عناصر الخطبة
1/من أسباب انتشار الأمراض والطواعين العامة ودلالات ذلك 2/الواجب في زمن الأوبئة والأمراض العامة 3/وجوب الأخذ بالإجراءات الاحترازية 4/مبادرات شبابية للاستفادة من الطاقات والقدرات.اقتباس
يجب على كل مسلم وعلى كل عاقل التوكُّل على الله -سبحانه وتعالى-، وتعليق القلوب به -سبحانه وتعالى-، وترك الخوف الزائد والقلق المبالغ فيه؛ فإن مثل هذه الطواعين والأمراض الفتاكة ليس لها علاج معلوم، وإنما علاجها التوكل على الله والاعتماد عليه...
الخطبة الأولى:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده:
لقد جمعنا الله في هذه البلاد الطيبة التي يجتمع أهلها جميعًا في مثل هذه الأعياد والمناسبات، وهذه الاجتماعات منَّة عظيمة ونعمة كبيرة تستحق الشكر والثناء لله رب العالمين الذي جمع الأجساد والقلوب، وجعل مثل هذه الأعياد تعود وتتكرّر وما سُمِّي العيد عيداً إلا لأنه يعود على الناس ويتعاودون فيه ويلتقون.
يقول الله -سبحانه وتعالى- مخاطبًا رسوله -صلى الله عليه وسلم-: (فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[الأنفال:62-63].
لقد اجتمعنا هذا العام في زمن بلاء ووباء ومحنة وابتلاء -زمن كورونا- الذي يعمّ العالم أجمع واجتماعنا في مثل هذه الظروف يحتاج منا وقفات وتأملات، ومن هذه الوقفات التي تحتاج منا جميعا إلى تأمل وتمعن:
أنْ نحمد الله -جل وعلا- أنْ جمعنا في بلدة فيها الهواء النقي والأجواء المفتوحة وجمال الطبيعة، وهذا النقاء وصفاء الأجواء هو من أعظم الأسباب التي تدفع الأوبئة والطواعين العامة، وتُبعد الناس عن الأمراض والحميات.
يقول ابن خلدون -رحمه الله-: "وأمّا كثرة الموتان فلها أسباب؛ من كثرة المجاعات، أو كثرة الفتن لاختلال الدّولة فيكثر الهرج والقتل أو وقوع الوباء وسببه في الغالب فساد الهواء بكثرة العمران لكثرة ما يخالطه من العفن والرّطوبات الفاسدة، وإذا فسد الهواء وهو غذاء الرّوح الحيوانيّ وملابسه دائمًا؛ فيسري الفساد إلى مزاجه؛ فإن كان الفساد قوياً وقع المرض في الرّئة، وهذه هي الطّواعين وأمراضها مخصوصة بالرّئة، وإن كان الفساد دون القويّ والكثير فيكثر العفن ويتضاعف فتكثر الحميّات في الأمزجة وتمرض الأبدان وتهلك وسبب كثرة العفن والرّطوبات الفاسدة في هذا كلّه كثرة العمران ووفوره".
ثم نصح الناس بضرورة تنظيم البنيان وحسن اختيار أماكن الخلاء والحمامات -أكرمكم الله- فيقول: "ولهذا تبيّن في موضعه من الحكمة أنّ تخلّل الخلاء والقفر بين العمران ضروريّ ليكون تموّج الهواء يذهب بما يحصل في الهواء من الفساد والعفن بمخالطة الحيوانات ويأتي بالهواء الصّحيح، ولهذا أيضا فإنّ الموتان يكون في المدن الموفورة العمران أكثر من غيرها بكثير كمصر بالمشرق وفاس بالمغرب، والله يقدّر ما يشاء"(تاريخ ابن خلدون: 1/376-377).
كما أنَّ مِن فضل الله ونِعَمه علينا أنَّ هذه مناطق جبلية، وقد أُمِرَ الناس في زمن الطواعين وانتشار الأمراض العامة أن يعمدوا إلى التجبُّل، والتزام المرتفعات والمكوث بالجبال.
وقبل هذا وذاك يجب على كل مسلم وعلى كل عاقل التوكل على الله -سبحانه وتعالى-، وتعليق القلوب به -سبحانه وتعالى-، وترك الخوف الزائد والقلق المبالغ فيه؛ فإن مثل هذه الطواعين والأمراض الفتاكة ليس لها علاج معلوم، وإنما علاجها التوكل على الله والاعتماد عليه؛ فإن الله هو الذي يأتي بها بأمره وحكمته، ويصرفها متى شاء وكيف شاء بقضائه وقدره؛ فيجب التوكل والاعتماد عليه وحده.
يقول الله -جل وعلا-: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[الأنعام:17]، ويقول: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)[يونس:107].
وما أحسن ما قال الشاعر:
لكل داء دواء يُستطب به *** إلا الحماقة والطاعون والهرم
ومن الأمور التي يجب أنْ لا نغفل عنها في زمن الأوبئة والأمراض العامة: أنْ ندرك جيداً أنَّ انتشار الأمراض والطواعين العامة هو علامة نذير وصيحة تحذير وآية من آيات الساعة وعلاماتها التي أخبر بها الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم-.
يقول عوف بن مالك -رضي الله عنه-: أَتَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ فَقَالَ: "اعْدُدْ سِتًّا بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ: مَوْتِي، ثُمَّ فَتْحُ بَيْتِ المَقْدِسِ، ثُمَّ مُوْتَانٌ يَأْخُذُ فِيكُمْ كَقُعَاصِ الغَنَمِ"(رواه البخاري).
ومعنى "موتان" أي: الموت الكثير الوقوع، و"قعاص الغنم" داء يأخذ الحيوانات فيصيب الصدر، ويؤثر على الرئة ويحبس النَفس حتى يموت الموبوء.
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الطاعون، فأخبرني "أنه عذاب يبعثه الله على من يشاء، وأن الله جعله رحمة للمؤمنين، ليس من أحد يقع الطاعون، فيمكث في بلده صابراً محتسباً، يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له، إلا كان له مثل أجر شهيد"(رواه البخاري ومسلم).
ويقول -صلى الله عليه وسلم- للمهاجرين: "يا معشر المهاجرين! خمسٌ إذا ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط، حتى يعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون، والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان، إلا أخذوا بالسنين، وشدة المئونة، وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم، إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يُمطروا، ولم ينقضوا عهد الله، وعهد رسوله، إلا سلّط الله عليهم عدوّا من غيرهم، فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله، ويتخيروا مما أنزل الله، إلا جعل الله بأسهم بينهم".
وقد حصل الطاعون في الشام في عهد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، وسمي بطاعون عمواس، واستشهد فيه جمع من فضلاء الصحابة -رضوان الله عليهم- وخيارهم، ومن أشهرهم: معاذ بن جبل، وأبو عبيدة عامر بن الجراح، وشرحبيل بن حسنة، والفضل بن العباس عم النبي -صلى الله عليه وسلم-.
ثم جاء طاعون الجارف في زمن ابن الزبير، وسمي بالجارف؛ لكثرة من مات فيه من الناس حتى إنَّ أنس بن مالك -رضي الله عنه- مات من أسرته في ذلك الطاعون ثمانون شخصًا، وقيل ثلاثة وسبعون، ومات لصدقة بن عامر سبعة بنين في يوم واحد دخل عليهم فوجدهم قد ماتوا جميعًا، فقال: "اللهم إني مُسلِم مُسلِّم"، وكانت الدار تُمسي وفيها أربعون أو خمسون شخصًا وتصبح وليس فيها أحد.
يقول الحارث بن عميرة: قدمت مع معاذ بن جبل من اليمن، فمكثت معه في داره، وفي منزله فأصابهم الطاعون فطُعِنَ معاذ، وأبو عبيدة بن الجراح، وشرحبيل بن حسنة، وأبو مالك جميعًا في يومٍ واحدٍ، وكان عمرو بن العاص حين حسّ بالطاعون فرَّ، وقال: "يا أيها الناس، تفرقوا في هذه الشعاب؛ فقد نزل بكم أمر من أمر الله لا أراه إلا رجزًا وطاعونًا"(مسند البزار 7/114).
(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)[البقرة: 155-157].
بارك الله لي ولكم في القرآن....
الخطبة الثانية:
من الأمور التي نريد من الجميع أنْ يحرص عليها في زمن الأوبئة والأمراض: الأخذ بالأسباب، والحرص على الابتعاد عن أسباب انتشار الأوبئة والحميات والأمراض.
ومن ذلك: الحرص على التعاون على مكافحة البعوض المنتشر؛ لما له من دور فتَّاك في نقل الأمراض وانتشار العدوى بواسطة الدم الذي ينقله من شخص إلى شخص آخر.
وقد أقيمت في هذه البلاد مبادرة شبابية لهدف الاستفادة من الطاقات والقدرات واستغلالاً للفراغ الذي يعايشه معظم الشباب في مثل هذه الإجازات لخدمة هذه البلاد وأهلها في المصالح العامة التي يستفيد منها الجميع، ولا يختلف عليها اثنان.
وسيتم -بإذن الله- تشكيل فِرَق طوعية ومجاميع شبابية للقيام ببعض الأعمال الطوعية والمشاريع الخدمية البسيطة؛ كتصفية الشوارع، وتنظيف الطرقات من الأشواك والأذى؛ فإن "إماطة الأذى من الطريق صدقة" و"شُعبة من شُعَب الإيمان"؛ كما أخبر بذلك المصطفى -صلى الله عليه وسلم-.
كذلك تنظيف السواقي ومجاري المياه من المخلفات، وتفقد خراطيم المياه النازلة من الكرفان إلى البيوت، وإصلاح المعطوب منها بالربط حفاظًا على الماء من التسيب في الشوارع بلا فائدة.
كما نرجو من الجميع التعاون على مكافحة البعوض، والحد من انتشاره بالرش وسكب مادة الديزل على أماكن توالده وانتشاره، وخاصة في المجاري وعلى المياه الراكدة والأحواض، وهذه مهمة هامة سيكلف بها -بإذن الله- كل بيت.
فنرجو من الجميع وخاصة الشباب كبارًا وصغاراً التعاون والاجتماع على التعاون والتناصر والتآزر إرضاءً لله، وخدمةً للبلاد، وسلامةً للجميع من الآفات والبلايا وحماية للمجتمع من الأوبئة والرزايا.
(وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)[التوبة:105]
يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في صحيح الإمام مسلم: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا".
ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"(رواه مسلم).
لقد شبَّه النبي -صلى الله عليه وسلم- تعاون الناس واجتماعهم على الخير والمصلحة بمثل الجسد إذا أصابته الحمى تألم كل شيء فيه، وكذلك المجتمع إذا أُصيب فرد من أفراده وقف الجميع معه لتخليصه من آلامه، والتخفيف من مصابه، وما لم يحدث؛ فإن الجميع سيتضررون، ويصيبهم البلاء الذي يعتلي الجسم كاملاً بالسهر والحمى.
وصلوا وسلموا..
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم