تتبُّع العورات

سامي بن عبد العزيز الماجد

2011-03-07 - 1432/04/02
عناصر الخطبة
1/ دوافع تتبع العورات 2/ نتائج تتبع العورات 3/ كيفية الأمر بالمعروف دون تتبع العورات

اقتباس

هذا رجلٌ ممن ابتُلي بهذا العمل القبيح كان يعيِّر آخرَ وينتقدُه علناً باسمه في المجالسِ أنه مضيِّعٌ لأولاده، مهملٌ تربيتَهم، فهم لا يشهدون الصلاة في المساجد، وصار يعيِّره بذلك بخبث وشماتة، يتساءل كيف يسكت عنهم ويهمل تربيتهم وهو الأسوة في تدينه ومحافظته على الصلاة؟! فتلاحقت السنون، وشبَّ لهذا المشتغِلِ بتعيير الناس أولادٌ لا يشهَدون الصلاة إلا لماماً، يُرى فيهم من الشر ما لا يرى منهم من الخير ..

 

 

 

 

أيها الأحبة في الله: عِلل القلوب وأدواؤها مشهودةٌ في أفعال السلوك، فالمبتلَى بالعُقد النفسية مكشوفٌ أمره بما يُرى من سلوكه، والمأسورُ قلبُه بآفة الحقد والحسد والغل مفضوحٌ أمره بفلَتاتِ لسانه، وأفعالِ سلوكه. وكل ما في القلب من عوار تستخرجه الجوارح واللسان.

من هذه القلوب قلبٌ يرى النقص في غيره عواراً وعيباً، ويراه في نفسه جِبلّةً وطبيعةً بشرية، تراه بصيراً بعيوب الناس، متعامياً عن عيوب نفسه. ديدنُه الخوضُ في الأعراض، وتتبعُ العورات، وانتقادُ العيوب؛ يلمز هذا، ويسبُ ذاك، يطعنُ في عدالة فلان، ويقدح في ديانة فلان.

هذا المسكين لا يحضر مجلساً إلا وحوَّر حديثَه إلى الغيبة وتتبّعِ العورات، والخوضِ في الأعراض، والتشهيرِ بالخاطئين؛ لا يكاد يُذكر عنده أحدٌ إلا انتقصه وعيَّبه، وذَكرَ فيه مأخذاً ليُعيَّب به. مَن يسمعه يظن أنه مجمعُ الكمال؛ حتى لم يبق فيه مَطعنُ ولا مثلبة.

ومن شدة غلَبةِ الغل والكِبر والحقد على قلب هذا المبتلى أنَّه لا يُذكرَ أحدٌ بمحضره بخير إلا وعقَّب على ذلك بالتشهير به بعيب لا يُعلم، أو بمنقصة لم تُذكر، وكأنه يريد أن يُذكِّر بسوأته، ويشهِّر بعيبه، فإذا كان هذا منكَراً وإنْ كان بالصدق، فكيف إن كان بالكذب والبهتان؟ نتذكر في هذا المشهد قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إن كان فيه ما تقول فقد اغتَبْتَه، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهتَّه".

مِن قُبح صنيعه أنَّ ما يلوكه لسانه دائرٌ بين الغيبة والبهتان، فإن تورع وصدق في تعييبه بأن لا يَذكر أحداً إلا بما فيه من العيوب، فقد وقع في كبيرة الغيبة، فلم يزده صدقه وتورُّعه إلا بعداً، وإن افترى على الناس فعابهم بما ليس فيهم ونسب إليهم ما لم يقع منهم فقد بهَتَهُم، وأعْظِم بالبهتان إثماً عظيماً! (والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً) [الأحزاب:58].

من شؤم هذا التتبع للعورات والاشتغالِ بعيوب الناس أن المشتغِل بذلك يُبتلى بما يعيب به غيره، وكما تقول العامة: (الطِنزةُ تَلحقُ ولو بعد حين).

هذا رجلٌ ممن ابتُلي بهذا العمل القبيح كان يعيِّر آخرَ وينتقدُه علناً باسمه في المجالسِ أنه مضيِّعٌ لأولاده، مهملٌ تربيتَهم، فهم لا يشهدون الصلاة في المساجد، وصار يعيِّره بذلك بخبث وشماتة، يتساءل كيف يسكت عنهم ويهمل تربيتهم وهو الأسوة في تدينه ومحافظته على الصلاة؟! فتلاحقت السنون، وشبَّ لهذا المشتغِلِ بتعيير الناس أولادٌ لا يشهَدون الصلاة إلا لماماً، يُرى فيهم من الشر ما لا يرى منهم من الخير.

لقد كان يعيب على ذلك الرجل أنه مقصر في تربية أولاده، وما درى أن الهداية بيد الله سبحانه، وأن الرجل ربما حاول استصلاحهم فأعياه ذلك، ونسي أن لنوح -عليه السلام- ابناً استعصى على الهداية؛ حتى قال الله عنه: (إنَّهُ عمَلٌ غيرُ صالح) [هود:46]، ثم (كان مِن المغْرَقِين) [هود:43].

وهذا آخَرُ كان يعيِّر رجلاً في المجالس بأن القِوامة في بيته لزوجته وليست له، وأنه رهنُ إشارتها، تسيِّره حيث شاءت، فهو كما تقول العامة: لا يَهشُّ ولا يَنشّ. وإذا بالمقادير تسوق هذا المعيِّرَ إلى عاقبة طِنـزَتِه سوقاً، فتزوج بثانيةٍ بعد سنين، فتسلطت عليه وأرغمتْ أنفَه في التراب، وما عيَّر به أخاه رآه في نفسه بعد حين.

وأخَر حسد أخاه المسلم أنْ كانت له مكانة مشهودة عند الناس، فحاجتهم إليه لا تكاد تنقضي، مشهودٌ له بحسن الخلق والسمت، أماراتُ الصلاح باديةٌ عليه؛ لكنه ابتلي في وظيفته بما عمت به البلوى بلادَ المسلمين من الاختلاط في العمل، فكان هذا الحاسدُ المبتلَى بالتعيير لا يدع فرصةً تفوته أن ينالَ من ذلك الرجلِ ويطعنَ في ديانته وعفته؛ حسداً من عند نفسه، فكان يلمزه ويعيِّره بما في عمله من اختلاط، ويقول: إن بيئة عملِه فاسدةٌ، ولا أظنه يسلم. ولا ندري ربما هذا المعيرُ قد باء اليومَ بعاقبةِ شماتتِه، فابتلي بما عير به أخاه.

وصدق ما جاء في الأثر: "لا تُظهِرْ الشماتةَ بأخيك، فيعافيْه الله ويبتليك". وفي الأثر كذلك: "لا تَتَبَّعُوا عَوْرَاتِ المسلمين؛ فإنه من تتبَّع عوراتِ المسلمين تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَهُ، ويَفْضَحُهُ وَلَو فِي جَوْفِ رَحْلِهِ". وما منا أحد إلا وهو يذكر وقائعَ تشهد لشؤم الشماتةِ على صاحبها.

إن كثيراً من المُبتَلَين بالشماتة لا يُظهرونها في صورتها الصريحة؛ إنما يظهرونها في مجالسهم في لَبوس الإنكار أو الغيرةِ وإظهارِ الأسى على أحوال الناس، وأحياناً يحذِّرون الحاضرين بما يقصدون به تعييرَ الآخرين ولمزَهم وإظهارَ عوارهم؛ ولذا لا يتورعون عن التصريح بأسمائهم. بل لا تهنأ نفوسهم إلا أن يصرِّحوا بأسمائهم، ويخوضوا في أعراضهم؛ لأن المقصود في الحقيقة ليس هو تحذيرَ الجالسين، وإنما هو تعيير الآخَرين، والتشفِّي منهم.

إن هذا المبتلى بتعيير الناس ولمزهم وتتبع عوراتهم إنما سَفَل هذا السفولَ؛ لأنه حين كَسل عن تزكية نفسه بالأعمال الفاضلة والنجاحات التي يُشاد بها أهلُها صمدَ إلى تتبُّع عورات الآخَرين ولمزِهم وتعييرِهم؛ ليقول بلسان حاله: إن ما أنتقِدُه فيهم من نقص هو إشادة بكمالٍ في ذاتي. فحين يعيِّر شخصاً ببخل فهو يشيد بكرم نفسه، وحين يعيِّر رجلاً بسوء طِباع أولادِه فهو يشيد بصلاح أولاده، وحين يعيب على أحدٍ ضَعفَ شخصيته فكأنما يقول للسامعين: ألا ترون قوةَ شخصيتي؟.

إن هذا الطبع اللئيم من تلك النفس المكتنـزةِ غلاً وحقداً وحسداً وكِبراً لا يهدي لخير، ولا يُصلح فاسداً، ولا يُقوِّم مُعْوَجَّاً، إنه عمَلٌ غيرُ صالح، أينما تُوجِّهْهُ لا يأت بخير؛ ولذا قال -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّكَ إنْ تَتَبَّعْت عَوْرَاتِ النَّاسِ أَفْسَدْتَهُمْ" أَوْ "كِدْتَ تُفْسِدُهُمْ".

إن الاشتغال بعُيُوبِ الناس هو تشاغلٌ عن عيوب النفس وتفقُّدِ قصورها ونقصها، فرحم الله امرءاً شغلته عُيوبُه عن البحث في عيوب الناس!.

ولو أراد الناس أن يشتغلوا بعيب هذا اللمَّاز الهمَّاز الشامت لوجدوا فيه كثيراً مما يُعاب به ويُلمز.

وقديماً قال الشاعر:

لسانَكَ! لا تذكُرْ به عورةَ امرئٍ *** فكُلُّكَ عوراتٌ وللناس ألْسُنُ
وعينُكَ إن أبدَتْ إليك مَعـايباً *** فدَعْها وقُل: يا عينُ! للناس أعين

 

 

 

 

 

 

الخطبة الثانية:

 

 

 

 

أما بعد: فإن التحذير من تتبُّع العورات والشماتةِ بالناس وإظهار عيوبهم ليس فيه تعطيلٌ لشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يوضح ذلك أن التاركَ للمعروف، أو الواقعَ في المنكر لا يخلو من حالين: إما أن يقع في ذلك سِراً ولا يستعلِن به أمام الناس، فهذا حقه أن يُنصح سراً فيؤمر بالمعروف وينهى عن المنكر سراً بعيداً عن الجهر المشعر بالإهانة. ولا معنى هنا لأن يعيَّر في المجالس وتلوكَ الألسنةُ عِرضَه، وهو أصلاً لم يستعلِن بالمنكر، بل ذلك في حقيقته فضح له، وهَتكٌ لستره، وتتبُّع لعورته.

وإما أن يقع ذلك منه جهراً، فلا يبالي أن يفعلَه بحضرة الناس، فهذا بمجاهرته أسقط كرامةَ نفسه، وأسقط معها حقَّه في أن يُنصَح في السر، ولذا يشرع لغيره أن ينكر عليه جهراً بحضرة الناس أيضاً، بياناً للحق، وتحذيراً للناس، وحمايةً للمجتمع أن ينتشرَ فيه ذلك المنكر.

والقاعدة أنَّ من أعلن بالمنكر أعلنَّا له الإنكارَ. أما أن يجاهرَ بالمنكر ثم يطالبنا بالإنكار عليه في السر فهذا مكر وحيلة في حماية باطله، والناس إذا رأوا المنكرَ لم يُنكَر حسِبوه معروفاً، وظنُّوه حقاً.

يقول ابن تيمية: إنَّ الْمُسْتَتِرَ بِالْمُنْكَرِ يُنْكَرُ عَلَيْهِ وَيُسْتَرُ عَلَيْهِ. وَإِنَّ الْمُظْهِرَ لِلْمُنْكَرِ يَجِبُ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ عَلَانِيَةً، وَلَا تَبْقَى لَهُ غِيبَةٌ -أي فيما وقع فيه- ثم قال: وَيَجِبُ أَنْ يُعَاقَبَ عَلَانِيَةً بِمَا يَرْدَعُهُ عَنْ ذَلِكَ. وكذلك الداعيةُ إلى بدعةٍ مغلّظة أو مكفرة، والداعيةُ إلى موبقة من الموبقات، تجوز غيبته تحذيراً للناس من شره.

ومهما يكن، فإن أكثر من يقعون في أعراض الناس ويتتبعون عوراتهم لا يفعلون ذلك من باب الأمر بالمعروف ولا النهيِ عن المنكر؛ لأنهم غالباً إنما يخوضون في معائبَ قاصرةٍ على السلوك الشخصي والطِباع النفسية لأولئك الضحايا.

إن الذي يلمز الرجل ويخوض في عِرضه في غيبته، وهو قادر على أن ينصحَه ويُسمعَه انتقاده وما ينقمه منه، إنما هو رجل جبانٌ مُغِلُّ الصدر على أخيه، ولو كان يقصد النصح والإنكار لأنكر عليه بحضرته، ونصَحه بمسمعه.

 

 

 

 

 

المرفقات

العورات

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات