تفسير سورة الكافرون

عمر بن عبد العزيز الدهيشي

2022-06-10 - 1443/11/11 2022-11-23 - 1444/04/29
عناصر الخطبة
1/يسر الشريعة ورفع الحرج 2/التحذير من تعدي حدود الله تعالى 3/تأملات في تفسير سورة الكافرون 4/البراءة المطلقة والمفاصلة بين الموحدين والمشركين 5/ضوابط التعامل مع المشركين 6/ الإسلام لا يقرّ الناس على الكفر والعقائد الباطلة.

اقتباس

فقصارى معنى الآية الكريمة هو البراءة المحضة من الكافرين، والتنصل من موافقتهم في الدين فحسب، وليس فيها ما يتضمن إقرارهم على دينهم، أو الرضى بمعتقدهم الفاسد، وتركهم دون دعوة وجهاد، فهي لإعلان البراءة لا الإقرار، وإظهار المفارقة لا التسليم.

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

الحمد لله المعبود، وبكل لسان محمود، أحمده حمد مقر بربوبيته، ومؤمن بألوهيته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير من صلى وقام وعبد الله واستقام وعلى آله وصحبه أولي المناقب وذرا المقام وسلم اللهم تسليماً كثيراً.

 

أما بعد: فأوصيكم بتقوى الله..   

 

عباد الله: إن كانت الشريعة الإسلامية موصوفة باليسر ورفع الحرج في أحكامها الفرعية، وشرائعها التعبدية، وواجباتها ومنهياتها: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)[البقرة:185]، وقال -تعالى-: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)[الحج:78]، فهي أيضاً قائمة على حدود وضوابط في أصولها العقدية ومبانيها الاعتقادية، جاء الوعيد الشديد على تعديها، أو تجاوزها بأي ذريعة كانت، أو حجة ادعيت: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)[البقرة:229]، ويقول -سبحانه-: (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ)[النساء: 14].

 

عباد الله: أورد الطبري بسنده عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: أن قريشاً وعدوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يعطوه مالاً، فيكون أغنى رجل بمكة, ويزّوجوه ما أراد من النساء, ويطؤوا عقبه -أي يتبعوه-, فقالوا له: هذا لك عندنا يا محمد, وكفّ عن شتم آلهتنا, فلا تذكرها بسوء, فإن لم تفعل, فإنا نَعْرِض عليك خصلة واحدة, فهي لك ولنا فيها صلاح. قال: "ما هي؟"، قالوا: تعبد آلهتنا سنة: اللات والعزى, ونعبد إلهك سنة, قال: "حتى أنْظُرَ ما يأْتي مِنْ عِنْدِ رَبّي", فجاء الوحي من اللوح المحفوظ: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) السورة كاملة. (أخرجه الطبري في تفسيره 24/703، والطبراني في الصغير 1/265).

 

عباد الله: في هذه السورة الكريمة أَمرَ الله -تعالى- نبيه محمداً -صلى الله عليه وسلم- أن يُوجّه الخطاب لكل الكافرين ما داموا على الكفر ولم يخرجوا من ظلماته، أنه بريء منهم ومن معبوداتهم التي يَدْعُونها من دون الله -تعالى-، وهم براء مما يدعوه ويعبده ويخلص له وهو الله وحده لا شريك له، وأنه ليس هناك التقاء بين دين الله -تعالى- مع الباطل، إلا على سبيل الرضا بأنَّ دين الله -تعالى- هو الحق وما عداه باطل لا قيمة له، قال -تعالى-: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ)[الكافرون:1-2]؛ أي: لا أعبد الآن الذي تعبدونه من الأحجار والأشجار وأصحاب القبور وغير ذلك، وأتبرأ منها ظاهراً وباطناً.

 

 (وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ)[الكافرون:3]، أي: ولا أنتم عابدون الذي أعبد، وهو الله وحده لا شريك له، (وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ)[الكافرون:4]؛ أي : ولا أنا عابد في المستقبل الذي تعبدونه من الآلهة، (وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ)[الكافرون:5]؛ أي: ولا أنتم في المستقبل عابدون الذي أعبد، بل ستزدادون بعداً عن الحق وضلالاً وتيهًا، (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا)[المائدة:64]؛ فهي مفاصلة ظاهرة، وبراءة معلنة، من جنس الكفار؛ لأن الأديان كلها –سوى الإسلام-  كالشيء الواحد في البطلان؛ إذ الكفر ملة واحدة.

 

عباد الله: ثم ختم الله -تعالى- السورة بتأكيد المفاصلة والبراءة من ملتهم وشَرعِهم، فقال -سبحانه- (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)[الكافرون:6]؛ أي: لكم ما تعتقدونه من الملة الكافرة، ولي ما أعتقده من توحيد الله -سبحانه-، فلا يمكن أن نلتقي أبداً : (وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ)[يونس:41].

 

 فمقصود السورة الأعظم هو البراءة المطلقة، والمفاصلة بين الموحدين والمشركين؛ وقد جاء وصف هذه السورة في السنة النبوية بأنها: "براءة من الشرك"؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "إذا أخذتَ مَضجعَكَ من الليلِ فاقْرأْ (قُلْ يَا أيُّهَا الْكَافِرُونَ) ثمَّ نَمْ على خاتِمَتِها؛ فإنَّها بَراءةٌ من الشِّركِ"(رواه أبو داود 5055، والترمذي 3403، وصححه الحاكم وابن حبان).

 

ولذا استُحِب قراءتها مع سورة الإخلاص في سنة الفجر أول النهار، كما يفتتح بهما أول الليل في سنة صلاة المغرب، ويختتم بهما عمل الليل في الوتر، ويُستحب قراءتها بعد الركن الأعظم في العمرة والحج في ركعتي الطواف؛ تذكيراً بالمفاصلة وتأكيداً على حقيقة المباعدة بين المسلمين والكافرين، فهاتان سورتا الإخلاص لله -تعالى-، والبراءة من الشرك، قال ابن عباس رضي الله عنهما: "ليس في القرآن سورة أشد لغيظ إبليس من هذه السورة؛ لأنها توحيد وبراءة من الشرك"(تفسير الثعلبي 30/397).

 

عباد الله: إنَّ أفكارنا ومفاهيمنا وتصوراتنا عن الحياة، يجب أن تجري وفق هذا الوحي لا تتخلّف عنه في شيء،  وأنَّ كل فهم أو تصوّر يخرج عن نطاق هذا الوحي، فهو ضلال لا قيمة له، غير أنَّ من الوعي فَهْمَ أنَّ تقرير قضية الكفر وتمسك أهله به لا يعني سلب حقوقهم، أو الاعتداء عليهم وظلمهم في شيء،  وإذا أرادوا أن يبقوا على ملتهم فالإسلام يقرهم على ذلك وفق شروط حددها وبيّنها، وأنه ليس ثمة تعارض بين وصف الإنسان بما هو فيه، والتعامل معه بأرقى صور الاحترام والتقدير.

 

وقد بسط الله -تعالى- هذا المعنى في قوله -تعالى-: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)[الممتحنة:8-9].

 

أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

عباد الله: من الآيات التي أسيء فهمها، وأُقحمت في غير سياقها،  قوله -تعالى-: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)[الكافرون: 6]، حيث يُظن منها: أن الإسلام يقرّ الناس على الكفر والعقائد الباطلة ويرضى بذلك، وأنه لا يطالب أصحاب الديانات الفاسدة كالوثنية، أو المحرفة: كاليهودية والنصرانية، بترك ما هم عليه من الباطل.

 

وهو ظن فاسد، واعتقاد باطل، تنبو عنه معنى الآية الكريمة، ويأبه سبب نزول السورة، وترده أصل البعثة المحمدية، قال -تعالى-: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)[الصف:9]؛ أي: ليعليه على سائر الأديان ولو كره المشركون، وبغوا له الغوائل، ومكروا مكرهم، فإن المكر السيئ لا يضر إلا صاحبه، وما وقعت غزوات الرسول -صلى الله عليه وسلم- كلها إلا بعد نزول هذه السورة.

 

فقصارى معنى الآية الكريمة هو البراءة المحضة من الكافرين، والتنصل من موافقتهم في الدين فحسب، وليس فيها ما يتضمن إقرارهم على دينهم، أو الرضى بمعتقدهم الفاسد، وتركهم دون دعوة وجهاد، فهي لإعلان البراءة لا الإقرار، وإظهار المفارقة لا التسليم.

 

كما اشتملت على البراءة أيضاً بين أتباع الرسول -صلى الله عليه وسلم- أهل سنته، وبين أهل البدع المخالفين لما جاء به، الداعين إلى غير سنته، إذا قال لهم خلفاء الرسول وورثته: لكم دينكم ولنا ديننا، لا يقتضي هذا إقرارهم على بدعتهم، بل يقولون ذلك، وهم مع هذا منتصبون للرد عليهم، وجهادهم بالحجة والبيان بحسب الإمكان (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)[التحريم:9]. 

 

هذا وصلوا وسلموا....

 

المرفقات

تفسير سورة الكافرون.pdf

تفسير سورة الكافرون.doc

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات