عناصر الخطبة
1/آيات الله الكونية تدل على وحدانيته 2/الكون ميدان فسيح للتفكر والاعتبار 3/من أحوال المتفكرين 4/من ثمرات التفكر في آيات اللهاقتباس
مِنْ ثِمَارِ الاِعْتِبَارِ وَالتَّفَكُّرِ مُحَاسَبَةَ الْعَبْدِ نَفْسَهُ مُحَاسَبَةً دَقِيقَةً عَلَى فَرِيضَةٍ قَصَّرَ فِيهَا أَوْ مَعْصِيَةٍ عَمِلَهَا، أَوْ إِسَاءَةٍ لأَخِيهِ الْمُسْلِمِ اقْتَرَفَهَا؛ فَمَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ فِي الدُّنْيَا خَفَّ حِسَابُهُ فِي الآخِرَةِ، وَمَنْ أَهْمَلَ الْمُحَاسَبَةَ دَامَتْ حَسَرَاتُهُ وَعَظُمَتْ نَدَامَتُهُ...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70-71].
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ، وَكُلَّ ضَلاَلَةٍ فِي النَّارِ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: يَقُولُ اللهُ -تَعَالَى-: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ)[آل عمران: 190]، فِي هَذِهِ الآيَةِ الْكَرِيمَةِ يُخْبِرُ -تَعَالَى- أَنَّ فِي إِيجَادِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ عَلَى هَذَا النَّحْوِ الْبَدِيعِ، وَمَا فِيهِمَا مِنَ الآيَاتِ الُمَشَاهَدَةِ الْعَظِيمَةِ مِنْ كَوَاكِبَ وَبِحَارٍ وَزُرُوعٍ وَأَشْجَارٍ، وَفِي إِيجَادِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ الْمُتَعَاقِبَةِ، وَفِي اخْتِلاَفِهِمَا طُولاً وَقِصَرًا؛ وَفِي كُلِّ ذَلِكَ لأَمَارَاتٍ وَاضِحَةً، وَأَدِلَّةً سَاطِعَةً لأَصْحَابِ الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللهِ -تَعَالَى-، وَعَظِيمِ قُدْرَتِهِ، وَبَاهِرِ حِكْمَتِهِ.
فَالْكَوْنُ مَيْدَانٌ فَسِيحٌ وَمَجَالٌ وَاسِعٌ لِلتَّذَكُّرِ وَالتَّفَكُّرِ وَالاِعْتِبَارِ، وَالْحَيَاةُ كُلُّهَا مَلِيئَةٌ بِالْعِبَرِ لِلْمُعْتَبِرِ، وَمَنْ جَالَ بِفِكْرِهِ عَرَفَ رَبَّهُ، فَزَادَ يَقِينُهُ وَعَظُمَ إِيمَانُهُ، وَتَحَرَّكَ قَلْبُهُ لِلتَّدَبُّرِ وَالتَّفَكُّرِ بِآيَاتِ اللهِ الْمَتْلُوَّةِ، وَآيَاتِهِ الْمَنْظُورَةِ.
فَاخْتِلاَفُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ آيَةٌ لِذَوِي الْعُقُولِ النَّيِّرَةِ؛ لأَنَّهُ كُلَّمَا كَانَ الإِنْسَانُ أَعْقَلَ كَانَ بِاللهِ وَآيَاتِهِ أَعْلَمَ، لِقَوْلِهِ: (لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ)[آل عمران: 190]، فَطُوبَى لِعَبْدٍ اتَّعَظَ بِمَا فِيهَا مِنْ تَقَلُّبَاتِ الأُمُورِ وَالأَحْوَالِ، فَاسْتَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى مَا لِلّهِ فِيهَا مِنَ الْحِكَمِ الْبَالِغَةِ وَالأَسْرَارِ، قَالَ -تَعَالَى-: (يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ)[النور: 44].
شَمْسٌ تَطْلُعُ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ مَشْرِقِهَا، وَتَغْرُبُ فِي مَغْرِبِهَا، وَفِي ذَلِكَ إِعْلاَمٌ وَإِعْلاَنٌ بِأَنَّ هَذِهِ الدُّنْيَا لَيْسَتْ بِدَارِ قَرَارٍ، وَإِنَّمَا هِيَ طُلُوعٌ ثُمَّ غُرُوبٌ وَإِدْبَارٌ.
قَمَرٌ يَطْلُعُ هِلاَلاً صَغِيرًا فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ كَمَا يُولَدُ الأَطْفَالُ، ثُمَّ يَنْمُو رُوَيْدًا رُوَيْدًا كَمَا تَنْمُو الأَجْسَامُ، حَتَّى إِذَا تَكَامَلَ فِي النُّمُوِّ أَخَذَ فِي النَّقْصِ وَالاِضْمِحْلاَلِ، وَهَكَذَا جِسْمُ الإِنْسَانِ وَحَيَاتُهُ تَمَامًا، فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ.
أَلَمْ تَرَوْا إِلَى هَذِهِ السِّنِينَ تَتَجَدَّدُ عَامًا بَعْدَ عَامٍ، يَجِيءُ أَوَّلُ الْعَامِ فَيَنْظُرُ الإِنْسَانُ إِلَى آخِرِهِ نَظَرَ الْبَعِيدِ، ثُمَّ تَمُرُّ الأَيَّامُ سَرِيعَةً كَلَمْحِ الْبَصَرِ، فَإِذَا هُوَ فِي آخِرِ الْعَامِ، وَهَكَذَا عُمْرُ الإِنْسَانِ، يَتَطَلَّعُ الإِنْسَانُ إِلَى آخِرِهِ تَطَلُّعَ الْبَعِيدِ، فَإِذَا بِهِ قَدْ بَاغَتَهُ الأَجَلُ.
وَالْعَبْدُ اللَّبِيبُ يَأْخُذُ مِنْ هَذِهِ الأُمُورِ عِبْرَةً فِي اغْتِنَامِ اللَّيَالِي وَالأَيَّامِ بِطَاعَةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَاجْتِنَابِ مَعْصِيَتِهِ، فَتَرَاهُ فِي سِبَاقٍ مَعَ الزَّمَنِ، يَسْتَثْمِرُ كُلَّ مُنَاسَبَةٍ، وَيَبْذُلُ كُلَّ جُهْدٍ فِي كُلِّ طَاعَةٍ، لاَ يَحْقِرُ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا، وَلاَ يَسْتَهِينُ مِنْ مُحَقِّرَاتِ الذُّنُوبِ ذَنْبًا، هَمُّهُ فِي صَبَاحِهِ وَمَسَائِهِ ازْدِيَادٌ فِي حَسَنَاتِهِ، غَايَتُهُ وَهَدَفُهُ وَمُبْتَغَاهُ السَّعْيُ لِنَيْلِ رِضَا مَوْلاَهُ.
إِذَا اسْتَيْقَظَ مِنْ نَوْمِهِ حَمِدَ رَبَّهُ الَّذِي رَدَّ إِلَيْهِ رُوحَهُ؛ لِيُشَمِّرَ عَنْ سَاعَدِ الْجِدِّ فِي اسْتِثْمَارِ هَذَا الْيَوْمِ الَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ بِهِ، فَتَرَاهُ يَتَنَقَّلُ مِنْ عِبَادَةٍ إِلَى عِبَادَةٍ، وَمِنْ طَاعَةٍ إِلَى طَاعَةٍ، لِسَانُهُ لاَ يَفْتُرُ مِنْ ذِكْرِ اللهِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ، وَقَلْبُهُ يُعَمِّرُهُ بَيْنَ خَوْفٍ وَرَجَاءٍ، وَمَحَبَّةٌ فِي قَلْبِهِ تَسُوقُهُ إِلَى مَوْلاَهُ؛ قَالَ -تَعَالَى-: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)[العنكبوت: 69].
اللَّهُمَّ اجْعَلْ قُلُوبَنَا عَامِرَةً بِالإِيمَانِ، مُنِيبَةً لِلرَّحْمَنِ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا لآيَاتِ رَبِّنَا مِنَ الْمُعْتَبِرِينَ الْمُتَدَبِّرِينَ، الْمُمْتَثِلِينَ أَمْرَهُ وَالْمُجْتَنِبِينَ نَهْيَهُ، إِخْلاَصًا وَصِدْقًا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشَّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَن لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيِّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوَانِهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا، أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اتَّقُوا اللهَ -تَعَالَى-، وَاعْلَمُوا أَنَّ مِنْ ثِمَارِ الاِعْتِبَارِ وَالتَّفَكُّرِ مُحَاسَبَةَ الْعَبْدِ نَفْسَهُ مُحَاسَبَةً دَقِيقَةً عَلَى فَرِيضَةٍ قَصَّرَ فِيهَا أَوْ مَعْصِيَةٍ عَمِلَهَا، أَوْ إِسَاءَةٍ لأَخِيهِ الْمُسْلِمِ اقْتَرَفَهَا؛ فَمَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ فِي الدُّنْيَا خَفَّ حِسَابُهُ فِي الآخِرَةِ، وَمَنْ أَهْمَلَ الْمُحَاسَبَةَ دَامَتْ حَسَرَاتُهُ وَعَظُمَتْ نَدَامَتُهُ وَالسَّعِيدُ مَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ، وَتَفَكَّرَ فِي انْقِضَاءِ عُمُرِهِ، وَاسْتَفَادَ مِنْ وَقْتِهِ فِيمَا يَنْفَعُهُ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، وَمَنْ غَفَلَ عَنْ نَفْسِهِ تَصَرَّمَتْ أَوْقَاتُهُ، وَعَظُمَ فَوَاتُهُ، وَاشْتَدَّتْ حَسَرَاتُهُ، نَعُوذُ بِاللهِ مِنَ التَّفْرِيطِ وَالتَّسْوِيفِ.
فَانْظُرُوا -عِبَادَ اللهِ- فِي سُرْعَةِ مُرُورِ الأَعْوَامِ، وَنَحْنُ فِي هَذِهِ الأَيَّامِ نُوَدِّعُ عَامًا مَاضِيًا شَهِيدًا، وَنَسْتَقْبِلُ عَامًا مُقْبِلاً جَدِيدًا، فَعَلَيْنَا أَنْ نُحَاسِبَ أَنْفُسَنَا دَوْمًا، وَنَسْتَقْبِلُ عَامَنَا الْجَدِيدَ بِصِدْقِ التَّوْبَةِ إِلَى اللهِ -تَعَالَى-؛ قَالَ عَبْدُاللهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: أَخَذ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بِمَنْكِبِي فَقَالَ: "كُنْ فِيِ الدُّنْيا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ، أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ"؛ وَكَانَ ابنُ عمرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- يَقُولُ: "إِذَا أَمْسَيْتَ فَلا تَنْتَظِرِ الصَّباحَ، وإِذَا أَصْبَحْتَ فَلا تَنْتَظِرِ المَساءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوتِكَ"(رواه البخاري).
هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: ٥٦]، وَقَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاَةً وَاحِدَةً؛ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا"(رواه مسلم)،
اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلَّمْ عَلَى عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَأَهْلِ بَيْتِهِ الطَّاهِرِينَ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَعَنِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ، وَعَنِ التَّابِعِينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنَّا مَعَهُمْ بِمَنِّكَ وَإِحْسَانِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم