تفسير (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين)

عمر بن عبد العزيز الدهيشي

2020-10-23 - 1442/03/06 2023-01-10 - 1444/06/17
عناصر الخطبة
1/أهمية الأخلاق في الإسلام 2/أجمع آية في مكارم الأخلاق 3/سمات صاحب الخلق الكريم 4/أحوال معاملة الناس 5/فضل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر 6/الساعي في إصلاح نفسه ونصح غيره 7/الناس رجلان.

اقتباس

ومن المعروف إصلاح نفسك، وتربية ولدك، وحِفْظ أمانتك، وصِدْق قولك، وطيب مكسبك، وصلة رحمك، وإحسانك لجارك، ودفع أذيتك عن غيرك، وسائر ما فيه صلاحك وأمن مجتمعك....

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

عباد الله: الأخلاق يفوح عبقها ويروج أريجها إن وُصفت بالحسن والكمال، فهي تكشف صورة الإنسان الباطنة، وتُظهر المعدن الخفي.. والأخلاق كما تكون بين الخلق وربهم، فهي تكون بين الخلق أنفسهم، بل ومع أعدائهم وخصومهم.

 

والأخلاق منها واجبات لازمات، ومستحبات فاضلات، ومنهيات ممنوعات، جُمعت معانيها، وأحاط بعقدها، واستوفى أنواعها، آية كريمة من كتاب الله -تعالى-: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ)[الأعراف:199]؛ قال جعفر الصادق: "ليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية"(معالم التنزيل2/224)، وصدق الرسول الأكرم -عليه الصلاة والسلام-: "وأوتيت جوامع الكلم".

 

عباد الله: لما كان المسلم اجتماعياً بطبعه، يخالط ويبايع ويقايض، ويكدح ويعمل ويخاطر، ويعافس الأزواج والأولاد، ولا يخلو من عدو مناوئ.. أمره الله بأخذ العفو، وهو: ما فضل وزاد عن الحاجة، ومنه قوله -تعالى-: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ)[البقرة:219]؛ قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "ما فضل عن أهلك". 

 

فلا يحقق ويبالغ، ويحاصص ويشاقق، بل يأخذ ما سهل وتيسر من أخلاق الناس، "رحِم الله رَجُلا سَمْحَا إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقْتَضَى"رواه البخاري"؛ فيقبل العذر، ويغضّ الطرف، ويعفو ويسمح، ولا يُكلّف غيره ما لا طاقة له به، ولا يجازي بالسيئة السيئة بل يعفو ويصفح، ويتعين كل هذا خاصة بين الأزواج والأولاد، والأقارب والجيران والأقرب منك فالأقرب، لا عن ضعف وتنازل، لكن عن قوة وتسام "وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا"(رواه مسلم).

 

قال ابن سعدي: "معاملة الناس فيما بينهم على درجتين: إما عدل وإنصاف واجب، وهو أخذ الواجب وإعطاء الواجب.. وإما فضل وإحسان، وهو إعطاء ما ليس بواجب، والتسامح في الحقوق والغضّ مما في النفس.. فلا ينبغي للإنسان أن ينسى هذه الدرجة ولو في بعض الأوقات، وخصوصاً لمن بينك وبينه معاملة أو مخالطة، فإن الله مُجازٍ المحسنين بالفضل والكرم"(تفسير ابن سعدي: ص224).

 

عباد الله: ومن معاني العفو في الآية: الترك والمحو، وهو تركك إنساناً استوجب العقوبة فعفوت عنه، مع القدرة عليه، ومنه قول الله -تعالى-: (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ)[البقرة:109]، والعفو صفة من صفات الله -تعالى-، بمعنى: التجاوز عن الذنب وترك العقاب عليه، وحظّ العبد من ذلك أن يعفو عن كل مَن ظلمه بل يحسن إليه، كما يُرى اللهُ محسناً في الدنيا إلى العصاة والكفرة غير معاجل لهم العقوبة.

 

قال معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنهما-: "عليكم بالحِلْم والاحتمال حتى تمكنكم الفرصة، فإذا أمكنتكم فعليكم بالصفح والإفضال".

 

عباد الله: لما حثَّ الله -تعالى- نبيه وأُمّته بأخذ العفو والتجاوز، أمرهم أمر وجوب ولزوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال -سبحانه- (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ)[الأعراف:199]؛ والعرف هو المعروف، وهو اسم جامع لكل طاعة وقربة، ويدخل فيه: كل خصلة جميلة تستحسنها العقول، وتطمئن إليها النفوس.

 

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شعار الأمة، وعنوان خيريتها، فبكمال شريعتهم وتمام المنة عليهم يتواصون على الخير، ويذكر بعضهم بعضاً حتى تستقيم ديانتهم، ويصلح مجتمعهم، ويعمهم الخير والرضا (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ)[الحج:41].

 

ومن المعروف إصلاح نفسك، وتربية ولدك، وحِفْظ أمانتك، وصِدْق قولك، وطيب مكسبك، وصلة رحمك، وإحسانك لجارك، ودفع أذيتك عن غيرك، وسائر ما فيه صلاحك وأمن مجتمعك.. قال شيخ الإسلام: "وإذا كان جماع الدين وجميع الولايات هو أمر ونهي، فالأمر الذي بعث الله به رسوله -صلى الله عليه وسلم- هو الأمر بالمعروف، والنهي الذي بعث به هو النهي عن المنكر".

 

 اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم..

 

 

الخطبة  الثانية:  

 

عباد الله: الساعي في إصلاح نفسه ونصح غيره، لن يسلم من جاهلين أغرار يتربصون به، يفرحون بعثرته، ويشيعون زلته، ويشمتون بسيره ومنهجه، فجاء ختام الآية الكريمة، بالإعراض عنهم، وعدم الالتفات إليهم (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ)[الأعراف:199]؛ حتى لا ينقطع السعي أو يضعف السير، وتتباطأ الخطى؛ (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ)[القصص:55].

 

فقد تُبْتَلى بجاهل لا يَعْرف قدرك، ولا يحفظ مكانتك، فاعفُ وأعرض؛ فقد جُذِبَ رداءُ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- حتى حَزَّ في عنقه، وقيل له: أعطني من مال الله .. وما زاده إلا إعراضاً وعفواً، وإن اتُّهمت برياء وطلب السمعة، فقد قال سيدهم لسيد البشر: "هذه قسمة ما أريد بها وجه الله"(وراه مسلم).

 

ومن ادعى حيفك مع الأقربين، وعدم إنصافك مع الآخرين، فقد ادعى على مَن هو خير مني ومنك بقوله: "أن كان ابن عمتك!!"، وفي الأثر: "وإن امرُؤ سبَّكَ بما يعلمُ فيكَ،  فلا تَسبَّهُ بما تعلمُ فيهِ؛ فإن أجرهُ لكَ، ووبالهُ على من قالهُ"(رواه أبو داود 4084، والترمذي2721، وصححه الألباني في الصحيحة).

 

وقد كان رسولنا -صلى الله عليه وسلم- لا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلماً، فهو -عليه الصلاة والسلام- "ليس بفظّ ولا غليظ، ولا سخاب في الأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح"(رواه البخاري).    

 

وبعد عباد الله: الناس رجلان: فرجل محسن، فخُذْ ما عفا لك من إحسانه، ولا تُكلّفه فوق طاقته ولا ما يحرجه. وإما مسيئ فمُرْه بالمعروف، فإن تمادى على ضلاله، واستعصى عليك، واستمر في جهله، فأَعْرِض عنه، فلعل ذلك أن يَرُدّ كَيْده (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)[فصلت:34].

 

 هذا وصلوا وسلموا....

 

 

المرفقات

تفسير (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين).pdf

تفسير (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين).doc

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات