تغير الفتن

عبد العزيز بن عبد الله السويدان

2022-10-04 - 1444/03/08
عناصر الخطبة
1/أصناف العلماء 2/الابتلاء باتباع الحق 3/أنواع الفتن 4/أقسام المتمردين على فتاوى العلماء 5/أحكام تغيير الفتوى 6/العلل المعتبرة في الشرع 7/غربة الإسلام 8/دور وسائل الإعلام في التمرد على ثوابت الدين

اقتباس

أيها الإخوة الكرام: كثيرا ما نسمع نداءات وأقوالا عبر الفضائيات وغيرها من وسائل الإعلام، تشجع على التجديد في النظر الشرعي، لمجاراة العصر، وتحث على فقه جديد أكثر انفتاحا، ويستشهدون بالعبارات المشهورة: "الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان" إذاً لابد من فقه جديد. ويحاول أصحابها التمرد على ما يطلقون عليه الفتاوى التقليدية، وأصحاب هذه الأقوال على قسمين: إما أصحاب أهواء، وإما...

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1].

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70-71].

 

أما بعد:

 

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

 

وبعد:

 

فإن الله -تعالى- يبتلي عباده بصدق نيتهم، وحسن مسلكهم، ومما يبتلي به العباد لتمحيص هذين الأمرين تنصيبه لعلماء يتفاوتون في ديانتهم، ومدى تمسكهم بمنهج النبي -صلى الله عليه وسلم-، وصحابته الكرام؛ فالعلماء عالمان: عالم معروف بعبادته وورعه، ذو منهج قويم، متبع به نبيه، وسلف الأمة الصالح، وعالم معروف بقلة ورعه، وضعف عبادته، وتركه لكثير من سنن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ذو منهج آخر، يراعي فيه إلى حد كبير أهواء الناس، أين كانوا.

 

ولذلك صنف بعض العلماء على أنهم علماء سوء، أو علماء خير، وهم -كما تقدم- يتفاوتون في درجات الخير، ودرجات السوء.

 

وقد صح في مسلم أنه صلى الله عليه وسلم في بيانه لأنواع الناس حسابا يوم القيامة، ذكر ضمن أول الناس يقضى يوم القيامة: "ورجل تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، فقال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار".

 

نسأل الله العافية.

 

وفي سنن ابن ماجة بسند صحيح قال عليه الصلاة والسلام: "من تعلم العلم ليباهي به العلماء، أو ليماري به السفهاء، أو يصرف به وجوه الناس إليه، فهو في النار".

 

فالناس يبتلون في صدق إتباعهم للحق أمام ما يصدر من آراء وفتاوى هذين الصنفين من العلماء.

 

ولولا ما يتعرض له الناس اليوم من أثر عظيم، تقوم به الفضائيات لزعزعة ثقتهم بالمنهج القويم، والتشويش عليهم باستضافتها لمن هب ودب، ليفتي في عسير المسائل، بل وانتقائها من يتماشى مع غايات أصحاب الفضائيات لإبداء الرأي الشرعي، لولا هذا الوضع الخطير لما قدمت هذا الموضوع على غيره من المواضيع المهمة.

 

وهو موضوع يصعب طرحه لصعوبة استيعاب الناس للعبارات الأصولية، لكن هذه محاولة لإيصال الموضوع، أو إيصال مفهوم الموضوع، مع الأخذ في الاعتبار تسهيل هذه العبارات، ما أمكن.

 

أيها الإخوة الكرام: كثيرا ما نسمع نداءات وأقوالا عبر الفضائيات وغيرها من وسائل الإعلام، تشجع على التجديد في النظر الشرعي، لمجاراة العصر، وتحث على فقه جديد أكثر انفتاحا، ويستشهدون بالعبارات المشهورة: "الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان" إذاً لابد من فقه جديد.

ويحاول أصحابها التمرد على ما يطلقون عليه الفتاوى التقليدية، وأصحاب هذه الأقوال على قسمين: إما أصحاب أهواء، وإما أناس يجهلون قواعد الشريعة وأصولها، ويحسبون أن الفتوى يجب أن تتغير كي يتطور المجتمع.

 

أيها الإخوة: إن من الأمور المقررة في الشريعة: أن الحكم الشرعي ليس خاضعا لفلسفة الفقيه، أو شهوته، وإنما أصله الكتاب والسنة، وإجماع الأمة في قرونها الثلاثة المفضلة.

 

والحكم الشرعي ذاته ثابت لا يتغير، متى ما وجدت العلة الشرعية.

 

والعلة الشرعية هي السبب أو المناط الذي به يحكم على المسألة؛ كعلة مضرة النفس مثلا، أو قتلها، هناك نصوص شرعية ثابتة تمنع قتل النفس أو أذى النفس.

 

فهذه العلة من أجلها حرم شرب السم مثلا، أو شرب الدخان مثلا.

 

حكم العلماء على هذين الأمرين، مثلا شرب الدخان، أو السم، بالحرمة من أجل أن هذه العلة الموجودة فيه.

 

أو علة منع الظلم، والتي من أجلها وجب وجوبا نصب القضاة.

 

أو علة التشبه بالكفار مثلا، والتي جرى من أجلها تحريم القزع، وتحريم الاحتفال بعيد الميلاد.

 

وكعلة الحفاظ على طهارة القلب، وحفظ الفرج، والتي من أجلها حرم النظر إلى المرأة من غير المحارم، ووجب عليها الحجاب.

 

أو غيرها من العلل المعتبرة من الكتاب والسنة، ومقاصد الشريعة.

 

وكل ما أدى إلى وجود هذه العلل من وسائل، أو أسباب، كان له نفس الحكم، إما نهيا، أو وجوبا، أو كراهية، أو استحبابا.

 

وبهذا يتبين السبب مثلا في تحريم العلماء قيادة المرأة للسيارة، فمجرد قيادة المرأة للسيارة ليس هو سبب التحريم، بل الأصل الإباحة، لكن السبب أو العلة هو أن قيادتها للسيارة اليوم، وإن كان فيها مصلحة ما، إلا أن مفاسدها أكبر بكثير، ودفع المفسدة مقدم على جلب المصلحة، وطالما أن قيادتها للسيارة وسيلة إلى الفتنة فيها، ووسيلة قوية الاحتمال إلى تعرضها لأنواع من الأذى، وليس هناك ضرورة تبيح المحذور، خرج العلماء الأجلاء بهذه الفتوى.

 

والحاصل أن الحكم الشرعي ذاته ثابتا لا يتغير متى ما وجدت أمثال هذه العلل الشرعية فيما يستجد من المسائل والنوازل.

 

وإنما قد تتغير العلة في النازلة أو الحالة التي تحتاج إلى حكم شرعي، أو تطرأ عليها عوارض لها وزنها في الشرع عند ذلك يتغير الحكم تبعا لتغير العلة، أو دخول تلك العوارض عليها.

 

ومن ثم تتغير الفتاوى والأحكام بناءا على ذلك، وهذا -أيها الإخوة- أمر معقول ومعمول به، حتى عند أهل القانون الوضعي.

 

فتجد القاضي البريطاني مثلا الذي يعرف القوانين يحكم في قضية بحكم، بينما يحكم هو أو قاضي آخر في صورة مماثلة بحكم مختلف، لماذا؟

 

لسبب طارئ يرى أهمية مراعاته بالصورة الجديدة للحالة، فلو لم يطرأ هذا السبب لبقى الحكم في هذه المسألة على أصله، وحينئذ يتبين أن الحكم ذاته لم يتغير، وإنما الذي تغير هو الحالة ذاتها، ومن ثم استدعت حكما آخر.

 

فكذلك الحكم الشرعي لا يتغير ما دامت العلل لم تتغير، فحكم المسكر مثلا الذي هو التحريم لا يتغير في أية مادة تسكر، ومهما تغير الزمان والمكان فلن تتغير الفتاوى، ما دامت المادة تسكر.

 

وكذلك حكم الحجاب هو ثابت لا يتغير ما دامت علة الحفاظ على طهارة القلب قائمة: (ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) [الأحزاب: 53].

 

وعلة حفظ الفرج قائمة: (وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ)[النــور: 31].

 

فالعلل المعتبرة في الشرع إذا وجدت، فالأحكام تبعا مرتبطة بها، لا تنفك عنها في كل زمان ومكان، وهي ثابتة بثبات تلك العلل، ولكن متى تغيرت صور المسائل وعللها تغير الحكم، سواء تغير الزمان أو لم يتغير الزمان.

 

وقد دأب بعض أصحاب الأهواء ممن يصطادون في الماء العكر، ويفترون على العلماء الكذب، دأبوا على إثارة الشبهات، وتداول البهتان.

 

فمثلا يزعم بعضهم في مقال له أن الحكم الشرعي أو فتوى العلماء بتحريم تعليم البنات في هذه البلاد سابقا، تغيرت بتغير الزمان، ومن ثم ينبغي أن تتغير فتاوى هذا العصر بتغير الزمان!.

 

والصحيح -أيها الإخوة-: أن تعليم المرأة في بلدنا لم يحرمه أحد من العلماء المعتبرين كما يزعم أولئك، وغاية ما في الأمر أن الاختلاط بين الجنسين في بعض البلدان حولنا كان هو السمة العامة في تعليم النساء نظاميا في تلك الحقبة التي منع فيها التعليم.

 

والمواطنين أنفسهم من غير فتوى هم الذين استنكروا تعليم المرأة خوفا عليها من الاختلاط حمية وغيرة عليها.

 

فلما اتفق العلماء والولاة على ضمانات خلو التعليم من مفسدة الاختلاط وتوابعها، مثل قلة الاحتشام، وما يترتب عليه.

 

لم يكتف العلماء بالسماح بتعليم المرأة، لا، بل حثوا عليه، لا، بل قادوا هم مؤسساتها الحكومية ومسيرتها التعليمية، وأشرف عليها مفتي الديار، ورئيس القضاة حينها الشيخ/ العلامة محمد بن إبراهيم بنفسه -رحمه الله-.

 

فلما رأى الناس ذلك اطمئنوا إلى التعليم الحكومي وسلامته من الاختلاط وتوابعه، فألحق كثير منهم بناته بتلك المدارس.

 

وانتشرت في البلاد حتى وصلت إلى ما هي عليه الآن -ولله الحمد والمنة-.

 

فالمنع آنذاك كان مستند إلى سبب وجيه لا يتعلق بالتعليم ذاته، بل إلى آليته وسلامته من المحذور، وكان الإذن به وتنفيذه مستندا إلى ضمان خلوه من المحذور.

 

ومن يرجع إلى فتاوى الشيخ -رحمه الله- يجد هذا واضحا غاية الوضوح، فقد صرح بالعلة كعادته تصريحا لا لبس فيه.

 

لكن أهل الأهواء كعادتهم يتحينون الفرص، ويخفون الحقائق، لتحقيق أهوائهم.

 

نعود ونقول إذا ورد سؤال: لماذا منع الشيخ فلان الاكتتاب في الشركة الفلانية ثم أباحها بعد ذلك؟!

 

نقول: الشيخ الفلان منعها من أجل الربا، فلما تخلصت تلك الشركة من الربا في نظره أجازها، فمدار الحكم على وجود الربا من عدمه ففتواه لم تتغير، بل تغير وضع الشركة فاحتاجت إلى حكم آخر، ولو عادت تلك الشركة إلى ما كانت عليه لعاد إلى ما أفتى به من قبل، وهكذا.

 

فعامة الناس ممن لا يدركون عبارات الفقهاء كلها ليسوا مطالبين أصلا بالتفقه فيها، وإنما الواجب عليهم سؤال أهل العلم عما جهلوا، والتفقه بقدر ما يقومون به عبادتهم؛ لقوله تعالى: (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) [الأنبياء: 7].

 

وقوله: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) [التوبة: 122].

 

فالعلماء هم الذين رد الله المسلم إليهم عند عدم العلم، ولذا لزم المسلم الصالح أن يرتبط بأهل العلم والديانة، وأن يتحرى بسؤاله، وأخذه بالفتوى من بعلمهم ودينهم ممن شهد لهم الناس بذلك، بلا حزبية، ولا تعصب لعرق، ولا جنس، وإنما يعرف الرجال بالحق، لا الحق بالرجال.

 

أسأل الله -تعالى- أن يرينا الحق حقا، ويرزقنا إتباعه، والباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه.

 

وأستغفر الله إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

 الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

 

أما بعد:

 

أيها الإخوة الكرام: نعيش غربة واسعة الأفق، متعددة الجوانب والوجوه، وقد صح في مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: "بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ غريبا، فطوبى للغرباء".

 

وفي سنن الترمذي: "يأتي على الناس زمان الصابر فيه على دينه كالقابض على الجمر".

 

إن التيار الجارف الذي تقوده كثير من الفضائيات لزعزعة ثوابت الدين، وتشكيك الناس في جدوى طلب الفتوى، من خلال استضافتهم لرموز العلمانية، ودعاة التحرير، ليناقشوا مثل هذا الموضوع، فيسفهوا أراء العلماء العدول، وإبرازها أيضا لشخصيات تنتسب إلى العلم الشرعي، ولكنها ضعيفة الطرح، رخوة المنهج، قليلة الورع.

 

إن هذا التيار الجارف واقع لابد للمسلم من التعامل معه بحكمة وصبر وفطنة، فالمسلم يبتلى في صدق نيته في طلب الحق.

 

وفي نهاية المطاف، ومهما حصل فليس أغلى للمسلم من دينه.

 

كل الذنوب فإن الله يغفرها *** إن شيع المرء إخلاص وإيمان

وكل كسر فإن الله يجبره *** وما لكسر قناة الدين جبران

 

فالمحرمات والكبائر في أصل الصحابة والتابعين قبل خمسة عشر قرنا لا يمكن أن تكون اليوم مباحة أو مسنونة، بحجة أن الزمان تغير، هذا هذيان، لا عقل لصاحبه.

 

فما الذي يبقى من الدين لو تغير كلما مر الزمان؟ وما الفائدة من قوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا)[المائدة: 3].

 

أسأل الله -تعالى- أن يصلح الحال.

 

اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك.

 

 

 

المرفقات

الفتن

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات