ثمار العمل الصالح

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطرِ السماواتِ، وبارئِ النَّسَمَاتِ، تَفَضَّلَ على عِبَادِهِ بِجَزِيلِ الْهِبَاتِ وشَرَعَ لَهْمِ أَنْوَاعَ الطَّاعَاتِ، أَحْمَدُهُ -سبحانَه- جعلَ الجنَّةَ للمؤمنينَ نُزُلاً، خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَ حِوَلاً.

 

وَأَشْهَدُ ألّا إِلَهَ إِلّا اللهُ، وحدهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنّ محمدًا عبدهُ ورسولُه، شَرَحَ اللهُ لهُ صَدْرَهُ، وَوَضَعَ عَنْهُ وِزْرَهُ، وَرَفَعَ لَهُ ذِكْرَهُ، صَلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وصحبِهِ وسَلَّمَ تَسْلِيمًا كثيرًا.

 

أمّا بعدُ: فاتّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً  وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1].

 

عِبَادَ اللهِ: الأعمالُ الصَّالِحَةُ في حياة العبدِ هي نبتَةٌ يَجنِي ثمارَها في الدُّنْيَا قبل الآخِرَةِ، وكُنُوزٌ ينتفعُ بِهَا في العاجِلِ، وَيَدَّخِرُ أَجْرَهَا في الآجِلِ، قالَ -تعالى-: (مَن كَانَ يُرِيدُ العِزَّةَ فَلِلَّهِ العِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيهِ يَصعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالعَمَلُ الصَّالِحُ يَرفَعُهُ)[فاطر: 10]. والعملُ الصَّالِحُ  اسمٌ عامٌّ لكلِّ مَا يُحِبُّهُ اللهُ -عزّ وجلّ- ويرضاهُ مِنَ الأقوالِ والأعمالِ بأداءِ الفرائِضِ، والتَّقَرُّبِ إلى اللهِ بالنَّوَافِلِ والإحْسَانِ إلى الخلائِقِ.

 

أيُّهَا المؤمنونَ: وليْسَ المُعَوَّلُ عليه في الحياة هو المالُ أو الجاهُ، وأنَّ الإنسانَ يَحْيَا كريمًا بقَدْرِ مَا يَمْلِكُ منهُمَا -فهذا فهمٌ خاطئٌ-، بل المعوّلُ عليه كَمْ نصيبُ المرءِ منَ العملِ الصَّالِحِ الذي بهِ يَحْيَا الحياةَ الطَّيِّبَةَ التي أرادَهَا لَهُ خَالِقُهُ سبْحَانَهُ، قالَ -تعالى-: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً)[النحل: 97].

 

عبادَ اللهِ: وَمِنْ ثِمَارِ العملِ الصَّالِحِ مَا يأتِي:

أولاً: أنّه سببٌ من أسبابِ الصَّلَاحِ، قالَ -تعالى-: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدخِلَنَّهُم فِي الصَّالِحِينَ)[العنكبوت: 9]؛ فإذا أَدْخَلَ اللهُ العبدَ في الصَّالِحِينَ تَوَلَّاهُ، قالَ -تعالى-: (إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ)[الأعراف: 196]، وإذا كان العبدُ في ولايةِ اللهِ -عزَّ وجلَّ-، فماذَا فَقَدَ مِنَ الدُّنْيَا، وماذَا يضِيرُهُ إذا أقبلتْ أو أدْبَرَتْ؟!

 

ثانيًا: ومِنْ ثمارِ العملِ الصَّالِحِ أَنَّهُ يُورِثُ الوُدَّ في قلوبِ الخلقِ، قال -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا)[مريم: 96]، فمَا أَقْبَلَ عَبْدٌ على اللهِ -عزَّ وجلَّ- بالعملِ الصَّالِحِ إلا أقْبَلَتْ عليهِ قلوبُ العبادِ.

 

ثالثًا: ومِنْ ثِمَارِ العملِ الصَّالِحِ أنَّهُ سببٌ في حفظِ الأهلِ والمالِ والولدِ، وَهَبْ أنَّكَ سألتَ أحدَهُم سؤالًا: مَاذا تَرَكْتَ لأبنائِكَ بعد موتِكَ؟ سيذكرُ ما جَنَاهُ طِيلةَ عُمرِهِ مِنَ المالِ، والدُّورِ، والمتاعِ، وسيغْفَلُ عن العملِ الصَّالِحِ الذي يكونُ رَصِيدًا لهُ ولذُرِّيَّتِهِ في الدُّنْيَا قبلَ الآخِرَةِ.

 

رابعًا: ومِنْ ثمارِ العملِ الصَّالِحِ أنَّهُ سببٌ للنَّصْرِ والرِّزْقِ، قال -صلى الله عليه وسلم- "ابْغُونِي الضُّعفاءَ، فإنّما تُرزَقونَ وتُنصَرونَ بضُعفائِكُم"(أخرجه أبو داود 2594، وصححه الألباني). فجعلَ الإحسانَ إلى الفقراءِ، والضُّعَفَاءِ، وأصْحَابِ الحَاجَةِ، وَرِعَايَتَهِمْ، والقيامَ بحقِّهِمْ، مُوجِبًا لِنَصْرِ اللهِ -عزَّ وجلَّ-، ومَدْعَاةً للرِّزْقِ، وبابًا مِنْ أَبْوَابِ الخيرِ.

 

أعوذُ باللهِ من الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا)[النساء: 9].

 

باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعني وإيَّاكم بما فيهِ من الآياتِ والعظاتِ والذكْرِ الحكيمِ، فاستغفروا اللهَ إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمدُ للهِ على إحسانِهِ، والشكرُ له على توفيقِهِ وامتنانِهِ، وأشهدُ ألا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ، تعظيمًا لشأْنِهِ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، الداعي إلى رضوانِهِ، صلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وصحبِهِ وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا.

 

أمَّا بعدُ: فاتقوا اللهَ عبادَ اللهِ، واعلمُوا أنّ من أهمِّ ثمارِ العملِ الصَّالِحِ في الدُّنْيَا أَنَّهُ سببٌ لِستْرِ اللهِ -عزَّ وجلَّ-، ومنجاةٌ للعبدِ في الشدائِدِ، ورصيدُهُ من رحمةِ اللهِ -عزَّ وجلَّ- وعنايتِهِ وحفظِهِ، فكلُّنَا مستورونَ بسترِ اللهِ، محفوظونَ بِحِفْظِهِ، مُحَاطُونَ بسياجٍ من العملِ الصَّالِحِ، يَصْرِفُ اللهُ عنَّا بِهِ مِنَ الشَّرِّ بقدرِ متانةِ هذا السياجِ وقُوَّتِهِ.

 

فمن استقلَّ سيارتَهُ يقصِدُ مكانًا مَا، قريبًا أو بعيدًا، كم من المخاطرِ يواجهها في سفرِهِ؟ فإذا وَصَلَ سليمًا معافًى، فَلْيُدْرِكْ أنَّ هذا سَتْرٌ مِنَ اللهِ -عزَّ وجلَّ- عليهِ، فإذا نفدَ رصيدُهُ من السّترِ، لَنْ تنفعَه براعتُه في القيادةِ، ولَنْ تنجيَه سيارتُه الحديثةُ مَا دامَ نَفَدَ رَصِيدُهُ من سترِ اللهِ عزّ وجلّ عليه.

 

ونصيبُ العبدِ من السَّترِ يُشْبهُ رصيدَه من المالِ، متى احتاجَ إليه في ضائقةٍ وَجَدَه، ورصيدُه من المالِ يُمكِنُهُ معرفتِه متى شاءَ، ولا يَستطيعُ معرفةَ كَمْ بقِيَ مِن رصيدِهِ مِنَ السَّتْرِ إلا بعدَ نَفَادِهِ، لكن يمكنُه زيادتُه باستمرارٍ كَيْ لا يَنْتَهِي، بالإكثارِ مِنَ العملِ الصّالِحِ، والإحسانِ إلى الغيرِ، ومراقبةِ اللهِ -عزَّ وجلَّ- في السِّرِّ والعَلَنِ، وإصلاحِ السَّرَائِرِ، وصِلَةِ الأرحامِ، وغيرِ ذلكَ مما يكونُ سِترًا له في الدنيا قبلَ الآخِرَةِ.

 

أيُّهَا المؤْمِنُونَ: بِرُّوا أبْنَاءَكُمْ بِصلاحِكُم، واسْتَكْثِرُوا من الأعمالِ الصَّالِحَةِ فَهِيَ ذُخْرٌ لكُمْ ولذُرِّيَّاتِكُمْ، فقد حَفِظَ اللهُ الغُلامَيْنِ بصلاحِ والدِهما، قَالَ -سُبْحَانَهُ-: (وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ)[الكهف:82]. واللهُ -عزَّ وجلَّ- يَحْفَظُ عبدَهُ المؤمنَ في نفسِهِ وعقبِهِ وعقبِ عقبهِ، وفي الدُّوَيْرَاتِ حولَه. كَان سعيدُ بنُ المسيبِ يقولُ لابنِهِ: "لأزيدنَّ في صَلاتِي مِنْ أجْلِكَ، رَجَاءَ أَنْ أُحْفَظَ فِيكَ".

 

أسألُ اللهَ أنْ يَهْدِيَنَا لِصَالِحِ الأعمالِ والأخلاقِ، وأنْ يَصْرِفَ عَنَّا سَيِّئَهَا.

 

اللَّهُمَّ وَفِّقْ وُلاةَ أَمْرِ المسلمينَ لِلْحُكْمِ بكتابِكَ، والعملِ بسنَّةِ نبيِّكَ، اللهم وفِّق خادمَ الحرمينِ الشريفينِ وسموَّ وليِّ عهدِهِ لما فيه الخيرُ والصَّلاحُ واحْفَظْهُمْ من كلِّ سُوءٍ ومكروهٍ، واجْزِهِمْ عمَّا يُقَدِّمُونَ للإسلامِ والمسلمينَ خَيْرَ الْجَزَاءِ.

 

اللهمَّ ارْبِطْ على قلوبِ رجالِ الأمنِ، الذين يُدَافِعُونَ عن الدِّينِ والمقدَّساتِ والأعراضِ والأموالِ واحفظهمْ من بين أيديهمِ ومن خلفهمِ، ونعوذُ بعظمتكَ أنْ يُغْتَالُوا من تَحْتِهِمْ.

 

اللهمَّ ارحَمْ هذا الجمعَ من المؤمنينَ، اللهمَّ استر عوراتِهِمْ، وآمِنْ روعاتِهِمْ وارفَعْ درجاتِهِمْ في الجنَّاتِ، واغفرْ لَهُم ولآبَائِهِمْ وأمَّهَاتِهِم، وأَصْلِحْ نيَّاتِهِمْ وذريَّاتِهِم واجمعنَا وإيَّاهُم ووالدِينَا وأزواجَنا وذريَّاتِنَا ومَنْ لَهُ حقٌّ علينَا في جنَّاتِ النعيمِ.

 

هذا وصلُّوا وسلِّموا على الحبيبِ المصطفى؛ فقد أَمَرَكم اللهُ بذلكَ فقالَ -جلَّ من قائلٍ عليمًا-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)[الأحزاب:56].