تفسير سورة الكهف (قصة أصحاب الكهف) (2)

عمر بن عبد العزيز الدهيشي

2022-10-21 - 1444/03/25 2022-12-05 - 1444/05/11
عناصر الخطبة
1/تأملات في قصة أصحاب الكهف 2/فرار المسلم بدينه 3/المشروع عند وقوع الفتن 4/حفظ الله لأهل الكهف 5/الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل.

اقتباس

في هذه القصة دليلٌ على أن مَن فرَّ بدِينه من الفتن سلَّمه الله منها، وأن من حرص على العافية عافَاه الله، ومن أوى إلى الله أواه الله، وجعله هدايةً لغيره، ومَن تحمَّل الذل في سبيله وابتغاء مرضاته، كان آخر أمره وعاقبته العزة والرفعة والمكانة...

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

عباد الله: مايز الله -سبحانه- في أساليب القرآن، ونوّع في عرض الدلالة والبيان، بين ترغيب وترهيب، ومناقشة وجدال، ومخاطبة عقل وتحريك فطرة، وبين ضرب للأمثال، وعَرْض لأحسن القصص، ومن أعجب القصص، وليس أعجبها، قصة أصحاب الكهف في الزمن الغابر (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آَيَاتِنَا عَجَبًا)[الكهف:9]؛ أي فلا تتعجب، فالعجائب في خلق الله وأخباره وحُسن صنعه وعظيم لطفه أعظم وأجل، لكن (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)[الأعراف:176].

 

عباد الله: أَجْمل الله -تعالى- القصة ثم فصَّلها، فهم سبعة فتية شبان، صاح فيهم داعي الفطرة، وأيقظهم نور الإيمان، فأنكروا قومهم وما هم عليه من الكفر والعصيان، والضلال والتيهان، فتمسكوا بدينهم ودعوا قومهم، معذرةً إلى ربهم ولعلهم يتقون.

 

فلما آيسوا منهم، وكانوا غرباء بينهم، خافوا على دينهم، ولجأوا إلى خالقهم بدعوات عظيمة، وكلمات جامعة، وابتهالات صادقة، لا على هلاك قومهم، أو الانتقام من قريتهم، كلا.. فليس ذاك سبيل المصلحين ومنهج الداعين، بل على أن يثبتهم على دينهم، ويصرفَ عنهم كيدهم، ويفتحَ عليهم الخير والبركات (رَبَّنَا آَتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا)[الكهف:10].

 

فقد جمعوا بين سؤال الله الخير باقتران الرحمة في ملازمة تيسير، مع نفي القوة والحول عنهم، فلذا استجاب الله دعاءهم، وقيَّض لهم ما لم يكن في حسبانهم، فخرجوا من بين أظهر قومهم وآووا إلى غار خارج مدينتهم (فَضَرَبْنَا عَلَى آَذَانِهِمْ) أي أنمناهم (فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا)[الكهف:11]؛ وهي ثلاثمائة وتسع سنوات.

 

ثم استيقظوا من رقدتهم، واختلفوا في مدة لبثهم (ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا)[الكهف:12]، ثم فصَّل الله -تعالى- قصتهم وبيَّن حالهم ومآلهم (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى)[االكهف:13].

 

عباد الله: يقظة الضمير، وحياة الروح، وعمارة الجسد بالإيمان، حياة للبدن، وعمارة للأرض، وسلامة في الدنيا ونجاح في الآخرة، فهؤلاء الفتية لم تغرّهم زخارف الدنيا، ولا رفاهية الغنى، في إيثار الحياة العامة، والسلامة من تبعات المخالفة، ومعارضة القوم، بل ثبتوا على إيمانهم، ولزموا دينهم؛ (فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا)[الكهف:14]؛ أي قولاً خطأ كاذباً.

 

ولم يكتفوا بالتبرؤ والإعلان، بل قارعوا قومهم بالحجة والبيان، والرد والبرهان، (هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ)[الكهف:15]؛ فالدين لا يؤخذ بالهوى والتشهي أو بالدعاوى والتمني، لكن بالدليل والبرهان، والحجة والبيان، والدعاوى ما لم يقيموا عليها بينات أصحابها أدعياء، فهي فاسدة باطلة، بل وظلم وافتراء على الله (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا)[الكهف:15].

 

فلما خافوا على دينهم من قومهم أن يردّوهم أو يفتنوهم، اعتزلوا قومهم، وتواصوا فيما بينهم في الهرب والفرار بدينهم؛ إذ لا سبيل إلى قتالهم ولا إلى بقائهم بين أظهرهم، إذ المشروع عند وقوع الفتن ونزول البلاء أن يفر العبد خوفًا على دينه، وفي الحديث: "يوشك أن يكون خير مال أحدكم غنماً يتبع بها شعف الجبال، ومواقع القَطْر؛ يفرّ بدينه من الفتن"(رواه البخاري: 19). 

 

عباد الله: سعة الدنيا وزينتها، وطمأنينتها وحلاوتها، في الدين والإيمان، فهما مبعث الراحة ومصدر الاطمئنان، وما زخارف الدنيا من مال رغيد، وقصر مشيد، ومركب وطيد، إلا مظاهر ووسائل قد تُصيب الغاية وقد تخيب (الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)[الرعد:28]؛ فأولئك النفر المؤمنون آووا إلى غار في جوف جبل وعر، فأخبر الله -تعالى- أنه موئل الرحمة، ومبعث الطمأنينة، ومنزل السكينة (يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا)[الكهف:16].

 

فحفظ الله دينهم وأبدانهم، ويسّر لهم كل سبب، حتى المحل الذي ناموا فيه، كان على غاية الحفظ والصيانة، فكانت الشمس إذا طلعت تميل عنهم يميناً، وعند غروبها تتجافى عنهم شمالاً، فلا ينالهم حرّ، ولا تصيبهم عفونة، وهم في فجوة ومكان متَّسع ليطرقهم الهواء، ويغشاهم النسيم.

 

وقد حفظ الله أجسادهم (وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ)[الكهف:18]؛ لئلا ينحاز الدم في جانب دون الآخر، فإنه إن كان في جانب واحد أوشك أن ينحرم منه الجانب الأعلى فيفسد، وعلى الوصيد وفناء الباب كلبهم باسط ذراعيه، كل هذا حفظاً لهم من الأرض.

 

وأما حفظهم من الآدميين فهو بالرعب الذي وقع عليهم (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا)[الكهف:18]؛ وهو ما أوجب أن يبقوا كل هذه المدة الطويلة ولم يعثر عليهم أحد، مع قربهم من المدينة، ومجاورتهم لقومهم.. وصدق الله (مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا)[الكهف:17].

 

 أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم..

 

 

الخطبة الثانية:

 

عباد الله: إن التعاطي مع الأسباب والأخذ بها لا يعارض التوكل ولا ينافيه، بل هو عين التوكل على الله والاعتمادِ عليه، فأولئك الفتية لما فارقوا قومهم ومساكنَهم، أخذوا بُلغتهم من المال وغيره، حتى آووا إلى الغار، وبعد مضي قرون من الزمن، بعثهم الله وأيقظهم، فبعثوا أحدهم ليجلب لهم طيب الطعام وأزكاه، وأحسنه وأسناه، لتصح أجسادهم، ويطيب عيشهم، وأن يتلطف في ذهابه وإيابه ويتعامل بخفية في بيعه وشرائه، ويخفي حال إخوانه.

 

كل ذلك أسباب مشروعة واحتياطات مرغوبة محبوبة؛ حفظاً لأنفسهم وخوفاً من قومهم، فهم حانقون عليهم مبغضون لهم (إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا)[الكهف:20].

 

لكن الله -تعالى- أراد أن يكشف حالهم، ويعثرَ عليهم قومهم؛ ليعلموا أن وعد الله حق في نصر المؤمنين وحفظ عباده المتقين، وأن الساعة آتية لا ريب فيها؛ فهي واقعة لا محالة.  وبعد أن كانوا بعيدين مستخفين بدينهم رفَع الله قدرهم وعظمهم قومهم حتى قال الذين غلبوا على أمرهم من الأمراء والوجهاء (لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا)[الكهف:21].

 

وبعد عباد الله: في هذه القصة دليلٌ على أن مَن فرَّ بدِينه من الفتن سلَّمه الله منها، وأن من حرص على العافية عافَاه الله، ومن أوى إلى الله أواه الله، وجعله هدايةً لغيره، ومَن تحمَّل الذل في سبيله وابتغاء مرضاته، كان آخر أمره وعاقبته العزة والرفعة والمكانة (وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ)[آل عمران:198](مستفاد من تفسير ابن سعدي:447).

 

هذا وصلوا وسلموا....

 

المرفقات

تفسير سورة الكهف (قصة أصحاب الكهف) (2).pdf

تفسير سورة الكهف (قصة أصحاب الكهف) (2).doc

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات