تفسير مطلع سورة الغاشية

عمر بن عبد العزيز الدهيشي

2021-02-12 - 1442/06/30 2023-01-14 - 1444/06/21
عناصر الخطبة
1/أهمية تذكر الآخرة وأهوالها 2/تأملات في بدايات سورة الغاشية 3/أحوال الخلائق يوم القيامة 4/وصف جزء من عذاب النار وحال أهلها 5/وصف الناجين من أحوال الغاشية وأهوالها 6/قصور الذهن عن تصور حقيقة نعيم الجنة.

اقتباس

إنها لظى، نزَّاعة للشوى، كم عكَّرت صفو عيش العالمين!، وأيقَظَت ضميرَ الغافلين!، وأسهرتْ ليلَ العابدين!، وأَبْكَت عيونَ المتقين! فيها مِن أصناف العذاب ما لا يستطيع بشرٌ أن يتخيَّله، ومِن أنواع الذُّلِّ والهوان ما لا يستطيع أحدٌ أن يتحمَّلَه...

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

عباد الله: إذا كان العبد في إقبال على الدنيا وإدبار عن الآخرة، فإنه يتخوّض في ظلمات بعضها فوق بعض، إذا أخرج يده لم يكد يراها، وإذا مدَّ بصره رجع خاسئًا وهو حسير، فتأتي المواعظ والنذر، والزواجر والرهب، ليتفقد حاله، ويصلح نفسه، ويستعد لما أمامه (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ)[المؤمنون: 115].

 

 وإن من أعظم زواجر النفوس، وأبلغِ مواعظ القلوب، تذكُّرَ النارِ وأهوالهِا، والجنةِ ونعيمها، وكان من هدي حبيبنا -صلى الله عليه وسلم- قراءة سورة الغاشية كل جمعة تأملاً وتدبراً، وتخوفاً وتوجساً، ورجاءً وتطلعاً.

 

عباد الله: افتتح الله سورة الغاشية بأداة التنبيه والتعظيم، فقال -تعالى-: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ)[الغاشية:1]، وحديث الغاشية أي نبأ وخبر الداهية العظيمة، التي تغشى الناس بالأهوال ومُنْكَر الأحوال، وتغمرهم بالبلابل وعظيم الكروب، وهي يوم القيامة، فحينذاك الخلق كل الخلق مذ خلق الله البرية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، على صنفين، وفي فريقين لا ثالث لهما.

 

الفريق الأول: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ)[الغاشية:2]؛ أي ذليلة كسيفة، شاحبة هزيلة، عليها غَبَرة، وتعلوها قَتَرة، تلفح وجوههم النار، فقلصت شفاههم عن أسنانهم، فهم كالحون عابسون، وغطيت أجسادهم بثياب من نار، وسرابيل من قطران، فهم يُقاسون ويعانون، وتتبدل أبشارهم الطرية إلى سوداء كالحة قاسية كقطع من الليل مظلمة، وحين تنضج جلودهم وتسيح مع حرارة النار، تتبدل وتتغير ليذوقوا العذاب، هذا حال أجسادهم، وطبيعة أجسامهم في النار.

 

وهم مع هذا الحال النكد، والحياة المؤلمة، تكلف بأعمال مرهقة، وتكاليف مضنية، فهي (عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ)[الغاشية:3]؛ من جَرّ السلاسل الصلبة، والأغلال الثقيلة، والخوض في النار كما تخوض الإبل في الوحل، قال ابن عباس: "فإنها تعمل وتنصب في النار"(ابن جرير 24/328).

 

(تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً)[الغاشية:4]؛ فهي تعاني حرها، فالنار قد أوقدت وأحميت المدة الطويلة، وفي الحديث أنَّ رَسولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، قالَ: "نَارُكُمْ جُزْءٌ مِن سَبْعِينَ جُزْءًا مِن نَارِ جَهَنَّمَ"، قيلَ يا رَسولَ اللَّهِ: إنْ كَانَتْ لَكَافِيَةً، قالَ: "فُضِّلَتْ عليهنَّ بتِسْعَةٍ وسِتِّينَ جُزْءًا كُلُّهُنَّ مِثْلُ حَرِّهَا"(رواه البخاري: 3265).

 

وهي حامية حمي غيظ وغضب على أهلها ومن دخلها (تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ)[الملك:8]، ومع حرارة النار ولظاها، وعملهم فيها ونصبهم، يصيبهم العطش، ويدهمهم الجوع، فيستغيثون طلباً لشراب يبرد أكبادهم، وماء يروي ظمأهم فـ(تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آَنِيَةٍ)[الغاشية:5]؛ قد بلغت الغاية في الحرارة، فيتهافتون عليه، ويقبلون إليه، فيشربون منه شرب الهيم، فيشوي وجوههم من شدة حرارته، ويقطع أمعاءهم؛ (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ)[الكهف:29]،  (وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ)[محمد:15].

 

وليس لهم مع هذا الشراب طعام يقوي أجسادهم أو أكل يسد رمق جوعهم، سوى طعام من ضريع (لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ)[الغاشية:6]، وهو شجر في النار خبيث، شديد المرارة، منتن الرائحة، كثير الشوك، ينشب في الحلق (وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ)[المزمل:13]، وحاله أنه (لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ)[الغاشية:7]؛ فهو مُنْتَفٍ عنه فائدتي الأكل إما السمن أو قطع الجوع، فهم بين مذاق كريه، وحميم لا يطاق.

 

وبعد عباد الله: هذا جزء من عذاب النار وحال أهلها فيها، إنها لظى، نزَّاعة للشوى، كم عكَّرت صفو عيش العالمين!، وأيقَظَت ضميرَ الغافلين!، وأسهرتْ ليلَ العابدين!، وأَبْكَت عيونَ المتقين! فيها مِن أصناف العذاب ما لا يستطيع بشرٌ أن يتخيَّله، ومِن أنواع الذُّلِّ والهوان ما لا يستطيع أحدٌ أن يتحمَّلَه.

 

فيا ربنا وخالقنا اصرف عنا وعن والدينا وذرياتنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراماً، إنها ساءت مستقراً ومقاماً، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

عباد الله: أما الفريق الثاني في أحوال الغاشية وأهوالها (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ)[الغاشية:8]، ظاهر عليها آثار الرضى والنعمة، والنضارة والبهجة، نفوس مطمئنة، وقلوب مستقرة (لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ)[الأنبياء:103]، قد حمدت عملها في الدنيا، وسعيها إلى الله -تعالى-، وما قدّمته من عبادات وطاعات، فهي راضية ومطمئنة (لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ)[الغاشية:9].

 

حين ترى رِضَى الله -تعالى- عنها وعن عملها، فقد أورثها جنة عالية (فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ)[الغاشية:10] في مكانها؛ فهي فوق السماوات في أعلى عليين، وسقفها عرش الرحمن (لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ)[الزمر:20]، وهي عالية في مكانتها وقدرها..

 

وهم فيها لا شيء يُنغّص عيشهم، ولا أحد يُكدّر خاطرهم (لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً)[الغاشية:11]؛ أي كلمةً نابيةً ساقطة، أو لا معنى لها، فهم في هدوء واطمئنان، وسكون وود، يُمتّعون أبصارهم بالنظر إلى ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين من عيون جارية (فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ)[الغاشية:12]، تجمع بين الري وجمال الحركة والتدفق، فهي تجري بغير أخدود، يفجرونها ويشربون منها، ويصرفونها كيف شاءوا (عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا)[الإنسان:6].

 

ويسترخون بأجسادهم الناعمة على سرر مرفوعة، كثيرة الفرش، ناعمة الملمس، جلوساً واضطجاعاً (فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ)[الغاشية:13]؛ فهي مرفوعة حساً ومعنًى .. وبين أيديهم (أَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ)[الغاشية:14]، أقداح مهيأة للشرب، ومُعدَّة للتناول، لا تحتاج إلى طلب أو إعداد.

 

وعن أيمانهم وشمائلهم (نَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ)[الغاشية:15]، وهي الوسائد والمرافق يتكؤون عليها ويستندون إليها، قد صُفّت وزُيِّنت .. وبين ناظريهم (زَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ)[الغاشية:16] بُسُط مبثوثة هنا وهناك؛ للزينة والراحة سواء، نسأل الكريم من فضله.

 

 وبعد عباد الله: كل هذا النعيم ندركه بأسمائه ونعرف معانيه، لكنَّ الفكر والتصور يَقْصُر عن معرفة حقيقته وطبيعته، إلا حين تنكشف الحُجُب،  وتُفْتَح الأبواب،  وتنطلق الأرواح والأجساد في نعيم أو جحيم سرمدي، فعندئذ تتغير مدلولات الألفاظ بتغير مذاقها، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "ليس في الجنةِ شيءٌ يُشْبِهُ ما في الدنيا إلَّا الأسماءَ" (السلسة الصحيحة: 2188).

 

وفي الحديث القدسي: قال الله -تعالى-: "أعْدَدْتُ لِعِبادِي الصَّالِحِينَ ما لا عَيْنٌ رَأَتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَرَ علَى قَلْبِ بَشَرٍ"(رواه البخاري: 7498). (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)[آل عمران:185].

 

 هذا وصلوا وسلموا..

 

المرفقات

تفسير مطلع سورة الغاشية.pdf

تفسير مطلع سورة الغاشية.doc

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات