتوالية، والمؤسَّسات والبيوت المهدمة، والمساجد المنتهكة حرماتها، إلى غير ذلك مما هو مشاهد لدى القاصي والداني.

 

يا مسلمون: وإذا كان هذا ما يصنعه أعداؤنا فينا، فإن ما يصنعه بعض أبناء جِلْدَتِنَا أعظم وأشد وأنكى، فاللهمَّ لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

 

من الواجب على كل غيور على هذه الأمة أن يشخص الداء، قبل أن يصف الدواء، وأن يكشف عن الأسباب التي أوصلتها إلى هذا الحال.

 

يا مؤمنون: إن الواجب على الأمة أن تعلم أن ما أصابها من هذه المصائب والبلايا فإنما هو بسبب تقصيرها في جنب الله، وتفريطها في الحكم بشريعته، وعدم تصدِّيها لرياح الإفساد، ومسيرة التغريب، التي نَخَرَتْ في شبابها، وفتياتها وأُسَرِها.

 

إن أعداء الأمة لا يألون جهدًا في تطويع العالَم الإسلاميّ في اتباع الحياة الغربيَّة من تقاليد وعادات، يساندهم في ذلك فساق مستغربون، ومنافقون علمانيون، وسيداويون، تارة بتأويل نصوص الكتاب والسُّنَّة، وتارة بالنيل من العلماء والدعاة، وتارة بالنيل من مناهجنا التدريسيَّة، ومن أبنائنا، وتارة بالدعوة إلى الاختلاط المحرم، وتحرير المرأة، حسب زعمهم، يلبسون ثياب الإصلاح، على قلوب عشعش فيها النفاق والفساد، قال تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ)[الْبَقَرَةِ: 11-12].

 

إن أعداء الأمة لم يتقدموا عليها إلا بتأخرها، ولم يتسلطوا عليها إلا بتخاذلها، وتخليها عن استئناف الحياة الإسلاميَّة من جديد، ووالله لا يمكن الله للمسلمين في الأرض، ولا ينصرهم على أعدائهم حتى يصلحوا من حالهم، ويرجعوا إلى دينهم وعقيدتهم، قال الله -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ)[الرَّعْدِ: 11]، جاء في الحديث الشريف، عن أبي أمامة قال: قال روسل الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم، إلا ما أصابهم من لأواء، حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك، وفي رواية: قالوا: وأين هم يا رسول الله؟ قال: ببيت المقدس وأكناف بَيْت الْمَقدسِ" أو كما قال: التائب من الذنب كمن لا ذنب له، ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله الذي تفرَّد بالعز والجلال، وتوحَّد بالكبرياء والجَمال، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمد عبد الله ورسوله، وصفيُّه من خلقه، الذي أيَّده بالمعجزات الظاهرة، والآيات الباهرة، وزيَّنه بأشرف الخصال، فصلوات الله وسلامه عليك يا سيدي يا رسول الله، ومَنْ سار على نهجكَ، وتمسَّكَ بسُنَّتِكَ، واقتدى بهديكَ.

 

أمَّا بعدُ، أيها المسلمون: ما أشبَهَ اليومَ بالبارحة، وكأنَّ التاريخَ يُعِيد نفسَه، وأعداء الإسلام اليوم هم أعداؤه بالأمس، فقد عادوا من جديد، في محاولة لإطفاء نور الله، والقضاء على الإسلام، بتشويه صورته المشرقة، وبنسج الأكاذيب والأباطيل من حوله، وبالنيل من تعاليمه وشرائعه السمحة، وكتابه وفرقانه الذي (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)[فُصِّلَتْ: 42].

 

يا مؤمنون: إن سلفنا الصالح حينما حققوا شرائط آيات النصر الواردة في القرآن الكريم، تحقق لهم مضمونها وما وعدوا فيها، فنصرهم الله، وثبت أقدامهم، ومكن لهم، واستخلفهم في الأرض، وأبدلهم من بعد خوفهم أمنا، كانوا لا يرهبون الأعداء، ولا يخافون من قواهم الماديَّة، يقابلون عددهم بالشجاعة، وعددهم بالإيمان الخالص، والثقة بنصر الله، والإعداد لهم؛ حينئذ تتهاوى أمام ذلك كله كل الأرقام والحسابات والمعادلات البشريَّة.

 

أيها المرابطون: لقد أحبَّ المسلمون القدسَ، وسكنَتْ سويداءَ قلوبهم؛ لأنَّها قِبلتَهم الأُولى، ومسرى نبيهم -صلى الله عليه وسلم-، فأوت إليها أفئدتهم وأرواحهم، وشدوا إليها الرحال من كل فج عميق؛ فالبدء كان الإسراء، ثم الفاتحون على يد عمر الفاروق، وأبي عبيدة بن الجراح، والكثير من الصحابة الأجِلَّاء، وسعى إليها الأدباء والفقهاء، مُعلِّمينَ ومتعلمين، وقد برزت القدس في أوصافهم الأدبيَّة وأشعارهم.

 

فاللهمَّ يا مُنزِلَ الشفاء، ورافعَ البلاء، ومجيبَ الدعاء، ارفع عَنَّا البلاء والوباء والشدائد والحصار، وانصرنا على أعدائنا، واحفظ بلادنا، وأهلنا في كل مكان، من كل مكروه وسوء، واجعل مدينة القدس مدينة أمن وسلام، آمِنْ أهلَها في بيوتهم، واجعَلْهم من المرابطين الصادقين، وأَنزِلْ عليهم السكينةَ والطمأنينةَ، واحفظ المسجد الأقصى من كل سوء، وأَبعِدْ عنه كيدَ المعتدينَ، ودنَسَ المدنسينَ، واجعل أفئدةً من الناس تهوي إليه؛ ليبقى عامرًا بالركع السجود.

 

اللهُمَّ ارحم شهداءنا في كل مكان، وأسكنهم فسيح جناتك، واحشرهم مع النبيين والصديقين والشهداء، وحسن أولئك رفيقًا، واشف جرحانا، ومصابينا ومرضانا، وفُكَّ قَيدَ أَسرَانا، ومعتقلينا، واحفظهم بعنايتك وقدرتك وإحسانك، وأعدهم إلى ذويهم سالمين غانمين.

 

اللهُمَّ احقن دماء إخواننا المسلمين في كل مكان، اللهُمَّ اغفر للمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات.

 

عبادَ اللهِ: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النَّحْلِ: 90]، اذكروا الله يذكركم، واستغفروه يغفر لكم، واسألوه يعطكم، واشكروه يزدكم، وأَقِمِ الصلاةَ.

المرفقات

حال المسلمين بين الأمس واليوم.doc

حال المسلمين بين الأمس واليوم.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات