تعليق الزوجات (2) أسبابه وآثاره

الشيخ د إبراهيم بن محمد الحقيل

2022-10-10 - 1444/03/14
عناصر الخطبة
1/ المقصود الأسمى من الزواج 2/ الحل الأمثل عند عدم توافق الزوجين 3/ التحذير من سلوك بعض الرجال في إيذاء زوجاتهم 4/ أسباب تعليق الزوجات 5/ وجوب الإحسان إلى الزوجة وعدم ظلمها 6/ الآثار السيئة لتعليق الزوجة وظلمها.

اقتباس

بَعْض الْأَزْوَاجِ يُضَارُّ زَوْجَتَهُ فِي الْإِمْسَاكِ وَفِي الطَّلَاقِ؛ فَإِنْ أَمْسَكَهَا عَذَّبَهَا وَأَهَانَهَا، وَمَنَعَهَا حُقُوقَهَا، وَأَعْرَضَ عَنْهَا، فَلَا هِيَ زَوْجٌ وَلَا مُطَلَّقَةٌ، وَإِنْ طَلَّقَهَا تَلَعَّبَ بِهَا، وَأَتْلَفَ أَعْصَابَهَا، وَجَعَلَ طَلَاقَهَا مَجَالًا لِلِانْتِقَامِ مِنْهَا، فَمَا تَكَادُ تَفْرَحُ بِالْخَلَاصِ مِنْهُ حَتَّى يُرَاجِعَهَا مَرَّةً أُخْرَى فِي آخِرِ عِدَّتِهَا، وَهُوَ لَا يُرِيدُ مُرَاجَعَتَهَا إِلَّا لِمُكَايَدَتِهَا، وَالْإِضْرَارِ بِهَا، وَاللهُ -تَعَالَى- نَهَى عَنْ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ، وَعَدَّهُ ظُلْمًا وَلَعِبًا بِآيَاتِ اللهِ -تَعَالَى- وَأَحْكَامِهِ...

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ الْخَلَّاقِ الْعَلِيمِ (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا) [الأعراف: 189] فَهِيَ سَكَنُهُ وَهُوَ سَكَنُهَا، وَهِيَ لِبَاسُهُ وَهُوَ لِبَاسُهَا (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ) [البقرة: 187]، نَحْمَدُهُ حَمْدًا يَلِيقُ بِهِ، وَنَشْكُرُهُ عَلَى فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ وَنِعَمِهِ.

 

 وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ جَعَلَ الزَّوَاجَ رَاحَةً وَسَعَادَةً لِلزَّوْجَيْنِ، وَجَعَلَ الطَّلَاقَ خَلَاصًا لِلْمُتَنَافِرَيْنِ، وَبَيَّنَ أَحْكَامَ الشِّقَاقِ لِلْمُتَنَازِعَيْنِ؛ (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [النساء: 176]، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ عَظَّمَ شَأْنَ النِّسَاءِ، وَأَوْصَى الرِّجَالَ بِهِنَّ، وَحَثَّ عَلَى حُسْنِ عِشْرَتِهِنَّ، وَرَفَعَ ظُلْمَ الْجَاهِلِيَّةِ عَنْهُنَّ، وَقَالَ: «إِنَّمَا النِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِ» صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

 

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ، وَأَدُّوا الْحُقُوقَ وَرَاقِبُوهُ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1].

 

أَيُّهَا النَّاسُ: حِينَ شَرَعَ اللهُ -تَعَالَى- الزَّوَاجَ أَرَادَ إِسْعَادَ المَرْأَةِ بِالرَّجُلِ، وَإِسْعَادَ الرَّجُلِ بِالمَرْأَةِ، وَجَعَلَ الرَّابِطَ بَيْنَهُمَا شَرْعًا مُقَدَّسًا، (وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا) [النساء: 21]، وَلَكِنْ مَا كُلُّ رَجُلٍ يَصْلُحُ لِكُلِّ امْرَأَةٍ، وَلَا كُلُّ امْرَأَةٍ تَصْلُحُ لِكُلِّ رَجُلٍ؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ» (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).

 

فَإِذَا لَمْ يَتَوَافَقِ الزَّوْجَانِ لِأَمْرٍ يَعْرِفَانِهِ أَوْ لَا يَعْرِفَانِهِ كَانَ فِي الْفِرَاقِ رَاحَةٌ لِكِلَيْهِمَا؛ فَإِنَّ بَقَاءَ المَرْأَةِ مَعَ رَجُلٍ لَا يُرِيدُهَا أَوْ هِيَ لَا تُرِيدُهُ عَذَابٌ لَهُمَا جَمِيعًا. وَكَمَا كَانَ الْإِقْبَالُ عَلَى الزَّوَاجِ بِشَوْقٍ وَفَرَحٍ وَوِئَامٍ؛ فَإِنَّ الْفِرَاقَ لَا بُدَّ أَنْ يَقَعَ فِي جَوٍّ مِنَ التَّفَاهُمِ وَالِاحْتِرَامِ، يَتَمَنَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْخَيْرَ لِصَاحِبِهِ، وَيَنْظُرُ كُلٌّ مِنْهُمَا إِلَى صَفْحَةِ حَسَنَاتِ صَاحِبِهِ فَيُعَامِلُهُ بِهَا، وَيَطْوِي مَسَاوِئَهُ وَيَسْتُرُهَا (وَلَا تَنْسَوُا الفَضْلَ بَيْنَكُمْ) [البقرة: 237].

 

هَذَا مَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الطَّلِيقَيْنِ، وَلَكِنَّ بَعْضَ الْأَزْوَاجِ يُضَارُّ زَوْجَتَهُ فِي الْإِمْسَاكِ وَفِي الطَّلَاقِ؛ فَإِنْ أَمْسَكَهَا عَذَّبَهَا وَأَهَانَهَا، وَمَنَعَهَا حُقُوقَهَا، وَأَعْرَضَ عَنْهَا، فَلَا هِيَ زَوْجٌ وَلَا مُطَلَّقَةٌ، وَإِنْ طَلَّقَهَا تَلَعَّبَ بِهَا، وَأَتْلَفَ أَعْصَابَهَا، وَجَعَلَ طَلَاقَهَا مَجَالًا لِلِانْتِقَامِ مِنْهَا، فَمَا تَكَادُ تَفْرَحُ بِالْخَلَاصِ مِنْهُ حَتَّى يُرَاجِعَهَا مَرَّةً أُخْرَى فِي آخِرِ عِدَّتِهَا، وَهُوَ لَا يُرِيدُ مُرَاجَعَتَهَا إِلَّا لِمُكَايَدَتِهَا، وَالْإِضْرَارِ بِهَا، وَاللهُ -تَعَالَى- نَهَى عَنْ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ، وَعَدَّهُ ظُلْمًا وَلَعِبًا بِآيَاتِ اللهِ -تَعَالَى- وَأَحْكَامِهِ.

 

 ذَلِكَ أَنَّ الطَّلَاقَ وَالرَّجْعَةَ شُرِعَا لحِكْمَةٍ أَرَادَهَا الشَّارِعُ الْحَكِيمُ سُبْحَانَهُ؛ فَإِذَا حَرَّفَهَا الْأَزْوَاجُ عَنِ الحِكْمَةِ الَّتِي شُرِعَتْ مِنْ أَجْلِهَا، وَجَعَلُوهَا وَسِيلَةَ انْتِقَامٍ وَتَشَفٍّ مِنَ الزَّوْجَةِ كَانَ ذَلِكَ اسْتِهْزَاءً بِأَحْكَامِ اللهِ –تَعَالَى-؛ كَمَا قَالَ -سُبْحَانَهُ- نَاهِيًا عَنْ ذَلِكَ وَمُحَذِّرًا مِنْهُ (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آَيَاتِ اللهِ هُزُوًا) [البقرة: 231].

 

وَلِتَعْلِيقِ الزَّوْجَةِ أَسْبَابٌ، مِنْهَا: أَنْ يَتَزَوَّجَ الرَّجُلُ بِأُخْرَى فَيَنْسَى الْأُولَى، أَوْ لَا تُعْجِبُهُ الثَّانِيَةُ فَيَرْجِعُ لِلْأُولَى وَيَنْسَى الثَّانِيَةَ، أَوْ يَنْصَرِفَ إِلَى إِحْدَى زَوْجَاتِهِ دُونَ غَيْرِهَا، وَلِمَظَنَّةِ وُقُوعِ ذَلِكَ بَيْنَ المُعَدِّدِينَ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِمْ حَذَّرَهُمُ اللهُ -تَعَالَى- مِنْ ذَلِكَ (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ المَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالمُعَلَّقَةِ) [النساء: 129]، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- فِي مَعْنَى المُعَلَّقَةِ: «لَا مُطَلَّقَةٌ وَلَا ذَاتُ بَعْلٍ».

 

وَالْوَاجِبُ عَلَى المُعَدِّدِينَ أَنْ يَتَّقُوا اللهَ -تَعَالَى- فِي زَوْجَاتِهِمْ، وَأَنْ يَتَحَرَّوُا الْعَدْلَ بَيْنَهُنَّ، قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ فَمَالَ إِلَى إِحْدَاهُمَا، جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَشِقُّهُ مَائِلٌ» (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ).

 

وَمِنَ الرِّجَالِ مَنْ إِذَا أَرَادَ التَّعَدُّدَ فَثَارَتْ زَوْجَتُهُ الْأُولَى عَلَيْهِ؛ انْتَقَمَ مِنْهَا بَعْدَ زَوَاجِهِ بِالثَّانِيَةِ فَعَلَّقَهَا، وَاتَّخَذَ غَضَبَهَا وَاعْتِرَاضَهَا مُسَوِّغًا لِهَجْرِهَا وَتَعْلِيقِهَا، وَهَذَا لَا يَجُوزُ.

 

وَمِنْ أَسْبَابِ التَّعْلِيقِ: أَنْ تَكُونَ المَرْأَةُ رَاغِبَةً عَنِ الرَّجُلِ لَا تُرِيدُهُ، فَيُعَلِّقُهَا انْتِقَامًا مِنْهَا. وَلْيَعْلَمْ مَنْ هَذَا حَالُهُ أَنَّ الْقُلُوبَ بِيَدِ اللهِ –تَعَالَى-، وَهُوَ مَنْ يَمْلَؤُهَا حُبًّا أَوْ بُغْضًا، فَلَا يُكْرِهْهَا أَوْ يَنْتَقِمْ مِنْهَا عَلَى مَا لَا تَمْلِكُ، عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقْسِمُ فَيَعْدِلُ، وَيَقُولُ: «اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي، فِيمَا أَمْلِكُ فَلَا تَلُمْنِي، فِيمَا تَمْلِكُ، وَلَا أَمْلِكُ» (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ).

 

فَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَا يَمْلِكُ قَلْبَهُ فَغَيْرُهُ مِنْ بَابٍ أَوْلَى، وَقَلْبُ المَرْأَةِ أَضْعَفُ مِنْ قَلْبِ الرَّجُلِ، فَلْيَعْذُرْهَا فِي رَغْبَتِهَا عَنْهُ؛ فَلَنْ تُسَارِعَ المَرْأَةُ إِلَى هَدْمِ بَيْتِهَا بِيَدَيْهَا، وَمُفَارَقَةِ بَعْلِهَا بِاخْتِيَارِهَا؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ الْأَكْبَرَ بِالطَّلَاقِ وَاقِعٌ عَلَيْهَا، لَوْلَا أَنَّهَا عَجَزَتْ عَنْ قَلْبِهَا أَنْ يُطَاوِعَهَا عَلَى زَوْجِهَا.

 

وَالرَّجُلُ الْكَرِيمُ هُوَ الَّذِي إِذَا رَغِبَتِ المَرْأَةُ عَنْهُ رَغِبَ هُوَ عَنْهَا، وَفَارَقَهَا وَلَوْ كَانَ يُحِبُّهَا، وَحَرِيٌّ أَنْ يُعَوِّضَهُ اللهُ -تَعَالَى- أَحْسَنَ مِنْهَا، وَيَشْفِيَ قَلْبَهُ مِنْ تَعَلُّقِهِ بِهَا، وَلمَّا رَغِبَتِ امْرَأَةُ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ عَنْهُ، وَأَصَرَّتْ عَلَى ذَلِكَ قَالَ لَهَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟» قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «اقْبَلِ الحَدِيقَةَ وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً» (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).

 

وَانْتِقَامُهُ مِنْهَا بِتَعْلِيقِهَا لَنْ يُغَيِّرَ قَلْبَهَا تُجَاهَهُ بَلْ سَيَزِيدُ مِنْ كَرَاهِيَتِهَا لَهُ، كَمَا أَنَّهُ سَيَمْلَأُ قُلُوبَ وَالِدَيْهَا وَأَهْلِهَا عَلَيْهِ، فَيَذْكُرُونَهُ بِشَرٍّ، وَيَدْعُونَ عَلَيْهِ، وَخَيْرٌ لَهُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُطَلِّقَهَا وَلَا يُعَلِّقَهَا.

 

وَمِنَ الرِّجَالِ مَنْ يَتْرُكُ زَوْجَتَهُ كَالمُعَلَّقَةِ، فَلَا يُعْطِيهَا وَأَوْلَادَهَا مِنَ النَّفَقَةِ مَا يَكْفِيهِمْ، إِمَّا لِبُخْلِهِ، وَإِمَّا لِإِهْدَارِهِ المَالَ عَلَى نَفْسِهِ وَرُفْقَتِهِ، فَيُضَيِّعُ مَنْ يَعُولُ؛ وَقَدْ قَالَ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «كَفَى بِالمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ» (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ).

 

وَمِنَ الرِّجَالِ مَنْ يُنْفِقُ عَلَى زَوْجِهِ وَوَلَدِهِ وَلَكِنَّهُ لَا يُعَاشِرُ امْرَأَتَهُ وَلَا يُجَالِسُهَا، وَلَا يُعْطِيهَا حُقُوقَهَا فِي الْعَطْفِ وَالْحَنَانِ وَالْفِرَاشِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى ذَلِكَ، فَيَتَّخِذُ خَلِيلَاتٍ سِوَاهَا -وَالْعِيَاذُ بِاللهِ مِنْ ذَلِكَ- أَوْ يَتَّخِذُ رُفْقَةً يُسَامِرُهُمْ كُلَّ لَيْلَةٍ، وَيَتْرُكُ مُسَامَرَةَ زَوْجَتِهِ، وَقَدْ تَكُونُ حَاجَتُهَا لِذَلِكَ أَشَدَّ مِنْ حَاجَتِهَا لِلْمَالِ وَالنَّفَقَةِ، فَهَذَا تَعْلِيقٌ لَهَا.

 

وَتَدَخُّلَاتُ أَهْلِ الزَّوْجَةِ فِي حَيَاتِهَا الزَّوْجِيَّةِ تُؤَدِّي فِي الْغَالِبِ إِلَى طَلَاقِهَا أَوْ تَعْلِيقِهَا، وَكَمْ مِنْ آبَاءٍ وَأُمَّهَاتٍ يَجْنُونَ عَلَى بَنَاتِهِمُ المُتَزَوِّجَاتِ بِتَصَرُّفَاتٍ سَيِّئَةٍ مَعَ الزَّوْجِ تُؤَدِّي إِلَى كَرَاهِيَتِهِ لِابْنَتِهِمْ، وَالِانْتِقَامِ مِنْهُمْ بِهَا طَلَاقًا أَوْ تَعْلِيقًا؛ فَتَتَجَرَّعُ المِسْكِينَةُ عَلْقَمَ مَا جَنَاهُ أَهْلُهَا عَلَيْهَا وَعَلَى زَوْجِهَا.

 

وَالْوَاجِبُ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَفْصِلَ بَيْنَ مُعَامَلَةِ زَوْجَتِهِ لَهُ وَمُعَامَلَةِ أَهْلِهَا لَهُ. فَإِنْ أَحْسَنَتْ عِشْرَتَهُ فَلَا يُؤَاخِذُهَا بِجَرِيرَةِ أَهْلِهَا، وَلَا سِيَّمَا إِذَا قَدَّمَتْهُ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ تَسْمَعْ قَوْلَهُمْ فِيهِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى عَقْلِهَا، فَكَيْفَ يُفَرِّطُ فِيهَا، أَوْ يُعَلِّقُهَا بِجَرِيرَةِ أَهْلِهَا؟! وَالْقَاعِدَةُ فِي ذَلِكَ هِيَ قَوْلُ اللهِ تَعَالَى: (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) [البقرة: 229]  فَلَا يَحِلُّ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَتَجَاوَزَهَا فِي مُعَامَلَتِهِ لِزَوْجِهِ، فَإِمَّا أَمْسَكَهَا وَأَكْرَمَهَا وَأَعْطَاهَا حُقُوقَهَا، وَإِمَّا مَتَّعَهَا وَسَرَّحَهَا، وَلَهُ فِي سِوَاهَا غِنًى عَنْ ظُلْمِهَا وَتَعْلِيقِهَا.

 

وَلِلْمَرْأَةِ أَنْ تُسْقِطَ مَا شَاءَتْ مِنْ حُقُوقِهَا لِتَبْقَى فِي عِصْمَةِ زَوْجِهَا إِذَا رَأَتْ مِنْهُ إِعْرَاضًا عَنْهَا وَهُيَ تُرِيدُ الْبَقَاءَ مَعَهُ، كَإِسْقَاطِهَا المَبِيتَ أَوِ النَّفَقَةَ أَوِ السُّكْنَى أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، وَيَكُونُ بِرِضَاهَا، وَأَصْلُ ذَلِكَ قَوْلُ اللهِ تَعَالَى: (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) [النساء: 128].

 

بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ...

 

 

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

 

الْحَمْدُ للهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

 

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر:18].

 

أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: لِتَعْلِيقِ الزَّوْجَةِ آثَارٌ سَيِّئَةٌ عَلَى الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ وَأَهْلِهَا وَأَوْلَادِهَا وَعَلَى المُجْتَمَعِ.

 

أَمَّا الزَّوْجُ فَتُدَنَّسُ سُمْعَتُهُ، وَيُلَاكُ عِرْضُهُ، إِذَا عَلِمَ النَّاسُ سُوءَ فِعْلِهِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا أَشَاعَتْ زَوْجَتُهُ تَعْلِيقَهُ لَهَا، وَمَنْعَهُ حُقُوقَهَا، وَتَرْكَ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا وَوَلَدِهَا. وَعِرْضُ المَرْءِ كَرِيمٌ عَلَيْهِ، فَلْيَحْفَظْهُ مِنْ سُوءِ الْقَوْلِ فِيهِ. هَذَا غَيْرُ مَا يَكْتَسِبُهُ مِنَ الْإِثْمِ بِسَبَبِ تَعْلِيقِهِ لِزَوْجَتِهِ، وَتَقْصِيرِهِ فِي حُقُوقِ أَوْلَادِهِ، وَهَذَا ظُلْمٌ لَا يَرْضَاهُ اللهُ تَعَالَى.

 

وَأَمَّا الزَّوْجَةُ فَهِيَ ضَحِيَّةُ هَذَا الظُّلْمِ هِيَ وَأَوْلَادُهَا، وَلَا سِيَّمَا أَنَّ أَهْلَهَا قَدْ لَا يَقْبَلُونَ بِهَا عِنْدَهُمْ مَا دَامَتْ ذَاتَ زَوْجٍ، وَرُبَّمَا ظَنُّوا أَنَّ الْخَلَلَ مِنْهَا لَا مِنْ زَوْجِهَا. فَإِنْ قَبِلُوهَا رَفَضُوا أَوْلَادَهَا مِنْهُ، وَطَالَبُوهَا بِرَمْيِهِمْ عَلَى أَبِيهِمْ، فَيَتَقَاذَفُهُمْ أَهْلُ الزَّوْجِ وَأَهْلُ الزَّوْجَةِ، وَمَا أَشَدَّ أَلَمَ ذَلِكَ عَلَى الْأَوْلَادِ حِينَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ غَيْرُ مَرْغُوبِينَ عِنْدَ أَعْمَامِهِمْ وَلَا عِنْدَ أَخْوَالهِمْ! وَكَمْ ضَاعَ مِنْ أَوْلَادٍ، وَصَارُوا عَالَةً عَلَى المُجْتَمَعِ بِسَبَبِ خِلَافَاتِ آبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ!

 

وَالزَّوْجَةُ المُعَلَّقَةُ لَا تَجِدُ مَنْ يُنْفِقُ عَلَيْهَا وَوَلَدِهَا، وَلَا مَنْ يَرْعَاهَا وَيَقُومُ بِشُئُونِهَا؛ لِأَنَّ نَفَقَتَهَا وَالْقِيَامَ عَلَيْهَا مَنُوطٌ بِزَوْجِهَا الَّذِي تَخَلَّى عَنْهَا، وَرُبَّمَا شَحَّ أَهْلُهَا عَلَيْهَا، وَتَذَمَّرُوا مِنْ وُجُودِهَا؛ لِأَنَّهَا فِي نَظَرِهِمْ ذَاتُ بَعْلٍ، وَبَعْضُ المُعَلَّقَاتِ اضْطُرَّتْ لِلتَّسَوُّلِ وَالْإِهَانَةِ بِسَبَبِ ذَلِكَ.

 

وَبَعْضُ المُعَلَّقَاتِ يَضْعُفُ دِينُهَا وَيَرْخُصُ شَرَفُهَا أَمَامَ الْحَاجَةِ، فَتَبْذُلُ عِرْضَهَا لِتَلْبِيَةِ حَاجَاتِهَا، وَرُبَّمَا اتَّخَذَتْ ذَلِكَ وَسِيلَةً لِلِانْتِقَامِ مِنْ زَوْجِهَا وَأَهْلِهَا بِتَدْنِيسِ عِرْضِهَا. 

 

وَكُلَّمَا كَثُرَتِ المُعَلَّقَاتُ، وَطَالَ زَمَنُ التَّعْلِيقِ؛ تَفَاقَمَتِ المُشْكِلَاتُ وَتَعَدَّدَتْ، مِمَّا يَسْتَدْعِي إِيجَادَ حُلُولٍ لِلنِّسَاءِ المُعَلَّقَاتِ. فَالمَحَاكِمُ يَجِبُ عَلَيْهَا رَدْعُ النَّوَاشِزِ مِنَ النِّسَاءِ، وَالمُعَلَّقِينَ مِنَ الرِّجَالِ.

 

وَيَجِبُ عَلَى أَهْلِ المُعَلَّقِ أَنْ يُنَاصِحُوهُ فِي زَوْجِهِ وَأَوْلَادِهِ، فَإِمَّا إِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ، وَعَلَى ذَوِي الزَّوْجَةِ المُعَلَّقَةِ السَّعْيُ فِي فِكَاكِ ابْنَتِهِمْ مِمَّنْ يُعَلِّقُهَا إِضْرَارًا بِهَا، وَعَلَى عُقَلَاءِ النَّاسِ أَنْ يَتَدَخَّلُوا فِي كُلِّ مُشْكِلَةٍ مِنْ هَذِهِ المُشْكِلَاتِ لِحَلِّهَا، وَالسَّعْيِ فِي الْإِصْلَاحِ بَيْنَ الْأَزْوَاجِ المُتَخَاصِمِينِ (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا) [النساء: 35].

 

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...

 

 

المرفقات

الزوجات (2) أسبابه وآثاره

الزوجات (2) أسبابه وآثاره - مشكولة

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات