عناصر الخطبة
1/تعامل النبي مع شارب الخمر2/هدي السلف في معاملة المذنبين 3/التحذير من الاغترار بالطاعة 4/الطريقة الشرعية في معاملة أهل المعاصياقتباس
مِنَ الْحِكْمَةِ فِي التَّعَامُلِ مَعَ الْمُذْنِبِينَ وَالْعُصَاةِ هُوَ الْحِرْصُ عَلَى هِدَايَتِهِمْ بِالْحِكْمَةِ وَالرَّفْقِ وَاللِّينِ، وَالدُّعَاءُ لَهُم بِالْهِدَايَةِ، وَلاَ نَكُونُ سَبَبًا فِي تَنْفِيرِهِمْ وَصَدِّهِمْ عَنْ دِينِ اللَّهِ مَا دَامَتْ مَعْصِيَتُهُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ، وَلَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يَنْشُرُ السُّوءَ وَيَسْعَى فِي إِفْسَادِ النَّاسِ...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70-71].
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ، وَكُلَّ ضَلالَةٍ فِي النَّارِ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: رَوَى الإِمَامُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: أُتِيَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ، -أَيْ: شَرِبَ الْخَمْرَ- قَالَ: "اضْرِبُوهُ"، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: فَمِنَّا الضَّارِبُ بِيَدِهِ، وَالضَّارِبُ بِنَعْلِهِ، وَالضَّارِبُ بِثَوْبِهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ، قَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: أَخْزَاكَ اللَّهُ، قَالَ: "لاَ تَقُولُوا هَكَذَا؛ لاَ تُعِينُوا عَلَيْهِ الشَّيْطَانَ"، وَفِي رِوَايَةٍ فِي الْبُخَارِيِّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: أَنَّ رَجُلاً كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- كَانَ اسْمُهُ عَبْدَ اللَّهِ، وَكَانَ يُلَقَّبُ حِمَارًا، وَكَانَ يُضْحِكُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، وَكَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قَدْ جَلَدَهُ فِي الشَّرَابِ، فَأُتِيَ بِهِ يَوْمًا، فَأَمَرَ بِهِ فَجُلِدَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: اللَّهُمَّ الْعَنْهُ، مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ!، قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: "لاَ تَلْعَنُوهُ، فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ أَنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ".
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: هذا الْحَدِيثُ يَحْمِلُ تَوْجِيهًا نَبَوِيًّا كَرِيمًا، وَمَنْهَجًا رَصِينًا فِي كَيْفِيَّةِ التَّعَامُلِ مَعَ مَنْ وَقَعَ فِي مَعْصِيَةٍ مِنَ الْمَعَاصِي، مَنْهَجٌ رُبَّمَا غَابَ عَنْ كَثِيرٍ مِنَّا؛ حَتَّى أَصْبَحَ بَعْضُنَا يَنْظُرُ لِصَاحِبِ الْمَعْصِيَةِ نَظْرَةَ احْتِقَارٍ وَكَرَاهِيَةٍ، قَدْ يَتْبَعُهَا الدُّعَاءُ عَلَيْهِ، أَوْ عَدَمُ السَّلامِ عَلَيْهِ، أَوْ يُجَوِّزُ غِيبَتَهُ، أَوْ نَبْزُهُ بِالْفَاسِقِ أَوِ الْمُجْرِمِ أَوِ الضَّالِّ، بَلْ عَمَدَ بَعْضُهُمْ إِلَى تَكْفِيرِهِ كَمَا يَفْعَلُهُ الْخَوَارِجُ.
وَبَعْضُهُمْ يُعْجِبُهُ صَلاَحُهُ؛ فَيَتَكَبَّرُ عَلَى مَنْ دُونَهُ، وَيَزْدَرِيِ كُلَّ مَنْ وَقَعَ بِمَعْصِيَةٍ، وَلاَ يَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يَخْتِمُ لَهُ بِشَرٍّ وَيَخْتِمُ لِمَنْ تَكَبَّرَ عَلَيْهِ بِخَيْرٍ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: "فَوَالَّذِي لاَ إِلَهَ غَيْرُهُ، إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلاَّ ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلاَّ ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا".
وَذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ الأَصَمِّ -رَحِمَهُ اللهُ- قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ ذُو بَأْسٍ، وَكَانَ يَفِدُ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فَفَقَدَهُ عُمَرُ، فَقَالَ: مَا فَعَلَ فُلاَنُ بْنُ فُلاَنٍ؟ فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، يُتَابِعُ فِي هَذَا الشَّرَابِ -أَيْ: مُسْتَمِرٌّ فِيِ شُرْبِ الْخَمْرِ- قَالَ: فَدَعَا عُمَرُ كَاتِبَهُ، فَقَالَ: اكْتُبْ: "مِنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ إِلَى فُلاَنِ بْنِ فُلاَنٍ، سَلاَمٌ عَلَيْكَ، أَمَّا بَعْدُ: فَإِنِّي أَحْمَدُ إِلَيْكَ اللَّهَ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ، (غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ)[غافر: 3]"، ثُمَّ قَالَ لأَصْحَابِهِ: "ادْعُوا اللَّهَ لأَخِيكُمْ أَنْ يُقْبِلَ بِقَلْبِهِ، وَأَنْ يَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِ"، فَلَمَّا بَلَغَ الرَّجُلَ كِتَابُ عُمَرَ جَعَلَ يَقْرَؤُهُ وَيَرُدِّدُهُ، وَيَقُولُ: غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ، قَدْ حَذَّرَنِي عُقُوبَتَهُ وَوَعَدَنِي أَنْ يَغْفِرَ لِي، فَلَمْ يَزَلْ يَرُدِّدُهَا عَلَى نَفْسِهِ، ثُمَّ بَكَى ثُمَّ نَزَعَ فَأَحْسَنَ النَّزْعَ -أَي: تَابَ وَتَرَكَ الشَّرَابَ-، فَلَمَّا بَلَغَ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- خَبَرُهُ قَالَ: "هَكَذَا فَاصْنَعُوا، إِذَا رَأَيْتُمْ أَخَاكُمْ زَلَّ زَلَّةً فَسَدِّدُوهُ وَوَفِّقُوهُ، وَادْعُوا اللَّهَ لَهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِ، وَلاَ تَكُونُوا أَعْوَانًا لِلشَّيْطَانِ عَلَيْهِ".
اللّهُمَّ اجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ، غَيْرَ ضَالِّينَ وَلَا مُضِلِّينَ، اللَّهُمَّ اهْدِنَا وَسَدِّدْنَا، وَاعْفُ عَنَّا يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ، أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا، أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اتَّقُوا اللَّهَ -تَعَالَى-، وَاعْلَمُوا أَنَّ مِنَ الْحِكْمَةِ فِي التَّعَامُلِ مَعَ الْمُذْنِبِينَ وَالْعُصَاةِ هُوَ الْحِرْصُ عَلَى هِدَايَتِهِمْ بِالْحِكْمَةِ وَالرَّفْقِ وَاللِّينِ، وَالدُّعَاءُ لَهُم بِالْهِدَايَةِ، وَلاَ نَكُونُ سَبَبًا فِي تَنْفِيرِهِمْ وَصَدِّهِمْ عَنْ دِينِ اللَّهِ مَا دَامَتْ مَعْصِيَتُهُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ، وَلَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يَنْشُرُ السُّوءَ وَيَسْعَى فِي إِفْسَادِ النَّاسِ، فَقَدْ رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ بِسَنْدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: إِنَّ فَتًى شَابًّا أَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ائْذَنْ لِي بِالزِّنَا، فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ فَزَجَرُوهُ وَقَالُوا: مَهْ مَهْ، ثُمَّ قَالَ: "ادْنُهْ" أَيْ: اقْتَرِبْ، فَدَنَا مِنْهُ قَرِيبًا، قَالَ: فَجَلَسَ؛ قَالَ: "أَتُحِبُّهُ لأُمِّكَ؟"، قَالَ: لاَ وَاللَّهِ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: "وَلاَ النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لأُمَّهَاتِهِمْ"، ثُمَّ قَالَ لَهُ: "أَفَتُحِبُّهُ لابْنَتِكَ؟ أَفَتُحِبُّهُ لأُخْتِكَ؟ أَفَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ؟ أَفَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ؟"، ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ، وَقَالَ: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ، وَطَهِّرْ قَلْبَهُ، وَحَصِّنْ فَرْجَهُ".
نَعَمْ، هَكَذَا يَنبَغِي أَنْ يَكُونَ التَّعَامُلُ مَعَ الْمُذْنِبِينَ وَالْعُصَاةِ، نُصْحٌ بِرِفْقٍ وَرَحْمَةٍ وَحِكْمَةٍ مَعَ الدُّعَاءِ لِهَذَا الْمُذْنِبِ بِالْهِدَايَةِ.
هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56]، وَقَالَ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً؛ وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا"(رواه مسلم).
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم