عناصر الخطبة
1/ استمرار مسرحية المساهمات 2/ اختلاف العلماء في المساهمات البنكية 3/ الحلال بيِّن والحرام بيِّن 4/ اتقاء الشبهات 5/ حقيقة الورع وفائدته 6/ البر والإثم 7/ ضرورة إصلاح القلباقتباس
غَيرَ أَنَّ هُنَاكَ مَسلَكًا وَاضِحًا وَطَرِيقًا آمِنًا يَرَى كُلُّ مَن خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ ونَصَحَ لِنَفسِهِ ولأُمَّتِهِ أَنَّ مِنَ الخَيرِ وَالأَسلَمِ لِلأُمَّةِ في ظِلِّ هذِهِ المُتَشَابِهَاتِ وَالشُّبُهَاتِ أَنْ تَأخُذَ بِهِ وَتَسلُكَهُ؛ حِفظًا لِدِينِها الذي هو رَأسُ مَالِها وَمُنتَهَى رِبحِها، وَاستِبرَاءً لِعِرضِها وَحِمَايةً لِجَانِبِها، ذَلِكُم هو مَسلَكُ الوَرَعِ وَاتِّقَاءِ الشُّبُهَاتِ حِينَ يَشتَبِهُ الحلالُ بِالحَرَامِ وَيَختَلِطُ الصَّافي بِالكَدَرِ وَلا يُعرَفُ النَّقِيُّ مِنَ الغَشَشِ ..
أيها المسلمون: وَمَا زَالَت مَسرَحِيَّةُ المُسَاهمَاتِ قَائِمَةً على قَدَمٍ وَسَاقٍ، وَمَا زَالَت فُصُولُها تَتَتابَعُ حِينًا بعدَ حِينٍ، ما يَكَادُ السِّتَارُ يُسدَلُ على فَصلٍ منها حتى يُفتَحَ على آخَرَ، وما يَكَادُ المُسَاهمون يَصحُونَ من نَكبَةٍ حتى يَرتَكِسُون في أُخرَى، مُسَاهمَةٌ تِلوَ مُسَاهمَةٍ، واكتِتَابٌ في إِثرِ اكتِتَابٍ، ويَنجَرِفُ فِئامٌ مِنَ النَّاسِ دُونَ تَردُّدٍ أو تخَوُّفٍ، وَيَنزَلِقُ مُتَهَوِّرُونَ دُونَ تَثَبُّتٍ أَو تَأَكُّدٍ، وَتَبقَى فِئَةٌ مَا زَالَ فِيهَا بَقِيَّةٌ مِن دِينٍ وَحَيَاءٍ تَنتَظِرُ فَتَاوَى المَشَايِخِ وَآرَاءَ العُلَمَاءِ؛ لِتَستَنِيرَ بها وَتَستَبِينَ الطَّرِيقَ، فتُفَاجَأُ بِأَنَّها لا تجِدُ رَأيًا مُجمَعًا عَلَيهِ وَلا فَتوَى مُوَحَّدَةً، فَمِن مُجِيزٍ مُشَجِّعٍ، إلى مُحَرِّمٍ مُخَوِّفٍ، إلى مُتَوَقِّفٍ مُتَرَدِّدٍ.
وَيَجتَهِدُ بَعضُ العُلَمَاءِ النَّاصِحِينَ في إصدَارِ قَوَائِمَ بِمَا يُسَمَّى بِالصَّنَادِيقِ النَّقِيَّةِ، يَزِيدُ فِيهَا حِينًا ويَنقُصُ مِنها، ويُضِيفُ إِلَيهَا شَرِكَاتٍ وَيَحذِفُ أُخرَى.
وَايمُ اللهِ، إِنَّ نَظرَةً فِيمَا غَلَبَ عَلَى عَالَمِ الاقتِصَادِ المُعَاصِرِ مِن مُعَامَلاتٍ رِبَوِيَّةٍ صَرِيحَةٍ وَأُخرَى غَامِضَةٍ مَشبُوهَةٍ مُلتَوِيَةٍ، إِضَافَةً إلى تَشَابُكِ المُعَامَلاتِ وَتَشَابُهِهِا وَكَثرَةِ صُوَرِهَا، وما يجِدُّ فِيهَا بَينَ يَومٍ وَآخَرَ، وَمَا يتَّصِفُ به كِبَارُ التُّجَّارِ مِن طَمَعٍ وَجَشَعٍ، وَمَا يَسلُكُونَهُ مِن طُرُقٍ مَاكِرَةٍ وَحِيَلٍ خَادِعَةٍ، أَقُولُ: إِنَّ نَظرَةً مُنصِفَةً في كُلِّ هذا الوَاقِعِ لَتَجعَلُنَا نَلتَمِسُ لِعُلَمَائِنَا العُذرَ في اختِلافِهِم في الفَتوَى وَتَرَدُّدِهِم بَينَ مُجِيزٍ وَمَانِعٍـ وَتَوَقُّفِ مَن تَوَقَّفَ مِنهُم وتَنَصُّلِهِ مِنَ الفَتوَى.
غَيرَ أَنَّ هُنَاكَ مَسلَكًا وَاضِحًا وَطَرِيقًا آمِنًا يَرَى كُلُّ مَن خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ ونَصَحَ لِنَفسِهِ ولأُمَّتِهِ أَنَّ مِنَ الخَيرِ وَالأَسلَمِ لِلأُمَّةِ في ظِلِّ هذِهِ المُتَشَابِهَاتِ وَالشُّبُهَاتِ أَنْ تَأخُذَ بِهِ وَتَسلُكَهُ؛ حِفظًا لِدِينِها الذي هو رَأسُ مَالِها وَمُنتَهَى رِبحِها، وَاستِبرَاءً لِعِرضِها وَحِمَايةً لِجَانِبِها، ذَلِكُم هو مَسلَكُ الوَرَعِ وَاتِّقَاءِ الشُّبُهَاتِ حِينَ يَشتَبِهُ الحلالُ بِالحَرَامِ وَيَختَلِطُ الصَّافي بِالكَدَرِ وَلا يُعرَفُ النَّقِيُّ مِنَ الغَشَشِ، عَنِ النُّعمَانِ بنِ بَشِيرٍ -رضي اللهُ عنهما- قال: سمعتُ رَسولَ اللهِ –صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "إنَّ الحلالَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَينَهُما أُمُورٌ مُشتَبِهَاتٌ لا يَعلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدِ استَبرَأ لِدِينِهِ وعِرضِهِ، وَمَن وَقَعَ في الشُّبُهَاتِ وَقَعَ في الحَرَامِ، كالرَّاعِي يَرعَى حَولَ الحِمَى يُوشِكُ أَن يَرتَعَ فِيهِ، أَلا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمَى، أَلا وَإِنَّ حِمَى اللهِ محارِمُهُ، أَلا وَإِنَّ في الجَسَدِ مُضغَةً إِذَا صَلَحَت صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَت فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلا وَهِيَ القَلبُ".
أيها المسلمون: لَقَد أَنزَلَ اللهُ تعالى على نَبِيِّهِ الكِتَابَ مُحكَمَ البَيَانِ ظَاهِرَ البُرهَانِ، وَبَيَّنَ فِيهِ لِلأُمَّةِ مَا تحتَاجُ إِلَيهِ مِن حَلالٍ وَحَرَامٍ، لِتَكونَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِن أَمرِها وَلا تَضِلَّ السَّبِيلَ، قال تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ)، وقال تعالى في آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ التي بَيَّنَ فِيهَا كَثِيرًا مِن أَحكَامِ الأَموَالِ وَالأَبضَاعِ: (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)، وقال تعالى: (وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالمُعْتَدِينَ)، وقال سُبحانَهُ: (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ).
وَقَد وَكَّلَ -جل وعلا- بَيَانَ مَا أَشكَلَ مِنَ التَّنزِيلِ إِلى الرَّسُولِ –صلى الله عليه وسلم- كما قال تعالى: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)، وَلم يُقبَضْ رَسُولُ اللهِ –صلى الله عليه وسلم- حتى أُكمِلَ لَهُ وَلأُمَّتِهِ الدِّينُ، قال سبحانَه: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا)، وقال –صلى الله عليه وسلم-: "وَايمُ اللهِ، لَقَد تَركتُكُم على مِثلِ البَيضَاءِ لَيلُهَا وَنَهَارُهَا سَوَاءٌ"، وقال أَبُو ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عنه-: "تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ –صلى الله عليه وسلم- وَمَا طَائِرٌ يُحَرِّكُ جَنَاحَيهِ في السَّمَاءِ إِلاَّ وَقَد ذَكَرَ لَنَا مِنهُ عِلمًا".
وَلمَّا شَكَّ نَاسٌ في مَوتِهِ -صلى الله عليه وسلم- قال عَمُّهُ العَبَّاسُ -رضي اللهُ عنه-: وَاللهِ، مَا مَاتَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- حتى تَرَكَ السَّبِيلَ نَهجًا وَاضِحًا، وَأَحَلَّ الحَلالَ وَحَرَّمَ الحَرَامَ، وَنَكَحَ وَطَلَّقَ، وَحَارَبَ وَسَالَمَ.
وفي الجُملَةِ -أيها المسلمون- فَمَا تَرَكَ اللهُ وَرَسُولُهُ حَلالاً إِلاَّ مُبَيَّنًا، وَلا حَرَامًا إِلاَّ مُوَضَّحًا، فَهَدَى اللهُ المُؤمِنِينَ المُتَّقِينَ أَهلَ العِلمِ وَاليَقِينِ، فَأَخَذُوا بِالحَلالِ وَاكتَفَوا بِهِ، وَاجتَنَبُوا الحَرَامَ وَابتَعَدُوا عَنهُ، لَكِنَّهَا بَقِيَتْ أُمُورٌ مُشتَبِهَاتٌ، لا يَجرُؤُ أَحَدٌ عَلَى تَحرِيمِها بِتِلكَ السُّهُولَةِ وَاليُسرِ، وَالقَائِلُ بِحِلِّهَا قَلِيلٌ، وَقَد يَكُونُ مُتَرَدِّدًا، فَكَانَ سَبِيلُ المُؤمِنِ الخَائِفِ عَلَى دِينِهِ الذي يَخشَى الهَلاكَ بِالوُقُوعِ في الحَرَامِ، كان سَبِيلُهُ التَّوَرُّعَ عَنهَا وَاجتِنَابَهَا وَتَركَهَا وَالزُّهدَ فِيهَا، وَقَد كان -صلى الله عليه وسلم- إِمَامًا في ذلك وَقُدوَةً، كَمَا هُو في غَيرِهِ قُدوَةٌ وَإِمَامٌ، عن أنسٍ -رضي اللهُ عنه- أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- وَجَدَ تَمرَةً في الطَّرِيقِ فَقَالَ: "لولا أَني أَخَافُ أَن تَكونَ مِنَ الصَّدَقَةِ لأَكلتُها"، وهو الذي قال -صلى الله عليه وسلم-: "دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلى مَا لا يَرِيبُكَ".
وَهَكَذَا كان أَصحَابُهُ -رُضوَانُ اللهِ عَلَيهِم-، لا يُدخِلُونَ بُطُونَهُم إِلاَّ الحَلالَ النَّقِيَّ، وَهَذَا مِثالٌ لأَعظَمِهِم إِيمَانًا وَأَثقَلِهِم مِيزَانًا، إِنَّهُ أَبُو بَكرٍ الصِّدِيقُ، فَعَن عَائِشَةَ -رضي اللهُ عنها- قَالَت: "كان لأَبي بَكرٍ -رضي اللهُ عنه- غُلامٌ يُخرِجُ لَهُ الخَرَاجَ، فَكَانَ أَبُو بَكرٍ يَأكُلُ مِن خَرَاجِهِ، فَجَاءَ يَومًا بِشَيءٍ فَأَكَلَ مِنهُ أَبُو بَكرٍ، فَقَالَ لَهُ الغُلامُ: تَدرِي مَا هَذَا؟! فَقَالَ أَبُو بَكرٍ: وَمَا هُوَ؟! قَالَ: كُنتُ تَكَهَّنْتُ لإِنسَانٍ في الجَاهِلِيَّةِ وَمَا أُحسِنُ الكَهَانَةَ إِلاَّ أَني خَدَعتُهُ، فَلَقِيَني فَأَعطَاني بِذَلكَ، فَهَذَا الذي أَكَلتَ مِنهُ. قَالَت: فَأَدخَلَ أَبُو بَكرٍ يَدَهُ فَقَاءَ كُلَّ شَيءٍ في بَطنِهِ".
فَرَضِيَ اللهُ عَنهُ مَا أَتقَاهُ وَأَورَعَهُ، رَضِيَ اللهُ عَنهُ مَا أَحرَصَهُ عَلَى أَكلِ الحَلالِ وَالبُعدِ عَنِ الحَرَامِ!! لم يَقُلْ: هَذَا مَالٌ عَلَى الغُلامِ غُرمُهُ وَلي غُنمُهُ، لم يَقُلْ: عَلَيهِ كَدَرَهُ وَلي صَافِيهِ، بَل أَدخَلَ يَدَهُ وَقَاءَ مَا في جَوفِهِ، فَأَينَ مِنهُ مَن يَأتي الشُّبُهَاتِ مَعَ اشتِبَاهِهَا عَلَيهِ؟! أَينَ مِنهُ مَن يُسَاهِمُ في شَرِكَاتٍ وَصَنَادِيقَ وَهُوَ يَعلَمُ أَنَّ فِيهَا نِسبَةً مِنَ الرِّبَا وَالمُعَامَلاتِ المُحَرَّمَةِ، وَكُلُّ حُجَّتِهِ أَنَّهَا نِسبَةٌ ضَئِيلَةٌ لا تَكَادُ تُذكَرُ، وَأَنَّهُ سَوفَ يَتَخَلَّصُ مِنهَا بَعدَ انتِهَاءِ المُسَاهَمَةِ؟! لَقَد أَخبَرَ –صلى الله عليه وسلم- أَنَّ مَن وَقَعَ في الشُّبُهَاتِ فَقَد وَقَعَ في الحَرَامِ، فَأَينَ تَذهَبُونَ؟! أَينَ تَذهَبُونَ أَيُّها المُتَسَاهِلُونَ؟! وَلَقَد فَسَّرَ العُلَمَاءَ ذَلِكَ بِمَعنَيَينِ: أَحدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ارتِكَابُهُ لِلشُّبهَةِ مَعَ اعتِقَادِهِ أَنَّهَا شُبهَةٌ ذَرِيعَةً إِلى ارتِكَابِهِ الحَرَامَ الذي يَعتَقِدُ أَنَّهُ حَرَامٌ بِالتَّدْرِيجِ وَالتَّسَامُحِ، وَالثَّاني: أَنَّ مَن أَقدَمَ عَلَى مَا هُوَ مُشتَبِهٌ عِندَهُ لا يَدرِي أَهُوَ حَلالٌ أَو حَرَامٌ فَإِنَّهُ لا يَأْمَنُ أَنْ يَكونَ حَرَامًا في نَفسِ الأَمرِ، فَيُصَادِفَ الحَرَامَ وَهُوَ لا يَدرِي أَنَّهُ حَرَامٌ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: إِنَّهُ يَنبَغِي لِلمُؤمِنِ التَّبَاعُدُ عَنِ المُحَرَّمَاتِ وَالتَّجَافي عَنهَا، وَأَنْ يجعَلَ بَينَهُ وَبَينَهَا حَاجِزًا قَوِيًّا وَسَدًّا مَنِيعًا، سَالِكًا مَسلَكَ الوَرَعِ وَاتِّقَاءِ الشُّبُهَاتِ وَالرِّيَبِ، رُوِيَ عنهُ -صلى الله عليه وسلم- وحسَّنهُ بعضُهُم أَنَّهُ قَالَ: "لا يَبلُغُ العَبدُ أَنْ يَكونَ مِنَ المُتَّقِينَ حتى يَدَعَ مَا لا بَأسَ بِهِ حَذرًا ممَّا بِهِ بَأسٌ"، وقال –صلى الله عليه وسلم-: "كُنْ وَرِعًا تَكُنْ أَعبَدَ النَّاسِ، وَكُنْ قَنِعًا تَكُنْ أَشكَرَ النَّاسِ، وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفسِكَ تَكُنْ مُؤمِنًا، وَأَحسِنْ مُجَاوَرَةَ مَن جَاوَرَكَ تَكُنْ مُسلِمًا، وَأَقِلَّ الضَّحِكَ فَإِنَّ كَثرَةَ الضَّحِكَ تُمِيتُ القَلبَ"، وقال –صلى الله عليه وسلم-: "فَضلُ العِلمِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِن فَضلِ العِبَادَةِ، وَخُيرُ دِينِكُمُ الوَرَعُ"، وقال أَبُو الدَّردَاءِ -رَضِيَ اللهُ عنه-: "تَمَامُ التَّقوَى أَنْ يَتَّقِيَ اللهَ العَبدُ حتى يَتَّقِيَهُ مِن مِثقَالِ ذَرَّةٍ، وَحَتى يَترُكَ بَعضَ مَا يَرَى أَنَّهُ حَلالٌ خَشيَةَ أَنْ يَكونَ حَرَامًا، حِجَابًا بَينَهُ وَبَينَ الحَرَامِ"، وَقَالَ الحَسَنُ -رحمه اللهُ-: "مَا زَالَتِ التَّقوَى بِالمُتَّقِينَ حَتى تَرَكُوا كَثِيرًا مِنَ الحَلالِ مَخَافَةَ الحَرَامِ"، وَقَالَ سُفيَانُ الثَّورِيُّ -رحمه اللهُ-: "إِنَّمَا سُمُّوا المُتَّقِينَ لأَنَّهُمُ اتَّقُوا مَا لا يُتَّقَى"، وَقَالَ مَيمُونُ بنُ مِهرَانَ -رحمه اللهُ-: "لا يَسلَمُ لِلرَّجُلِ الحَلالُ حتى يَجعَلَ بَينَهُ وَبَينَ الحَرَامِ حَاجِزًا مِنَ الحَلالِ"، وَقَالَ سُفيَانُ بنُ عُيَينَةَ -رحمه اللهُ-: "لا يُصِيبُ عَبدٌ حَقِيقَةَ الإِيمَانِ حتى يَجعَلَ بَينَهُ وَبَينَ الحَرَامِ حَاجِزًا مِنَ الحَلالِ، وَحتى يَدَعَ الإِثمَ وَمَا تَشَابَهَ مِنهُ"، وَقَالَ الفُضَيلُ -رحمه اللهُ-: "يَزعُمُ النَّاسُ أَنَّ الوَرَعَ شَدِيدٌ، وَمَا وَرَدَ عَلَيَّ أَمرَانِ إِلاَّ أَخَذْتُ بِأَشَدِّهِمَا، فَدَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلى مَا لا يَرِيبُكَ"، وَقَالَ حَسَّانُ بنُ أَبي سِنَانَ: "مَا شَيءٌ أَهوَنَ مِنَ الوَرَعِ، إِذَا رَابَكَ شَيءٌ فَدَعْهُ".
أَيُّها المُسلِمُونَ: إِنَّ قَلبَ المُؤمِنِ الطَّاهِرَ مِنَ آفَاتِ الهَوَى وَحُبِّ الدُّنيَا لَيَأكُلُهُ مِن بَعضِ المُسَاهَمَاتِ الحَالِيَّةِ وَكَثِيرٍ مِنَ المُعَامَلاتِ المُعَاصِرَةِ، وَإِنَّ هَذَا وَحدَهُ لَكَافٍ لَهُ لِيَترُكَهَا وَيَجتَنِبَهَا وَإِنْ أَفتى مُفتُونَ بِحِلِّهَا وَرَأَوا جَوَازَهَا، وَهَذَا أَصلٌ مِن أُصُولِ الوَرَعِ التي جَاءَت بها الأَحَادِيثُ عَن سَيِّدِ المُتَّقِينَ المُتَوَرِّعينَ -عليه الصلاةُ والسلامُ-، فَتَعَالَوا لِنَقِفَ عَلَى طَرَفٍ مِنهَا، قال -صلى الله عليه وسلم-: "البِرُّ حُسنُ الخُلُقِ، وَالإِثمُ مَا حَاكَ في صَدرِكَ وَكَرِهتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيهِ النَّاسُ"، وَعَن وَابِصَةَ بَنِ مَعبَدٍ -رضي اللهُ عنه- قال: رَأَيتُ رَسُولَ اللهِ –صلى الله عليه وسلم- وَأَنَا أُرِيدُ أَن لاَّ أَدَعَ شَيئًا مِنَ البَرِّ وَالإِثمِ إِلاَّ سَأَلتُ عَنهُ، فَقَالَ لي: "اُدنُ يَا وَابِصَةُ"، فَدَنَوتُ مِنهُ حتى مَسَّت رُكبتي رُكبَتَهُ، فَقَالَ لي: "يَا وَابِصَةُ: أُخبِرُكَ عَمَّا جِئتَ تَسأَلُ عَنهُ؟!"، قُلتُ: يَا رَسُولَ اللهِ: أَخبِرني، قَال: "جِئتَ تَسأَلُ عَنِ البِرِّ وَالإِثمِ"، قُلتُ: نَعَمْ، فَجَمَعَ أَصابِعَهُ الثَّلاثَ فَجَعَلَ يَنكُتُ بها في صَدرِي وَيَقُولُ: "يَا وَابِصَةُ: اِستَفتِ قَلبَكَ، وَالبِرُّ مَا اطمَأَنَّتْ إِلَيهِ النَّفسُ وَاطمَأَنَّ إِلَيهِ القَلبُ، وَالإِثمُ مَا حَاكَ في القَلبِ وَتَرَدَّدَ في الصَّدرِ، وَإِنْ أَفتَاكَ النَّاسُ وَأَفتَوكَ"، وَعَن أَبي ثَعلَبَةَ الخُشَنِيِّ -رضي اللهُ عنه- قَالَ: قُلتُ: يَا رَسُولَ اللهِ: أَخبِرْني مَا يَحِلُّ لي وَيَحرُمُ عَلَيَّ، قَالَ: "البِرُّ مَا سَكَنَتْ إِلَيهِ النَّفسُ وَاطمَأَنَّ إِلَيهِ القَلبُ، وَالإِثمُ مَا لم تَسكُنْ إِلَيهِ النَّفسُ وَلم يَطمَئِنَّ إِلَيهِ القَلبُ، وَإِنْ أَفتَاكَ المُفتُونَ"، وَسَأَلَ رَجُلٌ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم-: ما الإِثمُ؟! قال: "إِذَا حَاكَ في نَفسِكَ شَيءٌ فَدَعْهُ"، قال: فَمَا الإِيمانُ؟! قال: "إِذَا سَاءَتْكَ سَيِّئَتُكَ وَسَرَّتْكَ حَسَنَتُكَ فَأَنتَ مُؤمِنٌ".
فَاتَّقُوا اللهَ -أَيُّها المُسلِمُونَ- وَخُذُوا بِهَذَا الأَصلِ تَسلَمُوا، وَلا تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنيا وَزَخَارِفُها وَأَموالُها، فَتَخرِمُوا هَذَا الأَصلَ استِجَابَةً لِمُغرِيَاتِهَا وَنُزُولاً عِندَ أَطمَاعِهَا، فَقَد قَالَ عَبدُ اللهِ بنُ المُبَارَكِ -رحمه اللهُ-: "لَو أَنَّ رَجُلاً أَبقَى مِائَةَ شَيءٍ وَلم يُبْقِ شَيئًا وَاحِدًا لم يَكُنْ مِنَ المُتَّقِينَ، وَلَو تَوَرَّعَ عَن مِائَةِ شَيءٍ وَلم يَتَوَرَّعْ عَن شَيءٍ وَاحِدٍ لم يَكُنْ وَرِعًا، وَمَن كان فِيهِ خَلَّةٌ مِنَ الجَهلِ كَانَ مِنَ الجَاهِلِينَ، أَمَا سمعتَ اللهَ تعالى قال لِنُوحٍ -عليه السَّلامُ- لمَّا قال: إِنَّ ابني مِن أَهلِي، فَقَال اللهُ تعالى: (إِنَّي أَعِظُكَ أَن تَكونَ مِنَ الجاهِلِينَ)".
اللهُمَّ اجعَلْنا مِن عِبَادِكَ المُتَّقِينَ المُتَوَرِّعِينَ، وَجَنِّبْنَا مَسَالِكَ الجَاهِلِينَ وَالفَاسِقِينَ، واكفِنا اللهُمَّ بِحَلالِكَ عَن حَرَامِكَ، وَأَغنِنَا بِفَضلِكَ عَمَّن سِوَاكَ، اللهُمَّ وَهَبْ لَنَا صِحَّةً لا تُنسِينَا، وَغِنًى لا يُطغِينَا، وَأَغنِنَا بِفَضلِكَ عَمَّن أَغنَيتَهُ عَنَّا.
الخطبة الثانية:
أَمَّا بَعدُ:
فَاتَّقُوا اللهَ حَقَّ تَقوَاهُ، وَاستَعِدُّوا بِالأَعمَالِ الصَّالحةِ لِيَومِ لِقَاهُ، (وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ).
أَيُّها المُسلِمُونَ: لِنَتَأَمَّلْ قَولَهُ -صلى الله عليه وسلم-: "أَلا وَإِنَّ في الجَسَدِ مُضغَةً، إِذَا صَلَحَت صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَت فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلا وَهِيَ القَلبُ"، فَإِنَّ فِيهِ إِشَارَةً بَلِيغَةً قَوِيَّةً إِلى أَنَّ صَلاحَ حَرَكَاتِ العَبدِ وَجَوَارِحِهِ وَاجتِنَابَهُ المُحَرَّمَاتِ وَاتِّقَاءَهُ لِلشُّبُهَاتِ كُلُّ ذَلِكَ بِحَسَبِ صَلاحِ حَرَكَةِ قَلبِهِ، فَإِذَا كَانَ قَلبُهُ سَلِيمًا لَيسَ فِيهِ إِلاَّ مَحَبَّةُ اللهِ وَمَحَبَّةُ مَا يُحِبُّهُ اللهُ وَخَشيَةُ الوُقُوعِ فِيمَا يَكرَهُهُ صَلَحَت حَرَكَاتُ الجَوَارِحِ كُلِّها، وَنَشَأَ عَن ذَلِكَ اجتِنَابُ المُحَرَّمَاتِ كُلِّها، وَتَوَقِّي الشُّبُهاتِ حَذَرًا مِنَ الوُقُوعِ في المُحَرَّمَاتِ، وَإِنْ كَانَ القَلبُ فَاسِدًا قَدِ استَولى عَلَيهِ اتِّبَاعُ الهَوَى وَطَلَبُ ما يُحِبُّهُ ولو كَرِهَهُ اللهُ فَسَدَت حَرَكَاتُ الجَوَارِحِ كُلِّها، وَانبَعَثَت إِلى كُلِّ المَعَاصِي وَالمُشتَبِهَاتِ، بِحَسَبِ اتِّبَاعِ هَوَى القَلبِ، ولهذا كان -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ في دُعائِهِ: "اللهُمَّ إِني أَسألُكَ قَلبًا سَلِيمًا"، والقَلبُ السَّلِيمُ هو السَّالمُ مِنَ الآفاتِ والمَكرُوهَاتِ كُلِّها، وَهُوَ القَلبُ الذي لَيسَ فِيهِ سِوَى محبَّةِ اللهِ وخَشيَتِهِ وَخَشيَةِ ما يُبَاعِدُ مِنهُ.
أَلا فَاحرِصُوا -رحمكم اللهُ- على سَلامةِ قُلُوبِكم واستِقَامَتِها يَستَقِمْ إيمانُكُم، واعلَمُوا أَنَّ أَكلَ الحلالِ وَتَحَرِّيَهُ وَطَلَبَهُ مِن أَعظَمِ ما يُصلِحُ القُلُوبَ، وَأَنَّ التَّهَاوُنَ بِالشُّبُهَاتِ طَرِيقٌ لِلوُقُوعِ في المُحَرَّمَاتِ، وَمِن ثَمَّ يَكُونُ فَسَادُ القُلُوبِ وَانتِكَاسُها بل وَمَوتُها، فَالحَذرَ الحَذرَ تَسلَمُوا، فَالسَّلامَةُ لا يَعدِلُها شَيءٌ.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم