تعظيم الله - ما لكم لا ترجون لله وقارا

راكان المغربي

2022-05-20 - 1443/10/19 2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/عبودية تعظيم الله تعالى 2/عظمة الله تتجلى في خلقه 3/من وسائل زيادة عظمة الله في القلوب 4/من ثمرات تعظيم الله تعالى 5/العلاقة بين تعظيم الله وارتكاب الذنوب.

اقتباس

إنَّ مَنْ يُعَظِّمُ اللَّهَ، يُعَظِّمُ كِتَابَهُ، وَيُعَظِّمُ رَسُولَهُ، وَيُعَظِّمُ أَمْرَهُ وَشَرْعَهُ وَشَعَائِرَهُ؛.. يَسْمَعُ الْآيَةَ أَوْ الْحَدِيثَ فَيَعْلَمُ أَنَّهُ وَحْيُ الْحَكِيمِ الْخَبِيرِ، وَشَرْعُ الْعَلِيمِ الرَّحِيمِ، فَيُطِيعُ وَيُذْعِنُ، وَيَرْضَى وَيُسَلِّمُ. مَنْ يُعَظِّمُ اللَّهَ لَا يَهُونُ عَلَيْهِ أَنْ تُنْتَهَكَ مَحَارِمُهُ، أَوْ تُتَعَدَّى حُدُودُهُ، أَوْ يُسْتَهَانُ بِشَرْعِهِ..

الخُطْبَة الأُولَى:

 

أَمَّا بَعْدُ:

 

عِبَادَةٌ تُلَازِمُ الْمُؤْمِنَ فِي كُلِّ آنٍ وَحِينٍ، فِي لَيْلِهِ وَنَهَارِهِ، فِي حلِّهِ وَترْحَالِهِ، فِي سِرِّهِ وَجَهْرِهِ، هِيَ أَصْلُ إِيمَانِهِ، وَأَعْظَمُ دَوَافِعِ إِقْبَالِهِ، وَسِرُّ أَوْبَتِهِ بَعْدَ عِصْيَانِهِ.

 

إِذَا ضَعُفَ مَنْسُوبُهَا فِي الْقَلْبِ، خَارَتْ فِيهِ قُوَى الْخَيْرِ، وَتَمَكَّنَتْ مِنْهُ نَوَازِعُ الشَّرِّ، فَنَالَ الشَّيْطَانُ مِنَ الْقَلْبِ حَظَّهُ وَنَصِيبَهُ.

 

إِنَّهَا عُبُودِيَّةُ تَعْظِيمِ اللَّهِ، النَّابِعَةُ مِنَ الْمَعْرِفَةِ بِهِ -سُبْحَانَهُ-، وَاسْتِحْضَارِ جَلَالِهِ وَجَمَالِهِ وَكَمَالِهِ، وَمُشَاهَدَةِ آثَارِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ؛ فَإِنَّ أَعْظَمَ مَنْ عَرَّفَ بِاللَّهِ هُوَ اللَّهُ، بِأَحْسَنِ كَلَامٍ، وَأَبْهَى عِبَارَةٍ، وَأَعْجَزِ بَيَانٍ.

 

أَخِي الْحَبِيبُ: هَلْ أَدْهَشَتْكَ حَوَاسِبُ الْمَعْلُومَاتِ، وَأَجْهِزَةُ الْمُرَاقَبَةِ، وَآلِيَّاتُ التَّنَصُّتِ الْبَشَرِيَّةِ؟ تَمَهَّلْ! فَهُنَاكَ مَا هُوَ أَعْظَمُ؛ (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)[الأنعام:59].

 

هَلْ حَلَّقْتَ بِبَصَرِكَ فَأَعْجَبَتْكَ نَاطِحَاتُ السَّحَابِ، وَفُنُونُ الْعُمْرَانِ، وَتَفَاصِيلُ الْبُنْيَانِ؟ حَلِّقْ بِبَصَرِكَ لِمَا هُوَ أَعْلَى، وَوَفِّرْ إِعْجَابَكَ لِمَا هُوَ أَعْظَمُ؛ (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ * الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ * وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ)[الملك:2-5].

 

إِذَا زُرْتَ يَوْمًا مَصْنَعًا حَدِيثًا لِتَحْلِيَةِ الْمِيَاهِ، وَذُهِلْتَ مِنْ كَمِّيَّةِ الْإِمْكَانَاتِ وَالْآلِيَّاتِ الَّتِي تَعْمَلُ فِيهِ لِتُنْتِجَ الْمَاءَ النَّقِيَّ، فَإِنَّ مَصْنَعَ الْمِيَاهِ الرَّبَّانِيَّ مَا يَزَالُ يَعْمَلُ مُنْذُ مَلَايِينَ السِّنِينَ، بِآلِيَّةٍ ثَابِتَةٍ، وَخُطُوطِ إِنْتَاجٍ مُسْتَمِرَّةٍ، وَمُسْتَوْدَعَاتٍ مُنْتَشِرَةٍ فِي كُلِّ أَنْحَاءِ الْأَرْضِ؛ (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ * وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ)[الْحِجْر:21-22].

 

لَمْ تَكُنْ أَجْيَالُنَا بَعِيدَةً عَنْ إِنْجَازِ الْبَشَرِيَّةِ وَفَرْحَتِهَا بِصُنْعِ الطَّائِرَاتِ، وَالتَّحْلِيقِ فِي السَّمَاءِ، وَإِنَّهُ حَقًّا إِنْجَازٌ عَظِيمٌ، وَلَكِنَّ الْأَعْظَمَ وَالْأَسْبَقَ مِنْهُ هُوَ مِلْيَارَاتُ الْكَائِنَاتِ الْمَخْلُوقَةِ الَّتِي تَتَكَاثَرُ يَوْمِيًّا مُنْذُ الزَّمَنِ الْعَتِيقِ، وَالَّتِي لَوْلَا دِرَاسَتُهَا الدَّقِيقَةُ لَمَا عَرَفَ الْبَشَرُ كَيْفَ يُحَاكُونَهَا وَيُحَقِّقُونَ إِنْجَازَهُمْ بِصُنْعِ الطَّائِرَاتِ (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)[النحل:79].

 

عُذْرًا! لَمْ تَكُنِ الْمُقَارَنَةُ السَّابِقَةُ دَقِيقَةً، فَمَا كُنْتُ أُقَارِنُ إِلَّا بَيْنَ خَلْقِ اللَّهِ وَخَلْقِ اللَّهِ! وَهَلْ الْإِنْسَانُ وَقُدُرَاتُهُ وَإِمْكَانَاتُهُ إِلَّا مِنْ خَلْقِ اللَّهِ وَتَدْبِيرِهِ وَتَسْخِيرِهِ؛ (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ)[الصافات:96].

 

قَدْ يَسْأَلُ سَائِل: كَيْفَ أُعَظِّمُ اللَّهَ فِي قَلْبِي؟

والْجَوَابُ سَهْلٌ جِدًّا، فَقَطْ انْظُرْ نَظْرَةَ تَأَمُّلٍ فِيمَا حَوْلَكَ!

تَلْبَسُ قَمِيصَكَ الْأَبْيَضَ قَبْلَ الذَّهَابِ لِلْعَمَلِ؛ فَتُفَكِّرُ فِي حُقُولِ الْقُطْنِ الَّتِي رَوَاهَا اللَّهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بِالْمَطَرِ، تَجْلِسُ عَلَى مَائِدَةِ طَعَامِكَ فَتُفَكِّرُ فِي الْبَحْرِ الْهَادِرِ الَّذِي سَخَّرَهُ اللَّهُ لَنَا، وَالَّذِي لَوْلَا مَا يَمُدُّنَا بِهِ مِنْ مِلْحٍ لَكُنْتَ تَأْكُلُ الْآنَ شَيْئًا شَبِيهًا بِالصَّابُونِ!

 

تَقْرَأُ فِي صَفَحَاتِ كِتَابِكَ الْبَيْضَاءِ؛ فَتُفَكِّرُ فِي الدَّبَابِيرِ الَّتِي أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهَا أَنْ تَمْضُغَ لِحَاءَ الْأَشْجَارِ، ثُمَّ تَصْنَعُ مِنْهُ بُيُوتًا كَرْتُونِيَّةً، لِيَتَعَلَّمَ الْبَشَرُ كَيْفَ يَصْنَعُونَ الْوَرَقَ... تَشْرَبُ مِنْ زُجَاجَةِ الْمِيَاهِ الْمَعْدِنِيَّةِ؛ فَتُفَكِّرُ فِي الْغَزَالِ الَّذِي خَلَقَهُ اللَّهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ فِي بَاطِنِ الْأَرْضِ مِنْ مَلَايِينَ السِّنِينَ لِيَتَحَوَّلَ إِلَى نَفْطٍ يَسْتَخْلِصُ مِنْهُ الْبَشَرُ مَادَّةَ الإِيثِيلينَ، وَيُحَوِّلُوهُ إِلَى تِلْكَ الزُّجَاجَاتِ الْبِلَاسْتِيكِيَّةِ الصَّغِيرَةِ.

 

يُمْكِنُكَ أَنْ تَتَلَمَّسَ عَظَمَةَ اللَّهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَوْلَكَ، حِينهَا رَدِّدْ مَا لَقَّنَكَ اللَّهُ، وَقُلْ: (قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ)[الأنعام:164]، وَاسْتَشْعِرْ حَقِيقَةَ غَرَقِكَ فِي عَظِيمِ بَحْرِ نِعَمِهِ الَّتِي بَثَّهَا لَكَ فِي كُلِّ أَرْجَاءِ الْكَوْنِ؛ (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ)[لقمان:20].

 

فَإِذَا تَعَرَّفْتَ عَلَى اللَّهِ فِي كِتَابِهِ الْمَقْرُوءِ وَكَوْنِهِ الْمَنْظُورِ؛ فَقَدْ غَرَسْتَ تَعْظِيمَهُ فِي قَلْبِكَ، وَإِذَا رُزِقْتَ تَعْظِيمَ اللَّهِ فَهَلْ تَعْلَمُ مَا ثَمَرَةُ ذَلِكَ؟

 

حِينَ يُعَظَّمُ اللَّهُ فِي الْقَلْبِ تُشْرِقُ فِيهِ أَنْوَارُ التَّوْحِيدِ، وَتُبَدَّدُ فِيهِ ظُلُمَاتُ الشِّرْكِ؛ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)[البقرة: 21-22].

 

مَنْ يَعْرِفُ عَظَمَةَ اللَّهِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُسَاوِيَهُ بِمَخْلُوقَاتِهِ الضَّعِيفَةِ الْحَقِيرَةِ الْمُحْتَاجَةِ. وَلَمَّا أَدْرَكَ الْمُشْرِكُونَ عَظَمَةَ اللَّهِ صَرَخُوا صَرْخَةَ النَّدَمِ، وَلَكِنْ حِينَ فَاتَ وَقْتُ النَّدَمِ (قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ * تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ)[الصافات: 96-98].

 

مِمَّا تَعَلَّمْنَاهُ مِنْ دُرُوسِ أَوَّلِ الرُّسُلِ نُوحٍ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، أَنَّهُ خَاطَبَ قَوْمَهُ الْمُشْرِكِينَ بِأَصْلِ إِشْكَالِهِمْ الَّذِي كَانَ فِي اسْتِهَانَتِهِمْ بِقَدْرِ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُمْ: (مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا)[نوح:13-14]؛ أَيْ: مَا لَكُمْ "لَا تَخَافُونَ لِلَّهِ عَظَمَةً، وَلَيْسَ لِلَّهِ عِنْدَكُمْ قَدْرٌ"، وَهُوَ الَّذِي أَوَجَدَكُمْ مِنْ عَدَمٍ، فَخَلَقَكُمْ مِنْ نُطْفَةٍ مَهِينَةٍ، ثُمَّ انْتَقَلَ بِكُمْ طَوْرًا بَعْدَ طَوْرٍ، حَتَّى أَكْمَلَ خَلْقَكُمْ وَسَوَّاكُمْ.

 

لَقَدْ عَظَّمَتِ الْجَمَادَاتُ رَبَّهَا حَتَّى كَادَتْ أَنْ تَتَفَطَّرَ وَتَنْشَقَّ وَتَخِرَّ؛ لَمَّا عَلِمَتْ أَنَّ أَقْوَامًا لَمْ يُعَظِّمُوا اللَّهَ رَبَّهُمْ، وَادَّعَوْا أَنَّ لَهُ وَلَدًا يُشَارِكُهُ فِي أُلُوهِيَّتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ؛ (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا)[مريم: 88-92].

 

إِنَّ مَنْ يَعْمُرُ قَلْبَهُ بِتَعْظِيمِ رَبِّهِ، فَهُوَ أَرْجَى النَّاسِ لِلَّهِ؛ لِعِلْمِهِ بِأَنَّ ثَوَابَهُ أَحْسَنُ الثَّوَابِ وَأَعْظَمُهُ، وَلِذَلِكَ فَهُوَ أَبْعَدُ النَّاسِ عَنْ مُرَاءَاةِ النَّاسِ بِأَعْمَالِهِ، وَأَنَّى يَتَسَلَّلُ الرِّيَاءُ إِلَى قَلْبِهِ فَيَرْجُو ثَوَابَ النَّاسِ وَرِضَاهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَهُوَ يُدْرِكُ أَنَّ اللَّهَ الْعَظِيمَ مُطَّلِعٌ عَلَى عَمَلِهِ، يَجْزِيهِ بِهِ أَعْظَمَ الْعَطَاءِ وَأَوْفَرَهُ!!، أَنَّى يُرَائِي وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ -سُبْحَانَهُ- هُوَ الْغَنِيُّ؛ كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ: "أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي، تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ".

 

مَنْ يُعَظِّمُ اللَّهَ فِي نَفْسِهِ، لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ خَوْفُهُ مِنَ النَّاسِ أَعْظَمَ مِنْ خَوْفِهِ مِنْ رَبِّهِ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ مُحِيطٌ بِهِ رَقِيبٌ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ -سُبْحَانَهُ-: (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا)[النساء: 108].

 

تَأَمَّلْ فِي تَعْلِيمِ شُعَيْبٍ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِقَوْمِهِ حِينَ قَالُوا لَهُ: (وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ)[هود:91]، فَأَدْرَكَ مِنْ قَوْلِهِمْ أَنَّ سَبَبَ إِعْرَاضِهِمْ هُوَ خَوْفُهُمْ مِنَ النَّاسِ، وَاسْتِهَانَتُهُمْ بِرَبِّ النَّاسِ -سُبْحَانَهُ-، وَعِنْدَهَا أَرَادَ أَنْ يُحْيِيَ فِي قُلُوبِهِمْ تَعْظِيمَ رَبِّهِمْ؛ فَقَالَ لَهُمْ: (قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ)[هود:92].

 

إنَّ مَنْ يُعَظِّمُ اللَّهَ، يُعَظِّمُ كِتَابَهُ، وَيُعَظِّمُ رَسُولَهُ، وَيُعَظِّمُ أَمْرَهُ وَشَرْعَهُ وَشَعَائِرَهُ؛ (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)[الحج:32]؛ يَسْمَعُ الْآيَةَ أَوْ الْحَدِيثَ فَيَعْلَمُ أَنَّهُ وَحْيُ الْحَكِيمِ الْخَبِيرِ، وَشَرْعُ الْعَلِيمِ الرَّحِيمِ، فَيُطِيعُ وَيُذْعِنُ، وَيَرْضَى وَيُسَلِّمُ.

 

مَنْ يُعَظِّمُ اللَّهَ لَا يَهُونُ عَلَيْهِ أَنْ تُنْتَهَكَ مَحَارِمُهُ، أَوْ تُتَعَدَّى حُدُودُهُ، أَوْ يُسْتَهَانُ بِشَرْعِهِ.

 

لَيْسَ عَجِيبًا أَنْ تَسْتَنْكِرَ عَلَى مَنْ يَتَجَرَّأُ عَلَى انْتِهَاكِ الْأَوَامِرِ السَّامِيَةِ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا، وَتُشْفِقُ عَلَى مَصِيرِهِ إِذَا صَارَ فِي قَبْضَةِ الْعَدَالَةِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّكَ تَعْرِفُ بَسْطَ مُلْكِهِ، وَقُوَّةَ سُلْطَانِهِ. وَلَكِنَّ الْعَجِيبَ أَنْ تُقَابِلَ مَنْ يَنْتَهِكُ أَوَامِرَ مَلِكِ الْمُلُوكِ بِقَلْبٍ بَارِدٍ، فَتَرَى الْمَعْصِيَةَ تُعْلَنُ، وَالرَّذِيلَةُ تَنْتَشِرُ، وَلَا تَتَحَرَّكُ فِيكَ شَعْرَةٌ، وَلَا يَتَمَعَّرُ لَك وَجْهٌ، وَلَا تُنْكِرُ الْمُنْكَرَ حَتَّى وَلَوْ بِقَلْبِكَ، بَلْ تُشَارِكُ فِيهِ بِكُلِّ بَهْجَةٍ وَسُرُورٍ، فَأَيْنَ وَصَلَ مَنْسُوبُ تَعْظِيمِ اللَّهِ فِي قَلْبِكَ؟!

 

(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ * وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ * وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ * وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ)[النحل:48-52].

 

بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ..

 

 

الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

 

أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ تَعْظِيمَ اللَّهِ فِي قَلْبِ الْمُسْلِمِ لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ حَتَّى فِي حَالِ الْمَعْصِيَةِ؛ فَقَدْ يَنْسَى الْمُؤْمِنُ وَيَقَعُ فِي الْمَعْصِيَةِ -وَكُلُّنَا ذَلِكَ الرَّجُلُ-، لَكِنَّهُ سُرْعَانَ مَا يَنْتَبِهُ، وَيَتَذَكَّرُ أَنَّهُ عَصَى اللَّهَ الْعَظِيمَ، فَتَجِدُهُ مُشْفِقًا مِنْ ذَنْبِهِ، رَاجِيًا مَغْفِرَةَ رَبِّهِ، خَائِفًا مِنْ عِقَابِهِ، لَا يَنْظُرُ إِلَى صِغَرِ الْمَعْصِيَةِ، وَلَكِنَّهُ يَنْظُرُ إِلَى عَظَمَةِ مَنْ عَصَى، حَاله كَمَا قَالَ -سُبْحَانَهُ-: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ)[الأعراف:201].

 

وَكَمَا وَصَفَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: "إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ قَاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ، وَإِنَّ الْفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ مَرَّ عَلَى أَنْفِهِ، فَقَالَ بِهِ هَكَذَا"، هَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ مَنْ عَظَّمَ اللَّهَ فِي قَلْبِهِ، وَمَنِ اسْتَهَانَ بِهِ -سُبْحَانَهُ-، كِلَاهُمَا يَعْصِي لَكِنْ شَتَّانَ بَيْنِهِمَا أَثْنَاءَ الْمَعْصِيَةِ وَبَعْدَهَا، فَالْمُؤْمِنُ يَقُودُهُ تَعْظِيمُهُ لِلَّهِ إِلَى التَّوْبَةِ النَّصُوحِ وَالْإِشْفَاقِ مِنَ الذَّنْبِ وَرَجَاءِ الْمَغْفِرَةِ، وَالْفَاجِرُ تَقُودُهُ اسْتِهَانَتُهُ بِاللَّهِ إِلَى التَّمَادِي فِي الْغَيِّ، وَالِاسْتِمْرَارِ فِي الضَّلَالِ، فَأَيْنَ هَذَا مِنْ هَذَا؟!

 

(وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)[الزمر:67].

 

اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا تَحُولُ بِهِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعْصِيَتِكَ، وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ، وَمِنَ الْيَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مَصَائِبَ الدُّنْيَا.

المرفقات

تعظيم الله - ما لكم لا ترجون لله وقارا.pdf

تعظيم الله - ما لكم لا ترجون لله وقارا.doc

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات