تعظيم الله -عز وجل-

الشيخ هلال الهاجري

2022-10-08 - 1444/03/12
عناصر الخطبة
1/قصة ابن عمر مع الراعي وما فيها من العبر 2/أسباب تعظيم الله 3/حديث أبي ذر: \"يا عبادي.. \" 4/مقتضيات تعظيم الله

اقتباس

إن زمانُنا هذا قد كَثُرتْ فيه الأشغالُ، وتغيَّرتْ فيه الأحوالُ، وانبهرَ الناسُ بما صنعوا من اكتشافاتِ، ونسوا عبادةً من أعظمِ العباداتِ، وهي التَفكرُ فيما أبدعَ اللهُ -تعالى- من مخلوقاتٍ، فنقصَ تعظيمُ اللهِ -تعالى- في الخَلَواتِ. هذا نوحٌ -عليه السلام- لما رأى قومَه يقعونَ في الشركِ وهو أعظمُ المعاصي، علِمَ أنهم لم يعظِّموا اللهَ -تعالى- في قلوبِهم حقَّ عظمتِه، فذكَّرَهم بآياتِ اللهِ -تعالى- في الكونِ، لعلهم...

 

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمدُ للهِ له الخلقُ والأمرُ، وله النعمةُ والفضلُ، وله الملكُ والحمدُ، وله الثناءُ والمجدُ، أولٌ ليسَ قبلَه شيءٌ، وآخِرٌ ليسَ بعدَه شيءٌ، ظاهرٌ ليسَ فوقَه شيءٌ، باطنٌ ليسَ دونَه شيءٌ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وصحبِه أجمعينَ وسلمَ تسليماً كثيراً.

 

أما بعد:

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].

 

قالَ نافعٌ -رحمه الله-: خرجتَ مع ابنِ عمرَ -رضي الله عنهما- في بعضِ نواحي المدينةِ ومعه أصحابٌ له فوضعوا سُفرةً، فمرَّ بهم راعي، فقالَ له عبدُ اللهِ: هَلُمَّ يا راعي فأصِبْ من هذه السفرةِ، فقالَ الراعي: إني صائمٌ.

 

فقالَ له عبدُ اللهِ: في مثلِ هذا اليومِ الشديدِ حَرُّهُ، وأنتَ في هذه الشِّعابِ في آثارِ هذه الغنمِ وبينَ الجبالِ، ترعى هذه الغنمَ وأنتَ صائمٌ، فقالَ الراعي: أُبادرُ أيامي الخاليةَ، فَعجِبَ ابنُ عُمرَ، وقالَ: هل لك أن تبيعَنا شاةً من غَنمكَ نجتزرُها ونطعمُك من لحمِها ما تُفطرُ عليه ونُعطيكَ ثمنَها، قالَ: إنها ليستْ لي إنها لمولاي.

 

قالَ: فما عَسيتَ أن يقولَ لك مولاك إن قُلتَ أكلَها الذئبُ، فمضى الراعي وهو رافعٌ إصبعَه إلى السماءِ، وهو يقولُ: فأينَ اللهُ؟

 

قالَ نافعٌ: فلم يزلْ ابنُ عمرَ يقولُ: فأينَ اللهُ؟ فأينَ اللهُ؟ فأينَ اللهُ؟.

 

فما عدا أن قَدِمَ المدينةَ فبعثَ إلى سيدِه فاشترى منه الراعيَ والغنمَ، فأعتقَ الراعيَ ووهبَ له الغنمَ.

 

عبادَ اللهِ: إن الفرقَ بينَ هذا الراعي البسيطِ وبينَ من يتهاونُ في المعصيَةِ، هو مقدارُ ما في القلبِ من تعظيمِ اللهِ -جلَّ جلالُه-.

 

ولعل البيئةَ الصحراويَّةَ التي يعيشُ فيها هَيَّأتْ له فرصةَ التفكرِ في خلقِ اللهِ -تعالى-، وذلك من أعظمِ أسبابِ تعظيمِ الربِّ -عز وجل- في القلوبِ: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[آل عمران: 190 -191].

 

فأينَ تعظيمُ اللهِ في نفوسِنا؟ أينَ دموعُ الخشيةِ عن عُيونِنا؟ أينَ أَثرُ المواعظِ على قلوبِنا؟ لماذا نرى في أنفسِنا غفلةً عن ربِّ الأرضِ والسماواتِ؟ لماذا هذا الإعراضُ عن الطاعاتِ؟ ولماذا هذا الكسلُ عن العباداتِ؟.

 

إن زمانُنا هذا قد كَثُرتْ فيه الأشغالُ، وتغيَّرتْ فيه الأحوالُ، وانبهرَ الناسُ بما صنعوا من اكتشافاتِ، ونسوا عبادةً من أعظمِ العباداتِ، وهي التَفكرُ فيما أبدعَ اللهُ -تعالى- من مخلوقاتٍ، فنقصَ تعظيمُ اللهِ -تعالى- في الخَلَواتِ.

 

هذا نوحٌ -عليه السلام- لما رأى قومَه يقعونَ في الشركِ وهو أعظمُ المعاصي، علِمَ أنهم لم يعظِّموا اللهَ -تعالى- في قلوبِهم حقَّ عظمتِه، فذكَّرَهم بآياتِ اللهِ -تعالى- في الكونِ، لعلهم يتفكرونَ فيها ويؤمنونَ، فقال: (مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا * أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا * وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا * وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا * لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا)[نوح: 13-20].

 

اسألْ نفسَك: من خلقَ تلك السماواتِ الشِّدادَ؟

 

ومن جعلَ الأرضَ مَبسوطةً كالمِهادِ؟

 

ومن أنزلَ من السماءِ ماءً طَهوراً، فأخرجَ به أشجاراً وفَواكِهَ وزُهوراً؟

 

فالماءُ واحدٌ، والترابُ واحدٌ، وتختلفُ الأصنافُ لوْناً وحَجْماً، ورائحةً وطَعْمَاً: (أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ  * أَمَّن جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ)[النمل: 60-61].

 

من يُجيبُ الدَعَواتِ؟

 

ومن يَكشفُ الكُرُباتِ؟

 

ومن يعوذُ به الخائفُ؟ ومن يلوذُ به الحائرُ؟

 

(أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ * أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تعالى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)[النمل: 62-63].

 

من خلقَ الكائناتِ من العدمِ؟

 

ومن يُعيدُها ليومٍ لا ينفعُ فيه الندمُ؟

 

من يرزقُ الجَنينَ في ثلاثِ ظُلماتٍ؟

 

ومن يعلمُ غيبَ الأرضِ والسماواتِ؟

 

(أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قُل لّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ * بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ)[النمل: 64-65].

 

عَلمتْ السماواتُ والأرضُ قُدرتَه، وامتلأتْ في أرجاءِهما عظمتَه، فجاءهما الأمرُ بالإتيانِ، فاستجابا من غيرِ ترددٍ ولا عِصيانٍ: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) [فصلت: 11].

 

من خلقَنا من ترابٍ؟ ومن يعلمُ ما في الأرحامِ والأصلابِ؟.

 

كلُّ ذلك ومن يولدُ ومن يموتُ في كتابٍ: (وَاللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) [فاطر: 11].

 

من خلقَ الدَّوابَّ المُنتشرةَ في الفَضاءِ؟

 

فمنها الزاحفُ ومنها الماشي ومنها السابحُ في الماءِ، فلا إلَه إلا اللهُ له الحمدُ والفضلُ والثناءُ: (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [النــور: 45].

 

ومن خلقَ الطيرَ صافاتٍ في السماءِ؟ ومن أمسكَها عن السُقوطِ وجعلَ لها الهواءَ؟

 

(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ) [الملك: 19].

 

من يأتينا بالليلِ والنهارِ؟ ومن جعلَ الليلَ مُظلِماً للسكونِ والقَرارِ؟ ومن جعلَ للمعاشِ ضَوءَ النهارِ؟ ومن يأتِ بهما لو أذهبَهما العزيزُ القهَّارُ؟

 

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاء أَفَلَا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ)[القصص: 71-72].

 

من رزقنا من الثَمراتِ والطَعامِ؟ ومن سَخَّرَ الفُلكَ تجري في البحرِ كالأعلامِ؟ ومن جعلَ الشمسَ والقمرَ يَسيرانِ بانتظامٍ؟

 

نَعَمٌ لا تُحصى من اللهِ ذي الجلالِ والإكرامِ: (اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ * وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ)[إبراهيم: 32-34].

 

حتى مشركي مكةَ كانَ في قلوبِهم بقايا لتعظيمِ اللهِ -تعالى- بما كانوا يعرفونَه من نِعَمِه عليهم، رزقاً وإحياءً وإماتةً وتدبيراً: (قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ * فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ)[يونس: 31)-32].

 

لم يكن لديهم أدنى شكٍ في أن اللهَ -تعالى- خالقَ كلِ شيءٍ، وربَّ كلِ شيءٍ، ومالكَ كلِ شيءٍ، ولا يخرجُ عن أمرِه شيءٌ: (قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ)[المؤمنون: 84-98].

 

يا أهلَ الإيمانِ: لا ينبغي لجماداتٍ أن تكونَ أكثرَ تعظيماً للهِ -تعالى- من عبادِه المؤمنينَ، فهذه كلمةٌ قالَها أهلُ الكُفرِ كَذِباً وبُهتاناً واغتراراً، كانَ لها الأثرُ العظيمُ على المخلوقاتِ غَضَباً وتسبيحاً واعتذاراً: (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا)[مريم: 88-93].

 

قالَ ابنُ عباسٍ -رضي الله عنهما- في تفسيرِ هذه الآياتِ: "اقشعرتْ الجبالُ وما فيها من الأشجارِ والبحارُ وما فيها من الحيتانِ، وفزعتْ السماواتُ والأرضُ، وجميعُ المخلوقاتِ إلا الثقلينِ، وكادتْ أن تزولَ، وغَضبتْ الملائكةُ، واستعرتْ جهنمُ، حينَ قالوا: (اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا)[مريم:88].

 

والعجيبُ: أن هناكَ من لم يُعظِّمْ اللهَ -تعالى- حقَّ التعظيمِ، فخاطبَهم سبحانه تعالى: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [الزمر: 67].

 

قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- هَذِهِ الْآيَةَ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَهوَ يَقُولُ: هَكَذَا بِيَدِهِ، يُحَرِّكُهَا يُقْبِلُ بِهَا وَيُدْبِرُ: "يُمَجِّدُ الرَّبُّ نَفْسَهُ: أَنَا الْجَبَّارُ، أَنَا الْمُتَكَبِّرُ، أَنَا الْمَلِكُ، أَنَا الْعَزِيزُ، أَنَا الْكَرِيمُ".

 

باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ والسُنَّةِ، ونفعني اللهُ وإيَّاكم بما فيهما من الآياتِ والحِكمةِ.

 

وأستغفرُ اللهَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ من كلِ ذنبٍ إنه هو الغفورُ الرحيمُ.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمدُ للهِ: (يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) [الرحمن: 29] يغفرُ ذنبًا، ويفرِّجُ كربًا، ويَفكُ عانيًا، وينصرُ ضعيفًا، ويجبرُ كسيرًا، ويُغني فقيرًا، ويُميتُ ويحيي، ويُسعدُ ويُشقي، ويُضلُ ويَهدي، ويُنعمُ على قومٍ ويَسلبُ نعمتَه عن آخرينَ، ويُعزُّ أقوامًا ويُذلُّ آخرينَ، ويرفعُ أقواما ويَضعُ آخرينَ، والصلاةُ والسلامُ على خيرِ الناسِ أجمعينَ.

 

أما بعد:

 

فكان أبو إدريس الخولاني -رحمه الله- يجثو على ركبتيه تعظيماً للهِ -تعالى- حين يروي أَحدَ الأحاديثِ، فما هو هذا الحديثُ؟

 

عن ‏أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ  ‏عَنْ ‏ ‏أَبِي ذَرٍّ -رضي الله تعالى عنه- عَنْ النَّبِيِّ ‏ ‏-صلى الله عليه وسلم- ‏ ‏فِيمَا رَوَى عَنْ اللَّهِ -تبارك وتعالى- أَنَّهُ قَالَ: "يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ، يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ، يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي ‏ ‏صَعِيدٍ ‏ ‏وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ، يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ ‏ ‏أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ ‏ ‏أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ".

 

فيا عبدَ اللهِ: إذا أحسستَ بضَعفٍ في تعظيمِك للهِ -تعالى-، فتأملْ في مخلوقاتِه الكثيرةِ، ونِعَمِه الوَفيرةِ، ثم انظرْ إلى عملِك، في يومِك ولَيلتِك، فإن كانَ في طاعةِ الكريمِ، فاثبُتْ، فإن هذه هي ثمرةُ التعظيمِ.

 

قالَ ابنُ القَيِّمِ -رحمه الله-: "وَلَوْ تَمَكَّنَ وَقَارُ اللَّهِ وَعَظَمَتُهُ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ لَمَا تَجَرَّأَ عَلَى مَعَاصِيهِ، وَرُبَّمَا اغْتَرَّ الْمُغْتَرُّ، وَقَالَ: إِنَّمَا يَحْمِلُنِي عَلَى الْمَعَاصِي حُسْنُ الرَّجَاءِ، وَطَمَعِي فِي عَفْوِهِ، لَا ضَعْفُ عَظْمَتِهِ فِي قَلْبِي، وَهَذَا مِنْ مُغَالَطَةِ النَّفْسِ، فَإِنَّ عَظَمَةَ اللَّهِ -تعالى- وَجَلَالَهُ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ تَقْتَضِي تَعْظِيمَ حُرُمَاتِهِ، وَتَعْظِيمُ حُرُمَاتِهِ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الذُّنُوبِ، وَالْمُتَجَرِّئُونَ عَلَى مَعَاصِيهِ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ، وَكَيْفَ يَقْدِرُهُ حَقَّ قَدْرِهِ، أَوْ يُعَظِّمُهُ وَيُكَبِّرُهُ، وَيَرْجُو وَقَارَهُ وَيُجِلُّهُ، مَنْ يَهُونُ عَلَيْهِ أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ؟ هَذَا مِنْ أَمْحَلِ الْمُحَالِ، وَأَبَيْنِ الْبَاطِلِ، وَكَفَى بِالْعَاصِي عُقُوبَةً أَنْ يَضْمَحِلَّ مِنْ قَلْبِهِ تَعْظِيمُ اللَّهِ -جَلَّ جَلَالُهُ-، وَتَعْظِيمُ حُرُمَاتِهِ، وَيَهُونُ عَلَيْهِ حَقُّهُ".

 

اللهم باعدْ بينَنا وبينَ خطايانا كما باعدتَ بينَ المشرقِ والمغربِ.

 

اللهم نقِّنا من خطايانا كما يُنقى الثوبُ الأبيضُ من الدنسِ.

 

اللهم اغسلْنا من خطايانا بالماءِ والثلجِ والبَردِ.

 

(رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) [البقرة: 286].

 

 

 

 

المرفقات

الله -عز وجل-

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات