تأملات في سورة الملك

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/القرآن وتثبيت العقيدة في النفوس 2/مقاصد وأهداف سورة الملك 3/أسماء سورة الملك 4/فضائل سورة الملك.

اقتباس

فمن الملك ومن القدرة كان خلق الموت والحياة، وكان الابتلاء بهما، وكان خلق السماوات وتزيينها بالمصابيح وجعلها رجوما للشياطين، وكان إعداد جهنم بوصفها وهيئتها وخزنتها، وكان العلم بالسر...

الخطبة الأولى:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102] (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1] ؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب:70-71]، أما بعد:

 

أيها المؤمنون: لقد كان القرآن الكريم يتنزل على سيد المرسلين -صلى الله عليه وسلم- في بداية الدعوة ليعالج أمور العقيدة وتثبيتها في النفوس؛ فكان القرآن في تلك الفترة يعالج -في الغالب- إنشاء العقيدة في الله وفي الوحي، وفي اليوم الآخر، وإنشاء التصور المنبثق من هذه العقيدة لهذا الوجود وعلاقته بخالقه، والتعريف بالخالق تعريفا يجعل الشعور به حيا في القلب، مؤثرا موجها موحيا بالمشاعر اللائقة بعبد يتجه إلى رب، وبالأدب الذي يلزمه العبد مع الرب، وبالقيم والموازين التي يزن بها المسلم الأشياء والأحداث والأشخاص، ومن هذه السور العظيمة التي تناولت هذه المواضيع سورة الملك، وهي سورة مكية، كان لها أهداف ومقاصد عظيمة.

 

معاشر المسلمين: هذه السور العظيمة لها أسماء كثيرة، فهي سورة الملك، وتبارك، والمانعة، والمنجية، والواقية، ولها فضائل كثيرة، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "سورة تبارك هي المانعة من عذاب القبر"(صحيح الجامع).

 

فقد ابتدأت السورة الكريمة بتوضيح الهدف الأول؛ فذكرت أن الله -جل وعلا- بيده المُلْك والسلطان، وهو المهيمن على الأكوان، الذي تخضع لعظمته الرقاب وتعنو له الجباه، وهو المتصرف في الكائنات بالخلق والإِيجاد، والإِحياء والإِماتة، (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[الملك:1].

 

فملك الله -سبحانه- ملك مطلق، دون ما سواه من أملاك المخلوقين؛ فهو عارية زائل لا محالة؛ فهو ملك ناقص ينتهي بموت وزوال صاحبه؛ فالله -سبحانه- هو مالك الملك وملك الملوك، (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[ آل عمران:26]؛ فإذا استشعرنا هذه الحقيقة لم يدخل في قلوبنا أي تعظيم لمن ملك الدنيا بأسرها، لأنه ما أخذ معه غير الحنوط والكفن فلنتأمل.

 

ثم تحدثت عن خلق السماوات السبع، وما زيَّن الله به السماء الدنيا من الكواكب الساطعة، والنجوم اللامعة، وكلها أدلة على قدرة الله ووحدانيته، (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ)[الملك:3].

 

ثم تناولت الحديث عن المجرمين بشيءٍ من الإِسهاب، وهم يرون جهنم تتلظى وتكاد تتقطع من شدة الغضب والغيظ على أعداء الله، وقارنت بين مآل الكافرين والمؤمنين على طريقة القرآن في الجمع بين الترهيب والترغيب، (إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ)[الملك:7].

 

عباد الله: وبعد أن ساقت بعض الأدلة والشواهد على عظمة الله وقدرته، حذَّرت من عذابه وسخطه أن يحل بأولئك الكفرة الجاحدين، (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ)[الملك:7].

 

ثم بينت السورة بعض نعم الله على العباد، ومنها تذليل الأرض قال تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ)[الملك:15].

 

والله جعل الأرض ذلولا ببسط سطحها وتكوين هذه التربة اللينة فوق السطح، ولو كانت صخورا صلدة -كما يفترض العلم بعد برودها وتجمدها- لتعذر السير فيها، ولتعذر الإنبات، ولكن العوامل الجوية من هواء وأمطار وغيرها هي التي فتتت هذه الصخور الصلدة، وأنشأ الله بها هذه التربة الخصبة الصالحة للحياة، وأنشأ ما فيها من النبات والأرزاق التي يحلبها راكبو هذه الدابة الذلول!

 

والله جعل الأرض ذلولا بأن جعل الهواء المحيط بها محتويا للعناصر التي تحتاج الحياة إليها، بالنسب الدقيقة التي لو اختلت ما قامت الحياة.

 

والله جعل الأرض ذلولا بآلاف من هذه الموافقات الضرورية لقيام الحياة،، ومنها حجم الأرض وحجم الشمس والقمر، وبعد الأرض عن الشمس والقمر، ودرجة حرارة الشمس، وسمك قشرة الأرض، ودرجة سرعتها، وميل محورها، ونسبة توزيع الماء واليابس فيها، وكثافة الهواء المحيط بها،، إلى آخره،، إلى آخره، وهذه الموافقات مجتمعة هي التي جعلت الأرض ذلولا، وهي التي جعلت فيها رزقا، وهي التي سمحت بوجود الحياة، وبحياة هذا الإنسان على وجه خاص.

 

ثم ضرب الله -سبحانه- مثلا للمشرك والموحد لإيضاح حالهما، وبيان مآلهما، فقال: (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى)؟ المــُكِبّ: الساقط على وجهه، أي هل هذا الذي يمشي على وجهه أهدى إلى المقصد الذي يريده، (أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)[الملك:22]؛ أي: يمشى معتدلا ناظراً إلى ما بين يديه على مستوى لا اعوجاج به، ولا انحراف فيه.

 

ثم أمر الله -سبحانه- رسوله -صلى الله عليه وسلم- بأن يخبرهم أن الذي أنشأهم النشأة الأولى من العدم هو الله -سبحانه- فقال: (قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ)[الملك:23]، أي: خلقكم وجعل لكم ما تُدركون به المسموعات والمبصرات والمعقولات؛ إيضاحاً للحجة، وقطعاً للمعذرة، وذما لهم على عدم شكرهم نعم الله عليهم.

 

وختمت السورة الكريمة بالإِنذار والتحذير للمكذبين بدعوة الرسول، من حلول العذاب بهم في الوقت الذي كانوا يتمنون فيه موت الرسول وهلاك المؤمنين (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ)[الملك:28]، ويا له من وعيد شديد، ترتعد له الفرائص!!.

 

قال بعض أهل العلم: "فمن الملك ومن القدرة كان خلق الموت والحياة، وكان الابتلاء بهما، وكان خلق السماوات وتزيينها بالمصابيح وجعلها رجوما للشياطين، وكان إعداد جهنم بوصفها وهيئتها وخزنتها، وكان العلم بالسر والجهر، وكان جعل الأرض ذلولا للبشر، وكان الخسف والحاصب والنكير على المكذبين الأولين، وكان إمساك الطير في السماء، وكان القهر والاستعلاء، وكان الرزق كما يشاء، وكان الإنشاء وهبة السمع والأبصار والأفئدة، وكان الذرء في الأرض والحشر، وكان الاختصاص بعلم الآخرة، وكان عذاب الكافرين، وكان الماء الذي به الحياة وكان الذهاب به عندما يريد"، فــــ: (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[الملك:1].

 

قال المبارك فوري في تحفة الأحوذي: المانعة، أي: "تمنع من عذاب القبر، أو من المعاصي التي توجب عذاب القبر".

 

وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن سورة في القرآن ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له وهي تبارك الذي بيده الملك"(صحيح الترغيب).

 

وفي الحديث الآخر: "إِنَّ سُورَةً فِي الْقُرْآنِ ثَلَاثُونَ آيَةً تَسْتَغْفِرُ لِصَاحِبِهَا حَتَّى يُغْفَرَ لَهُ": (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) (صحيح ابن حبان)، وفي الصحيح: "إن سورة من كتاب الله ما هي إلا ثلاثون آية شفعت لرجل فأخرجته من النار و أدخلته الجنة"(صحيح الجامع)، وقال -عليه الصلاة والسلام-: "سورة من القرآن ما هي إلا ثلاثون آية خاصمت عن صاحبها حتى أدخلته الجنة و هي تبارك"(صحيح الجامع).

 

وكان عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ يقول: "من قرأ "تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ "كلَّ ليلةٍ؛ منعه اللهُ عز وجل بها من عذابِ القبرِ. وكنا في عهدِ رسولِ اللهِ نسميها المانعةَ، وإنها في كتابِ اللهِ عز وجل سورةٌ من قرأ بها في ليلةِ فقد أكثر وأطاب"(صحيح الترغيب).

 

وكان -عليه الصلاة والسلام- "لا ينام حتى يقرأ: ( ألم تنزيل السجدة ) و(تبارك الذي بيده الملك"(السلسلة الصحيحة).

 

قلت ما سمعتم واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه..

 

 

الخطــبة الثانـية:

 

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:

 

عباد الله: حين يجن الليل وتنتشر ظلمته تخلد الأحياء إلى النوم، وكل مخلوق يبتغي مكانا آمنا مريحا ينام فيه؛ لأن النوم ضعف في المخلوقات؛ فاستتروا عن الأعين لستر ضعفهم، والحفاظ على أنفسهم، والإبقاء على حياتهم؛ فالطيور في أعشاشها، والزواحف في جحورها، والدواب في محمياتها، والناس في بيوتهم، واتخذوا منها غرفا لنومهم هي أهيأ مكان في البيت وأكثره أمنا وراحة، وما ذاك إلا لأن لليل وظلمته رهبة عند الخلق.

 

وحين يموت الناس تكون قبورهم هي بيوتهم إلى بعثهم، وفيها من الدنيا أنها على الأرض يراها الناس، وفيها من الآخرة أن أحوال أهلها في النعيم والعذاب كأحوال أهل الجنة والنار.

 

وظلمة القبر وفتنته وعذابه أفزع الموقنين، وأضجر المعتبرين، فما فارقهم التفكر فيه، والاعتبار به، والخوف منه، والعمل له؛ فسهر المتهجدون، وظمئ الصائمون، ولهج الذاكرون، وألح الداعون. قَالَ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ هَذِهِ الْقُبُورَ مَمْلُوءَةٌ ظُلْمَةً عَلَى أَهْلِهَا، وَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يُنَوِّرُهَا لَهُمْ بِصَلَاتِي عَلَيْهِمْ"(رواه مسلم).

 

ويُعذب أناس في القبر بكبائر قارفوها في الدنيا، وينجو آخرون من عذاب القبر بهداية الله تعالى لهم إلى أعمال صالحة سبقتهم إلى قبورهم؛ فمهدتها لهم؛ فوجدوا راحتهم فيها حين سكنوها.

 

وإن من أسباب النجاة من عذاب القبر الإكثار من قراءة سور الملك، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "سورة تبارك هي المانعة من عذاب القبر"(صحيح الجامع).

 

عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: "يؤتى الرجل في قبره فتؤتى رجلاه فتقول: ليس لكم على ما قبلي سبيل كان يقرأ سورة الملك ثم يؤتى من قبل صدره أو قال بطنه فيقول ليس لكم على ما قبلي سبيل كان يقرأ في سورة الملك ثم يؤتى من قبل رأسه فيقول ليس لكم على ما قبلي سبيل كان يقرأ في سورة الملك؛ فهي المانعة تمنع عذاب القبر وهي في التوراة سورة الملك من قرأها في ليلة فقد أكثر وأطيب"(صحيح الترغيب).

 

فيا لها من فضائل عظيمة نحن في غفلة عنها، وإنه لحري بنا أن نحفظها ونتعلمها ونعلمها لأولادنا وأهلنا وأن نكثر من قراءتها وخاصة في الليل وقبل المنام.

 

هذا وصلوا وسلموا على أمرتم بالصلاة والسلام عليه، قال -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب:56].

 

 

 

المصدر: سورة الملك؛ للشيخ د. مسفر بن سعيد بن محمد الزهراني

 

المرفقات

تأملات في سورة الملك

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات