تبديل الإيمان

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2022-10-05 - 1444/03/09
عناصر الخطبة
1/نعمة الإيمان وأهميته للإنسان 2/التحذير من تبديل الإيمان وعقوبة ذلك 3/أساس الإلحاد الإغراق في الماديات 4/الشبه والشكوك طريق للإلحاد والكفر

اقتباس

إن الإيمان ليس قميصًا يملكه العبد فيلبسه متى شاء، وينزعه إذا شاء؛ فإنه إن نزع يوشك أن لا يعود، وإن عاد لم يعد كما كان على ركيزة الفطرة السوية، وليس الإيمان سلعة يبيعها صاحبها ثم يستطيع شراءها مرة...

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله هدانا للإسلام، وعلمنا الإيمان، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك؛ أقام الحجة على خلقه؛ فنصب الدلائل والبراهين، وأرسل الرسل مبشرين ومنذرين، (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ)[النساء:165]، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعه، أما بعد:

 

معاشر المسلمين: فاتقوا الله -تعالى- وأطيعوه، واحذروا أسباب الفتن، وجانبوا أودية الانحراف والردى؛ فإن من ولجها مجربًا تاه في ظلماتها، ومن ترك إيمانه لأجلها هوت به في قعرها، وليس شيء أكثر صدودًا عن الحق، وعمىً في البصيرة من الهوى؛ فمن ركب هواه هلك؛ (وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ)[ص:26].

 

أيها الناس: الإيمان نعمة لا يعرف قدرها إلا من جرب غيرها، ولا يدرك أهميتها إلا من عوقب بفقدها، ولا ينال الإيمان إلا عبدٌ موفق قد أراد الله به خيرًا، ولا يحرم الإيمان إلا مخذولٌ قد صُرف عن توفيق الله وهدايته.

 

الإيمان سكون القلب وطمأنينته، واجتماعه وسروره، وراحة النفس بولاية مولاها؛ (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ)[يونس:62-63].

 

ينام المؤمن -حين ينام- وهو قرير العين، لا يقلقه شك ولا يمزقه جحود، يعلم أن الله -تعالى- إن قبض روحه في منامه قابله بإيمانه، وإن أرسل روحه فاستيقظ عاش بإيمانه حتى يوافيه أجله، وأما الشكاك وفاقدو الإيمان فينامون في قلقٍ ويستيقظون في بؤس؛ ولذا قيل: "في الليل يعود الملحد نصف مؤمن بالله -تعالى-".

 

بالإيمان يَشعر الإنسان أنه ليس شيئًا مهملاً، وأنه لم يخلق عبثًا، ولن يترك سدى، وأن العدالة المطلقة في انتظاره؛ ليطمئن قلبه، ويفيء إلى العمل الصالح، وإلى عدل الله -تعالى- ورحمته في نهاية المطاف؛ فهو لا يقدر بثمن؛ والإنسان بلا إيمان لا شيء، والأنعام أحسن منه حالاً، وأهدى منه سبيلاً، قال -تعالى- عن فاقدي الإيمان: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ)[الأعراف:179].

 

الإيمان هو الفرق بين من يعيش بين جدران الحس المغلقة، ومن يعيش في الوجود المديد الرحيب، بين من يشعر أن حياته على الأرض هي كل ما له في هذا الوجود، ومن يشعر أن حياته ابتلاء يمهد للجزاء، وأن الحياة الحقيقية إنما هي هنالك، وراء هذا الحيز الصغير المحدود، وليس أحد أشد خسرانًا، ولا أعظم خذلانًا، ممن عرف طريق الإيمان فجانبه، أو ذاق حلاوته ثم فارقه، أولئك (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا)[البقرة:10]، (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ)[الصَّف:5].

 

ومن عرف دلائل الإيمان، وذاق حلاوته، فتركه إلى الشك والجحود؛ فقد بدّل نعمة الله -تعالى-، وكان حاله كحال أهل الكتاب الذين قال الله فيهم: (سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آَتَيْنَاهُمْ مِنْ آَيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ)[البقرة:211].

 

لقد عرفوا النبي -صلى الله عليه وسلم- من كتبهم، ثم بدلوا نعمة المعرفة كفرًا، ولم يتبعوه، ومن العجيب أن نجد أن نظريات الإلحاد والشك تُبعث من حضارة أحفادهم، وتنمو في أحضانهم، ويسود الإلحاد في بلدانهم، وينتشر في أناسهم؛ حتى صار نسيجًا من ثقافتهم، وجزءًا من معارفهم.

 

ومن بلاغة القرآن: أن أعقب هذه الآية بقوله -تعالى-: (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الحَيَاةُ الدُّنْيَا)[البقرة:212]، ثم تنظر لترى أن أحفاد أهل الكتاب غارقون في المادية الدنيوية، راكبون موجات الإلحاد المختلفة؛ لتعلم أن أغلب التبديل وأصله بسبب ما زين في القلوب من محبة الدنيا، وأفكار الغرب واتجاهاته؛ العقلانية والنفعية والعلمانية... فكلها مفاهيم أساسها إلحادي، تصب في نهر آسن واحد: هو معاداة الدين، ومحاولة فصل الأخلاق عنه، وأساس الفكر التنويري مبني على مقولتهم: "لا سلطان على العقل إلا العقل".

 

إن الإيمان ليس قميصًا يملكه العبد فيلبسه متى شاء، وينزعه إذا شاء؛ فإنه إن نزع يوشك أن لا يعود، وإن عاد لم يعد كما كان على ركيزة الفطرة السوية، وليس الإيمان سلعة يبيعها صاحبها ثم يستطيع شراءها مرة أخرى، أو يشتري مثلها أو أنفس منها، إنه فضل الله -تعالى- ونعمته على عباده المؤمنين؛ فإن بدلوها فقدوها، فزالت من قلوبهم فلا تكاد تعود إليها أبدًا، فعاشوا في شك وحيرة.

 

ومن نظر إلى ما عوقب به ممن بدلوا إيمانهم فتمردوا على الفطرة السوية؛ فهِمَ لِمَ ختم الله الآية بقوله: (فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ)[البقرة:211]؟؛ فإن عددًا من فلاسفة الغرب ممن تمردوا على الإيمان، ونظَّروا للإلحاد قد فقدوا عقولهم، وأصيبوا بالجنون في أخريات حياتهم؛ فسُلبوا العقل الذي به تحدوا الإيمان، وعذاب الآخرة أشد وأنكى!.

 

وكلما كان الإنسان في بيئة هي أقرب إلى الله -تعالى-، وأعلم بدينه، وأنقى في توحيده وعبادته، وذاق حلاوة الإيمان، وأحسّ صفاء التوحيد، ثم ترك منهج الوحي، وركب ما اخترعه البشر وظنوه في الفلسفات الإلهية وأسرار الوجود؛ فهو مبدل لنعمة الله -تعالى-، ويخشى عليه من عقوبة الانسلاخ من الإيمان إلى الشك والارتياب، ومن ثم إلى الجحود والإلحاد.

 

وإن القلب لينخلع خوفًا على كثير من أبناء المسلمين ممن غرتهم فلسفات الشكاك والملاحدة؛ فيقرؤون لهم، ويحتفون بهم، ويملؤون قلوبهم بظلمات قولهم، وكيف لا يشفق قلب مؤمن عليهم وهو يقرأ قول الله -تعالى-: (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَاللهُ لَا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ)[آل عمران:86-88]، ولم يستثن -سبحانه- من ذلك إلا من تاب منهم، والتوبة في هذا النوع من الناس قليلة؛ فإنهم يعاقبون على فعلتهم بطمْسِ بصائرهم، وختْمٍ على قلوبهم، وقد دل على ذلك التجربة والواقع، ثم تأتي الحقيقة المفزعة؛ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ)[آل عمران:90].

 

ويتوعَّد الله من بدّل إيمانه بقوله: (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا)[النساء:137]؛ لنعلم أي جناية يجنيها من يدعون شباب المسلمين إلى ولوج أفكار الآخرين بلا سلاح من علم متين، وإيمان راسخ مكين، ويبثون إليهم الشكوك في روايات ومقالات وتقريرات لا تبني عقلاً، ولا تفيد علمًا، إن هي إلا هدم للإيمان واليقين، وغرس للشك والإلحاد.

 

نعوذ بالله من الضلال بعد الهدى، ومن الشك بعد اليقين، ونسأله الثبات على الحق إلى أن نلقاه.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه ومن تبعه، أما بعد:

 

عباد الله: فاتقوا الله -تعالى- وتمسكوا بإيمانكم؛ فإنه فضْل الله -تعالى- عليكم، وهو بوابة سعادتكم في دنياكم وآخرتكم؛ (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلَا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)[الشُّورى:52].

 

أيها الأحبة: إن أمة بني إسرائيل جعلها الله -تعالى- عبرة وعظة لأمتنا في كثرة مسائلهم، وزيادة شكوكهم، وافتياتهم على أنبيائهم، وعدم استسلامهم وانقيادهم، كانوا يلحون في طلب الآيات، ويتعنتون في السؤالات، ويوردون الإشكالات؛ حتى قادهم ذلك إلى التمرد والعصيان، ومن ثم إلى الشك والجحود والإلحاد.

 

تأملوا تحذير الله -تعالى- لهذه الأمة من اتباع مسلك بني إسرائيل؛ (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ)[البقرة:108]؛ لنعلم أن الإلحاح في السؤال وبث الشكوك وإثارة الشبهات هو المسلك الأخطر لتبدل الكفر بالإيمان.

 

إن الشبهة والشك لا يبنيان علمًا، ولا يؤسسان لحق، إنهما مِعول هدم فحسب، ودونكم سير أهل الشبهات ماذا قدموا للبشرية في معرفة الله -تعالى- ومعرفة أسمائه وصفاته وأفعاله؟، لا شيء سوى التخبط والضياع، والشك والحيرة والانكفاء على الدنيا وتعظيمها، ونسيان الآخرة ونكرانها.

 

لقد كان النبي -عليه الصلاة والسلام- يربي أصحابه وأمته على الإيمان واليقين، والانقياد والتسليم، واجتناب ما وقع فيه بنو إسرائيل؛ فقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ؛ فإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ"(رواه مسلم). وقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلاَثًا: قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةَ المَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ"(رواه الشيخان)؛ كل ذلك حفاظًا على الإيمان أن يتبدل، وعلى القلب أن يتغير، وسدًّا لمسارب الشك والجحود.

 

وفي حادثة عظيمة مؤثرة أكثروا السؤال على النبي -عليه الصلاة والسلام-، فعرفوا الغضب في وجهه فخافوا العذاب، ومن العذاب سلب الإيمان وتبديله، قال أَنَسٌ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: سَأَلُوا النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى أَحْفَوْهُ بِالْمَسْأَلَةِ؛ فَصَعِدَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذَاتَ يَوْمٍ المِنْبَرَ فَقَالَ: "لاَ تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلَّا بَيَّنْتُ لَكُمْ"، فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ يَمِينًا وَشِمَالاً، فَإِذَا كُلُّ رَجُلٍ لاَفٌّ رَأْسَهُ فِي ثَوْبِهِ يَبْكِي، وفي رواية: فَمَا أَتَى عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمٌ أَشَدُّ مِنْهُ، قَالَ: غَطَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَلَهُمْ خَنِينٌ (رواه الشيخان).

 

عباد الرحمن: إن الإيمان أغلى ما يملك العبد، وهو سبب سعادته، ومن فقد سبب السعادة فلن يسعد أبدًا؛ فحافظوا على إيمانكم، ورسخوه بالتسليم والانقياد، وزيدوه بالأعمال الصالحة؛ (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[النحل: 97].

 

وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه؛ فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].

 

المرفقات

تبديل الإيمان

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات