تأملات في قصة بر إبراهيم عليه السلام بأبيه

عمر بن عبد العزيز الدهيشي

2023-09-29 - 1445/03/14 2023-10-07 - 1445/03/22
عناصر الخطبة
1/أهمية بر الوالدين والإحسان إليهما 2/شكر الوالدين وكمال رعايتهما 3/وقفات مع حوار إبراهيم -عليه السلام- مع أبيه 4/من معالم بر الوالدين ومنارات الإحسان 5/ متكأ إبليسي وحيلة شيطانية.

اقتباس

ومن معالم البر: التأدُّب في التعامل معهما، ولين الجانب لهما، واحتمال شدتهما وتقبُّل إعراضهما، دون ضجر أو غضب، فضلاً عن رفع صوت وصراخ، أو تندُّر بتصوير وتهكُّم وتعليق ساخر يقيء ما في نفسه الخبيثة ليضحك الآخرين ويشمتوا بتاج رأسه وقرة عينه..

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

عباد الله: مما أطبقت عليه الشرائع، وتواردت عليه الملل، واتفقت عليه الفِطَر السليمة، وانسجم مع المنطق والعقل، فجاء الأمر به في القرآن، ودلَّت عليه السُّنة، وسار عليه أئمة الهدى ورجالات الوفاء: بر الوالدين والإحسان إليهما مع شكرهما وكمال رعايتهما (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ)[لقمان: 14].

 

عباد الله: ابتدأ القرآن الكريم وأعاد، وصرّف القول ونوَّع، في الأمر ببر الوالدين، والحث على رعايتهما والإحسان إليهما، ومنها ما قصَّه الله -تعالى- في حوار إبراهيم -عليه السلام- أبي الأنبياء مع أبيه الكافر المتعجرف، في قوله -سبحانه-: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا)[الأنبياء: 41- 45].

 

عباد الله: هذا الحوار صورة مشرقة، ولفتة مورقة، لما ينبغي للولد في تعامله مع والده، لشخصية سامقة، أمرنا بالاهتداء بسنَنِهم واقتفاء آثارهم، والسير على منوالهم، وقد قال الله -تعالى-: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ)[الأنعام: 90]، فقد حوت معالم تربوية، ومنارات إرشادية في البر والإحسان.

 

ومن ذلك: كمال رعاية الابن لوالديه، وتلمُّس حاجاتهما، وإكمال نقصهما مبادرة واستباقاً، لا تهاوناً وتباطأ، فإبراهيم -عليه السلام- بادَر أباه في النصح والتوجيه، ليسد الحاجة، ويردم الفجوة، فليس شيء أحوج للعبد في الدنيا من طاعة الله -تعالى- وعبادته...

 

ولكل أب وأم حاجات وضروريات تنقصهما ويحتاجان إليهما، فما أحرى الأبناء والأولاد في تلمُّسها والانتباه لها، ثم المبادرة ببذلها وتحقيقها، قبل سؤالها أو التلميح بها من الوالدين، وهو وجه من الإحسان إليهما الذي أمرنا به، في قوله -تعالى-: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا)[الأحقاف: 15].

 

وقد كان أحد السلف لا يأكل مع أمه، وكان أبرّ الناس بها، فقيل له في ذلك، فقال: "أخاف أن آكل معها، فتسبق عينها إلى شيء من الطعام وأنا لا أدري، فآكله، فأكون قد عققتها".

 

ومن معالم البر: التلطف في الحديث معهم، ولين الجانب لهم، فيخفض الصوت، ويطأطئ النظر، يتلمس رضاهما في خطابه، وحال حديثه، فيناديهما بوصفهما الحسن لا باسمهما، دون جهر بصوت، أو إعراض بجانب، وثْنِي عِطفٍ عنهما، وقد نادى إبراهيم -عليه السلام- أباه في كل حديثه بـ(يَا أَبَتِ) في أرقّ عبارة، وأعظم تكريم، نداءٌ مشحون بمعاني الصدق والشفقة ومعبرٌ عن اللطف والبر.

 

وقد أمر الباري -سبحانه- ووصف القول معهما والحديث إليهما بقوله -تعالى-: (وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا)[الإسراء: 23]؛ إذ الكرم يكون في أشرف الأشياء وأكملها، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "كن مع والديك كالعبد المذنب الذليل للسيد الفظ الغليظ".

 

حتى وإن كان الأب فظاً غليظاً، وجلفاً جلداً، فلا يخوّل الولد -البتة- أن يغلظ القول، ويرفع الصوت، أو ينهرهما، وقد قال الله -تعالى- (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا)[الإسراء: 23]، وقد قابل إبراهيم -عليه السلام- رد أبيه الجاف، وقوله المنكر، بقوله: (سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا)[الأنبياء: 47].

 

ومن معالم البر ومنارات الإحسان: إيمانك بأن ما حققته في شخصك من قوة ونجاح، وتميز وفلاح، من مال أو علم أو شهادة أو جاه، فهو حسنة من حسنات والديك، أدركت ذلك ظاهراً في تربيتهما وإحسانهما عليك، أو تيقن أنها دعوة لك وسؤال ملح نفث بها قلب صادق، ودعاء خالص رفع في جوف ليل، وحين ساعة إجابة.

 

أو اعلم أنه إيمان عميق وصلاح ظاهر لأبويك (وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا)[الكهف: 82]؛ فلا تنكر معروفهما لك وفضلهما عليك، فتجحدهما وتتكبر عليهما.

 

وها هو الخليل في عرضه على أبيه، لم يصف أباه بالجهل وعدم المعرفة، ولكن (قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ)[الأنبياء: 43]؛ فأثبت لأبيه علماً ومعرفة؛ حفظاً للمعروف ووفاء له، وكذا كل كريم وَفِيّ يحفظ المعروف ولا يجحده، ويقدر الخير ولا ينكره، حال الغنى وعند الاكتفاء.

 

ومن معالم البر: التأدُّب في التعامل معهما، ولين الجانب لهما، واحتمال شدتهما وتقبُّل إعراضهما، دون ضجر أو غضب، فضلاً عن رفع صوت وصراخ، أو تندُّر بتصوير وتهكُّم وتعليق ساخر يقيء ما في نفسه الخبيثة ليضحك الآخرين ويشمتوا بتاج رأسه وقرة عينه؛ إن فَقِهَ.

 

تأملوا صنيع الخليل -عليه السلام- في تعامله مع والده؛ حيث لم يوجّه السؤال مباشرة، ويكلمه كفاحاً، وإنما بالتعريض لا التصريح، والالتماس لا الطلب، (يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا)[الأنبياء: 42]؛ بأسلوب العرض والاستفهام.

 

 ثم أعقب ذلك بذكر الشيطان المستقبح عند كل ذي فطرة، (يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ)[الأنبياء: 44]؛ فلم يتعرّض مباشرة لأصنامهم ومعبوداتهم، ولو فقه أبوه لعلم أنه حقيقة يعبد الشيطان ويتبعه، فعل ذلك الخليل كله ذلك أدباً وخُلقاً ومراعاةً لمشاعر والده.

 

فاللهم اجعلنا لآبائنا من البارّين، واجعلهم عنا راضين يا كريم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم..

 

 

الخطبة الثانية:

 

عباد الله: متكأ إبليسي وحيلة شيطانية، تتسلل إلى بعض النفوس المريضة، وذي الأخلاق العليلة، فيقيس بمقياسه الفاسد أخلاقه وتعامله مع والديه، فعندما يرى أن ذاك الخُلق وهذا التعامل يرضاه هو على نفسه وتتقبله شخصيته، فهذا مخوّل له أن يعامل به أباه وأماه، بحجة أن الأمر مقبول، والعادة مستساغة.

 

 وما درى هذا القاصر "الغبي" أن المعايير تتغاير، والنظرة تتباين، بفارق السن، ونضوج العقل، فليس كل ما تقبله على نفسك صالحًا للتعامل به والداك، بل هناك قيم أخلاقية، وأخلاق سامية، يتفق عليها العقلاء، وارتضاها الأسوياء، يجب أن لا تَحيد عنها في تعاملك مع والديك خاصة، ولا تتجاوزها بدعوى أن أباك أو أمك ترضى بهذا وتتقبله، فللوالدين قلب يحمل كل بغيضة، ويتجرع كل نقيصة من أولادهما، ولا يملكان إلا القبول والرضا.

 

فحذار حذار أن تجلب عليهما العلقم والمرّ، فتكدّر خاطرهما لتُرضي نفسك المريضة، وتأمل كلمات إبراهيم -عليه السلام- في اختيار الألفاظ، وتعامُله مع أبيه باللطف واللين وخفض الجناح، فلن تخطئ عينك عُمق البر، وحُسن العهد، الذي ينبغي أن يكون نبراساً لكل ابن وبنت.

 

فاللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.

 

 هذا وصلوا وسلموا على رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

المرفقات

تأملات في قصة بر إبراهيم عليه السلام بأبيه.doc

تأملات في قصة بر إبراهيم عليه السلام بأبيه.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات