تفسير سورة الإخلاص

عمر بن عبد العزيز الدهيشي

2022-09-09 - 1444/02/13 2022-11-14 - 1444/04/20
عناصر الخطبة
1/تأملات في سورة الإخلاص 2/وحدانية الله وعظمته 3/شدة حاجة الخلائق إلى الله تعالى 4/الافتقار إلى الله لب العبودية.

اقتباس

(اللَّهُ الصَّمَدُ)؛ أي: السيد الذي قد كمل سؤدده، وبلغ من كل وصف كماله ونهايته، سؤدداً وشرفاً، وعظمة وحلماً وعلماً، وحكمة وحكماً، فهو المقصود في جميع الحوائج، الذي تَصمد الخلائق إليه وتتجه، وتقصده في طلب قضاء حوائجها وتسأله..

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

الحمد لله العظيم؛ تعاظم في ذاته عن الإحاطة والتكييف، وجل في صفاته عن النقائص والتشبيه، وتعالى في ملكه ومجده عن النظير والشبيه، نحمده كما ينبغي له أن يحمد، ونشكره فهو أحق أن يشكر، ونستغفره فهو الذي يستغفر.

 

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ ذلت لعظمته جميع الموجودات، وتلاشت عظمة كل المخلوقات، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ خير مُعظِّم لله وأتقاه، وأعظم داع لله وأرجاه؛ صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأتباعه إلى يوم الدين.

 

أما بعد: فأوصيكم بتقوى الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102].

 

عباد الله: حبّها يدخل الجنة، وهي سبيل إلى محبة الله -تعالى-، سهلة الألفاظ، مدركة المعاني، حوت أعظم الأسماء، وأكملَ أوصاف الرب -سبحانه-، تعدل في فضلها ومعناها ثلثَ القرآن، فقد خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم على أصحابه، فقال: "أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة؟"؛ فشق ذلك عليهم، وقالوا: أينا يطيق ذلك يا رسول الله ؟ فقال: "(الله الصمد) ثلث القرآن"(رواه البخاري).

 

عباد الله: جاء المشركون إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: انسب لنا ربك، فأنزل الله -عز وجل- (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ)[سورة الإخلاص:1-4](رواه الإمام أحمد والترمذي).

 

أيها المسلمون: لما كان مقصود القرآن هو دعوة العباد إلى المعبود، وكان المدعو إلى شيء أحوجَ ما يكون إلى معرفته، وكان التعريف تارة للذات وتارة للصفات وتارة للأفعال، افتتح الله -تعالى- السورة بقوله -سبحانه-: (قُلْ) أي قل قولاً جازماً به، معتقداً له، عارفاً بمعناه، (هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) أي: هو الواحد الأحد، الذي لا نظير له ولا وزير، ولا نديد ولا شبيه ولا عديل، الذي له عبادةُ كل شيء، ولا تنبغي العبادة إلا له، وأن كل ما سواه فهم خلقه، والواجب على جميعهم طاعته والانقياد لأمره؛ إذ كل ما بهم من نعمة في الدنيا فمنه -سبحانه-، وما يصيرون إليه من نعمة في الآخرة فمنه وحده.      

 

(اللَّهُ الصَّمَدُ)؛ أي: السيد الذي قد كمل سؤدده، وبلغ من كل وصف كماله ونهايته، سؤدداً وشرفاً، وعظمة وحلماً وعلماً، وحكمة وحكماً، فهو المقصود في جميع الحوائج، الذي تَصمد الخلائق إليه وتتجه، وتقصده في طلب قضاء حوائجها وتسأله، قال -تعالى- مبيناً حاجة العباد له: (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ)[الأنعام:63-64].

 

وقال -سبحانه-: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ)[النمل:62]؛ فهو -سبحانه- المقصود  حال الرغائب، المستعان به عند المصائب، هو الأزلي بلا عدد، والباقي بلا أمد، والقائم بلا عمد، يحكم ما يريد ويفعل ما يشاء، لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه ولا إله غيره.  

 

(لَمْ يَلِدْ) فلم يكن له ولد (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ)[المؤمنون:91]؛ وهو يدل على أنه -سبحانه- ليس بفانٍ؛ لأنه لا شيء يَلِد إلا وهو فانٍ بائد، والله هو الحي القيوم.

 

(وَلَمْ يُولَدْ)؛ أي: لم يتولد من غيره، فهو -سبحانه- ليس بمحدث؛ لم يكن فكان؛ لأن كل مولود فإنما وُجِدَ بعد أن لم يكن، وحدث بعد أن كان غير موجود، (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا)[الإنسان:1]، وما كان محدثاً مخلوقاً فهو يفنى ويبيد (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ)[الرحمن:26]؛ ولكنه -تعالى- أول ليس قبله شيء، وآخر ليس بعده شيء، لا يزول ولا يفنى -سبحانه- وتعالى: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)[القصص:28].

 

عباد الله: ثم ختم الله -تعالى- هذه السورة العظيمة بتأكيد معاني الأسماء الحسنى والصفات العلى، بالنفي المطلق عن المكافئ والمماثل والشبيه والنظير (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ) لا في أسمائه ولا في صفاته ولا في أفعاله -تبارك وتعالى-، بل هو الواحد الأحد الصمد: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)[الشورى:11]؛ قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "تفكروا في كل شيء ولا تتفكروا في ذات الله"؛ لأن الأفهام تقف دون ذلك حسيرة.

 

والمؤمنون يعرفون ربهم بافتقار كل شيء إليه واستغنائه عن كل شيء، وتعرفه -سبحانه- بالنظر إلى ملكوت السماوات والأرض وما فيهما من الآيات والعِبَر، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)[البقرة:163-164]. أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم.

 

 

الخطبة الثانية:   

 

عباد الله: من فَقِهَ سورة الإخلاص وما فيها من معانٍ، أثارت في نفسه تقديساً لله -تعالى- وإجلالاً له،  وفكَّت قلبه من أَسْر المخلوقين،  وخلَّصته من الأوهام،  وأقبلت به إلى الله -تعالى- دون عناء، وجعلته حرّاً إلا من الله -تعالى-! وأورثته صدقاً في الأقوال،  وإخلاصاً في الأعمال، وتخلصاً من الرياء والسمعة، وأن كل ما سوى الله -تعالى- مفتقرٌ إليه طوعاً أو كرهاً محتاج إليه، وهو الغني الحميد الواسع العليم.

 

وفي الحديث القدسي: "يا عِبَادِي إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي، فَتَنْفَعُونِي، يا عِبَادِي لو أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا علَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنكُمْ، ما زَادَ ذلكَ في مُلْكِي شيئًا، يا عِبَادِي لو أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا علَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، ما نَقَصَ ذلكَ مِن مُلْكِي شيئًا، يا عِبَادِي لو أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا في صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فأعْطَيْتُ كُلَّ إنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ، ما نَقَصَ ذلكَ ممَّا عِندِي إلَّا كما يَنْقُصُ المِخْيَطُ إذَا أُدْخِلَ البَحْرَ"(رواه مسلم).

 

فعُدْ بقلبك إلى ربك، واطرح نفسك بين يديه، وطهِّر قلبك عن رؤية أحد من خلقه، فالعظيم يستحق منك كل ذلك وأعظم (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)[الأعراف:54].

 

هذا وصلوا وسلموا....

 

المرفقات

تفسير سورة الإخلاص.pdf

تفسير سورة الإخلاص.doc

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات