عناصر الخطبة
1/قابلية التأثر عند الأولاد 2/مظاهر تأثر الأولاد بموجات التشكيك 3/أسباب تأثر الأولاد بموجات التشكيك 4/طرق التعامل مع موجات التشكيك التي تأثر بها الأولاد.اقتباس
اسْتَغَلَّ أَعْدَاءُ الْحَقِّ هَذَا الْجَوَّ الْمُتَقَارِبَ لِيَبُثُّوا سُمُومَهُمْ فِي الْآفَاقِ؛ طَعْنًا فِي الْمُقَدَّسَاتِ، وَتَشْكِيكًا فِي الثَّوَابِتِ وَالْمُسَلَّمَاتِ، وَدَعْوَةً إِلَى إِشْبَاعِ الشَّهَوَاتِ، وَحَثًّا عَلَى الِانْعِتَاقِ مِنْ رِبْقَةِ الدِّينِ الْحَنِيفِ وَالْعَادَاتِ الْمُجْتَمَعِيَّةِ الْحَمِيدَةِ...
الخطبة الأولى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71]، أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ الْأُبُوَّةَ تَدْفَعُ الْإِنْسَانَ إِلَى وِقَايَةِ أَوْلَادِهِ مِنَ الْأَسْقَامِ، وَتَوْفِيرِ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنَ الشَّرَابِ وَالطَّعَامِ؛ وِقَايَةً لِحَيَاتِهِمْ مِنَ التَّلَفِ وَالْأَضْرَارِ؛ كَمَا تَحُثُّ الْأُبُوَّةُ عَلَى تَعْلِيمِهِمْ وَتَرْبِيَتِهِمْ؛ حِمَايَةً لَهُمْ مِنَ الْجَهْلِ وَآثَارِهِ، وَلَا لَوْمَ عَلَى هَذَا وَلَا ذَمَّ، وَلَكِنْ هُنَاكَ وِقَايَةٌ قَلَّ مَنْ يَنْتَبِهُ لَهَا مِنَ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ؛ أَلَا وَهِيَ الْوِقَايَةُ الْإِيمَانِيَّةُ الَّتِي تَحْمِي الْأَوْلَادَ مِنْ شَقَاءِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
إِنَّ الْوِقَايَةَ الْإِيمَانِيَّةَ لِلْأَوْلَادِ لَهَا أَهَمِّيَّةٌ كَبِيرَةٌ عَلَى مُسْتَقْبَلِهِمْ؛ فَهِيَ تُمَثِّلُ الْحِصْنَ الْحَصِينَ الَّذِي يَحْمِيهِمْ مِنَ الِاعْتِدَاءِ عَلَى دِينِهِمْ وَقِيَمِهِمْ، وَالْمَنْبَعَ الصَّافِيَ الَّذِي يَنْبُتُونَ عَلَى نُمَيْرِهِ الْعَذْبِ نَبَاتًا حَسَنًا.
وَمِنْ خِلَالِ الْجَلَسَاتِ الْأُسَرِيَّةِ يَسْتَطِيعُ الْأَبَوَانِ تَكْوِينَ الْحِمَايَةِ الْإِيمَانِيَّةِ لَدَى أَطْفَالِهِمَا؛ بِالْحَدِيثِ عَنِ اللَّهِ وَتَقْدِيسِهِ وَعِبَادَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَالْحَدِيثِ عَنْ عَظَمَةِ دِينِهِ وَشَرِيعَتِهِ، وَالْحَدِيثِ عَنْ نِعَمِهِ وَآلَائِهِ، قَالَ -تَعَالَى-: (وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا)[إِبْرَاهِيمَ: 34].
عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ الْأَطْفَالَ يَتَّسِمُونَ بِقَابِلِيَّةِ التَّأَثُّرِ بِمَنْ حَوْلَهُمْ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ حَدِيثُو عَهْدٍ بِهَذِهِ الْحَيَاةِ وَأَهْلِهَا؛ فَلِذَلِكَ هُمْ يَسْعَوْنَ إِلَى مُحَاكَاةِ مَنْ يُجَالِسُونَ؛ وَالْأَبَوَانِ هُمَا أَوَّلُ مَنْ يَتَأَثَّرُ بِهِمَا أَوْلَادُهُمَا صَلَاحًا أَوْ فَسَادًا، قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
فَعَلَى الْأَبَوَيْنِ أَنْ يَنْتَبِهَا لِهَذِهِ الْقَضِيَّةِ فَيَحْرِصَا عَلَى أَنْ يَكُونَا قُدْوَةً حَسَنَةً فِي أَفْعَالِهِمَا وَأَقْوَالِهِمَا، وَيَحْذَرَا أَنْ يَكُونَا قُدْوَةً سَيِّئَةً فِي أَفْعَالِهِمَا وَأَقْوَالِهِمَا، وَعَلَيْهِمَا أَنْ يُجَنِّبَا أَوْلَادَهُمَا الْبِيئَةَ الْفَاسِدَةَ وَجُلَسَاءَ السُّوءِ؛ لِمَا فِي مُجَالَسَتِهِمْ مِنْ تَقْلِيدٍ لَهُمْ وَاقْتِدَاءٍ بِهِمْ، وَالْعَادَةُ جَارِيَةٌ عَلَى سُرْعَةِ التَّأَثُّرِ بِأَهْلِ الشَّرِّ أَكْثَرَ مِنَ التَّأَثُّرِ بِأَهْلِ الْخَيْرِ، وَبِخَاصَّةٍ الْأَطْفَالُ؛ فَإِنَّهُمْ سُرْعَانَ مَا يُحَاكُونَ مَنْ هُوَ أَكْثَرُ مِنْهُمْ فِي الشَّرِّ.
أَلَا وَإِنَّ مِنْ جُلَسَاءِ السُّوءِ الْيَوْمَ: الْأَجْهِزَةَ الذَّكِيَّةَ الَّتِي يَسْتَطِيعُ الطِّفْلُ مِنْ خِلَالِهَا أَنْ يُشَاهِدَ أَوْ يَسْمَعَ أَوْ يُتَابِعَ أَهْلَ الشَّرِّ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ عَقْلَهُ وَدِينَهُ وَسُلُوكَهُ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ هُنَاكَ رِقَابَةٌ أَبَوِيَّةٌ تَخْتَارُ لَهُ مَا يُنَاسِبُهُ وَتُتَابِعُهُ بَيْنَ حِينٍ وَآخَرَ.
أَيُّهَا الْإِخْوَةُ الْفُضَلَاءُ: إِنَّنَا فِي عَصْرٍ صَارَ فِيهِ الْعَالَمُ كَالْغُرْفَةِ الْوَاحِدَةِ حَتَّى غَدَا الْإِنْسَانُ يَسْتَطِيعُ أَنَّ يَتَّصِلَ بِكُلِّ أَحَدٍ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ، وَيَقْرَأَ لَهُ وَيَتَحَدَّثَ مَعَهُ بِكُلِّ سُهُولَةٍ؛ فَلِهَذَا اسْتَغَلَّ أَعْدَاءُ الْحَقِّ هَذَا الْجَوَّ الْمُتَقَارِبَ لِيَبُثُّوا سُمُومَهُمْ فِي الْآفَاقِ؛ طَعْنًا فِي الْمُقَدَّسَاتِ، وَتَشْكِيكًا فِي الثَّوَابِتِ وَالْمُسَلَّمَاتِ، وَدَعْوَةً إِلَى إِشْبَاعِ الشَّهَوَاتِ، وَحَثًّا عَلَى الِانْعِتَاقِ مِنْ رِبْقَةِ الدِّينِ الْحَنِيفِ وَالْعَادَاتِ الْمُجْتَمَعِيَّةِ الْحَمِيدَةِ؛ مِمَّا جَعَلَ بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ يَتَأَثَّرُ بِتِلْكَ الْأَقْوَالِ الْمُضَلِّلَةِ وَيَقْرَؤُهَا وَيُرَوِّجُهَا بِدَافِعِ الْجَهْلِ أَوِ الْحِقْدِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ؛ وَلَيْسَ أَطْفَالُنَا الْمُسْلِمُونَ بِمَنْأًى عَنْ ذَلِكَ الْجَوِّ الْمُلَبَّدِ بِهَذَا الْغُثَاءِ.
وَلَعَلَّ بَعْضَ أَطْفَالِنَا تَشَرَّبَ أَفْكَارًا مُخَالِفَةً لِلْفِكْرِ السَّلِيمِ، وَالسُّلُوكِ الْمُسْتَقِيمِ، وَمَعَ بَقَاءِ تَغْذِيَةِ تِلْكَ الْأَفْكَارِ عَبْرَ مُوَاصَلَةِ الْمُتَابَعَةِ مِنْ غَيْرِ عِلَاجٍ لَهَا فِي حِينِهَا؛ ظَهَرَتْ لَدَيْهِمْ بَعْضُ مَظَاهِرِ التَّأَثُّرِ بِمَوْجَاتِ التَّشْكِيكِ؛ فَمِنْ تِلْكَ الْمَظَاهِرِ:
حُصُولُ الْحَيْرَةِ الْعَقَدِيَّةِ عِنْدَ بَعْضِ أَبْنَاءِ الْمُسْلِمِينَ؛ جَرَّاءَ تَشْكِيكِ أَعْدَاءِ الدِّينِ؛ حَتَّى أَضْحَوْا يُحَدِّثُونَ أَنْفُسَهُمْ وَلِسَانُ حَالِهِمْ "أَلَسْنَا عَلَى حَقٍّ؟، وَهَلْ مَا نَعْتَقِدُهُ عَنِ اللَّهِ صَحِيحٌ؟"، وَصَدَقَ اللَّهُ: (أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى)[إِبْرَاهِيمَ: 10]؛ وَحِينَهَا يَظَلُّ هَؤُلَاءِ سَابِحِينَ فِي بِحَارِ حَيْرَتِهِمْ.
وَمِنْ مَظَاهِرِ تَأَثُّرِ الْأَوْلَادِ بِمَوْجَاتِ التَّشْكِيكِ: اتِّهَامُ الْإِسْلَامِ بِأَنَّهُ يُقَيِّدُ الْحُرِّيَّاتِ، وَلَا يَسْمَحُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَصْنَعَ مَا يَشَاءُ. وَيُثِيرُ شَيَاطِينُ التَّشْكِيكِ فِي نُفُوسِ الْأَوْلَادِ حَاجَتَهُمْ إِلَى الِانْطِلَاقِ الْحُرِّ نَحْوَ تَلْبِيَةِ الرَّغَبَاتِ الْجَامِحَةِ، وَيَنْعِي أُولَئِكَ الْمُسْتَمِعُونَ لَهُمْ بِاللَّائِمَةِ عَلَى هَذَا الدِّينِ الَّذِي مَا أَذِنَ لَهُمْ بِذَلِكَ، وَصَدَقَ اللَّهُ إِذْ يَقُولُ فِيهِمْ: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا)[الْأَنْعَامِ: 112].
وَمِنْ مَظَاهِرِ تَأَثُّرِ الْأَوْلَادِ بِمَوْجَاتِ التَّشْكِيكِ: إِضْفَاءُ أَوْصَافِ التَّعْظِيمِ عَلَى الَّذِينَ أَفَادُوا الْبَشَرِيَّةَ بِمُخْتَرَعَاتِهِمْ، بَلْ وَالْحُكْمُ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ وَهُمْ كُفَّارٌ وَمَلَاحِدَةٌ!! وَقَدِ انْتَشَرَ هَذَا الْمَظْهَرُ عِنْدَ بَعْضِهِمُ انْتِشَارًا كَبِيرًا، حَتَّى إِنَّ أَحَدَ الْآبَاءِ قَالَ: إِنَّ ابْنَتَهُ طَالِبَةٌ فِي الثَّانَوِيَّةِ وَلَدَيْهَا زَمِيلَةٌ فِي صَفِّهَا تُتَابِعُ صَفَحَاتِ أَهْلِ التَّشْكِيكِ، حَتَّى اسْتَقَرَّ لَدَيْهَا بِأَنَّ بَعْضَ هَؤُلَاءِ الْمُجَاهِرِينَ بِكُفْرِهِمْ وَإِلْحَادِهِمْ مِنْ أَهْلِ رَضْوَانِ اللَّهِ، وَهُمُ الْأَوْلَى بِالْجَنَّةِ!! (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ)[الْقَلَمِ: 35].
أَيُّهَا الْأَحِبَّةُ الْكِرَامُ: إِنَّ هَذَا الْجُنُوحَ لَدَى بَعْضِ الْأَوْلَادِ عَنِ الْحَقِّ وَاتِّبَاعِ دُعَاةِ التَّشْكِيكِ لَمْ يَحْصُلْ فَجْأَةً وَبِلَا سَبَبٍ، بَلْ كَانَ نَتِيجَةَ أَسْبَابٍ أَوْصَلَتْ إِلَيْهِ، فَمَا هَذِهِ الْأَسْبَابُ؟
هُنَاكَ أَسْبَابٌ كَثِيرَةٌ لِتَأَثُّرِ بَعْضِ الْأَوْلَادِ بِمَوْجَاتِ التَّشْكِيكِ، فَمِنْهَا:
نَقْصُ الْمَنَاعَةِ الْفِكْرِيَّةِ، وَكَثْرَةُ تَوَارُدِ الشُّبُهَاتِ وَتَتَبُّعُهَا وَمُتَابَعَةُ أَهْلِهَا، فَحِينَ لَمْ يَكُنْ لَدَى بَعْضِ الْأَوْلَادِ حَظٌّ وَافِرٌ مِنَ الْعَقِيدَةِ السَّلِيمَةِ وَالْمَعْرِفَةِ الصَّحِيحَةِ حَوْلَ الْإِسْلَامِ فَقَدْ سَهَّلَ هَذَا الْفَرَاغُ أَرْضًا صَالِحَةً لِزَرْعِ بُذُورِ التَّشْكِيكِ، فَلَمَّا جَاءَتِ الشُّبُهَاتُ بَدَأَ بَعْضُ الْأَبْنَاءِ يُتَابِعُهَا وَيَقْرَأُ صَفَحَاتِ أَصْحَابِهَا حَتَّى تَشَرَّبَهَا.
وَمِنْ أَسْبَابِ تَأَثُّرِ بَعْضِ الْأَوْلَادِ بِمَوْجَاتِ التَّشْكِيكِ: الْخَوَاءُ الرُّوحِيُّ النَّاتِجُ عَنْ بُعْدِ الْوَلَدِ عَنِ التَّدَيُّنِ وَالرُّقِيِّ النَّفْسِيِّ فِي مَعَارِجِ الْعِبَادَةِ؛ فَالسُّمُوُّ الرُّوحِيُّ لَوْ كَانَ مَوْجُودًا لَحَمَى صَاحِبَهُ مِنَ الْهُبُوطِ إِلَى حَمْأَةِ الشَّكِّ وَالْحَيْرَةِ؛ وَكَمَا سَاعَدَ الْفَرَاغُ الْفِكْرِيُّ مَدْخَلًا أَوَّلَ لِدُخُولِ الشُّبُهَاتِ فَالْخَوَاءُ الرُّوحِيُّ هُوَ الْمَدْخَلُ الْآخَرُ لِدُخُولِهَا وَاسْتِقْرَارِهَا فِي النُّفُوسِ.
وَمِنْ أَسْبَابِ تَأَثُّرِ بَعْضِ الْأَوْلَادِ بِمَوْجَاتِ التَّشْكِيكِ: التَّبَعِيَّةُ لِلْغَرْبِ، الَّذِي تَرَبَّعَ الْيَوْمَ عَلَى مِنَصَّةِ السِّيَادَةِ الْعَالَمِيَّةِ وَالتَّطَوُّرِ الْحَضَارِيِّ، فَعِنْدَمَا صَارَ الْمُسْلِمُونَ فِي هَذَا الْعَصْرِ تَابِعِينَ لَا مَتْبُوعِينَ، وَمُتَأَخِّرِينَ عَنْ رَكْبِ التَّطَوُّرِ لَا مُتَقَدِّمِينَ؛ بَثَّ دُعَاةُ التَّشْكِيكِ فِي نُفُوسِ الْأَوْلَادِ أَنَّ الْغَرْبَ مَا وَصَلَ إِلَى ذَلِكَ الْوَهَجِ الْعِلْمِيِّ وَالسُّمُوِّ الْحَضَارِيِّ إِلَّا بِسَبَبِ تَرْكِهِ دِينَ الْإِسْلَامِ!
وَهَكَذَا يُصَوِّرُ الْمُشَكِّكُونَ وَبَعْضُ ضُعَفَاءِ الْإِيمَانِ الْحَالَةَ الْحَضَارِيَّةَ الْيَوْمَ كَذِبًا وَزُورًا، وَإِلَّا فَالْحَقِيقَةُ أَنَّنَا -نَحْنُ الْمُسْلِمِينَ- فِي زَمَنِ الْأَخْذِ بِالدِّينِ سُدْنَا الْعَالَمَ وَكُنَّا أَهْلَ التَّقَدُّمِ فِيهِ، فَلَمَّا تَخَلَّيْنَا عَنْ كَثِيرٍ مِنَ مَبَادِئِ دِينِنَا تَأَخَّرْنَا، وَفِي مِثْلِ هَذَا الْحَالِ يَصْدُقُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
إِذَا كَانَ تَرْكُ الدِّينِ يَعْنِي تَقَدُّمًا *** فَيَا نَفْسُ مُوتِي قَبْلَ أَنْ تَتَقَدَّمِي
نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُلْهِمَ أَوْلَادَنَا الرَّشَادَ، وَأَنْ يُثَبِّتَهُمْ عَلَى الْحَقِّ وَالسَّدَادِ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْأَحَدِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ ظَاهِرَةَ التَّشْكِيكِ ظَاهِرَةٌ خَطِيرَةٌ ابْتُلِيَتْ بِهَا مُجْتَمَعَاتُنَا الْإِسْلَامِيَّةُ الْيَوْمَ، حَتَّى تَأَثَّرَ بِهَا بَعْضُ الْأَوْلَادِ، وَلَابُدَّ لِهَذِهِ الظَّاهِرَةِ مِنْ تَعَامُلٍ صَحِيحٍ يُبْقِي الْأَوْلَادَ عَلَى يَقِينِ الْإِسْلَامِ وَالِاعْتِزَازِ بِهِ، وَنَبْذِ الدَّعَوَاتِ الْمُضِلَّةِ، الَّتِي تُحَاوِلُ النَّيْلَ مِنْهُ وَمِنْ أَهْلِهِ؛ فَأُولَى طُرُقِ التَّعَامُلِ مَعَ هَذِهِ الظَّاهِرَةِ:
الْعِنَايَةُ بِالتَّحْصِينِ الْإِيمَانِيِّ؛ فَإِنَّ الْإِيمَانَ إِذَا تَرَبَّى عَلَيْهِ النَّشْءُ وَرَسَخَ فِي قُلُوبِهِمْ فَلَنْ تُزَعْزِعَهُ رِيَاحُ الشُّبُهَاتِ، أَوْ تَعْصِفَ بِهِ أَمْوَاجُ الشَّدَائِدِ وَالِابْتِلَاءَاتِ؛ وَلَنَا عِبْرَةٌ فِي قِصَّةِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا فِي غَزْوَةِ الْعُسْرَةِ، فَأُمِرَ النَّاسُ بِهَجْرِهِمْ فَلَمْ يَرْجِعُوا عَنْ دِينِهِمْ أَوْ يَشُكُّوا فِي إِيمَانِهِمْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ بَلْ تَحَصَّنُوا بِحِصْنِ الْإِيمَانِ حَتَّى نَزَلَ فِي تَوْبَتِهِمْ قُرْآنٌ يُتْلَى.
يَرْوِي لَنَا كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- بَعْضَ مَا تَعَرَّضَ لَهُ مِنْ مُحَاوَلَةِ زَعْزَعَةِ عَدْلِ الْإِسْلَامِ فِي قَلْبِهِ مِنْ أَعْدَاءِ دِينِ اللَّهِ؛ فَيَقُولُ: "فَبَيْنَا أَنَا أَطُوفُ فِي الْأَسْوَاقِ إِذَا رَجُلٌ نَصْرَانِيٌّ قَدْ جَاءَ بِطَعَامٍ لَهُ يَبِيعُهُ يَقُولُ: مَنْ يَدُلُّ عَلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، فَطَفِقَ النَّاسُ يُشِيرُونَ لَهُ إِلَيَّ، فَأَتَانِي وَأَتَى بِصَحِيفَةٍ مِنْ مَلِكِ غَسَّانَ فَإِذَا فِيهَا: أَمَّا بَعْدُ؛ فَإِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ صَاحِبَكَ قَدْ جَفَاكَ وَأَقْصَاكَ، وَلَسْتَ بِدَارِ هَوَانٍ وَلَا مَضْيَعَةٍ؛ فَالْحَقْ بِنَا نُوَاسِكْ، فَقُلْتُ: هَذَا أَيْضًا مِنَ الْبَلَاءِ فَسَجَرْتُ لَهَا التَّنُّورَ فَأَحْرَقْتُهَا فِيهِ".
وَمِمَّا يُعِينُ عَلَى ثَبَاتِ الْإِيمَانِ أَيْضًا: التَّحْصِينُ الْعِلْمِيُّ الْقَائِمُ عَلَى تَثْبِيتِ الْعَقِيدَةِ السَّلِيمَةِ مُنْذُ الصِّغَرِ، وَتَعْلِيمُ الْأَبْنَاءِ عَظَمَةَ هَذَا الدِّينِ وَشَرِيعَتِهِ السَّمْحَاءِ، وَأَنَّهُ لَا نَجَاةَ إِلَّا بِهَذَا الدِّينِ، قَالَ -تَعَالَى-: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا)[آلِ عِمْرَانَ: 7].
وَالتَّرْبِيَةُ الْأُسَرِيَّةُ وَالْمَنَاهِجُ التَّعْلِيمِيَّةُ هِيَ الْأَسَاسُ فِي الْوُصُولِ إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ.
وَمِنْ طُرُقِ التَّعَامُلِ مَعَ ظَاهِرَةِ تَأَثُّرِ الْأَوْلَادِ بِمَوْجَاتِ التَّشْكِيكِ: رَبْطُ الْأَوْلَادِ بِأَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّرَايَةِ؛ لِتَبْدِيدِ هَذِهِ الشُّبُهَاتِ، قَالَ -تَعَالَى-: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)[النَّحْلِ: 43]، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: "أَلَا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا؟! فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ"(أَبُو دَاوُدَ).
وَمِنْ طُرُقِ التَّعَامُلِ مَعَ ظَاهِرَةِ تَأَثُّرِ الْأَوْلَادِ بِمَوْجَاتِ التَّشْكِيكِ: تَحْذِيرُ الْأَبْنَاءِ مِنْ دُعَاةِ التَّشْكِيكِ وَإِنْتَاجَاتِهِمُ الْفِكْرِيَّةِ الْآسِنَةِ؛ وَالْعَزْلُ الْفِكْرِيُّ عَنْ حَوَاضِنِ التَّشْكِيكِ، وَالْوِقَايَةُ أَفْضَلُ الْعِلَاجِ.
فَيَا أَيُّهَا الْآبَاءُ: احْرِصُوا عَلَى وِقَايَةِ أَوْلَادِكُمْ مِنْ سُمُومِ التَّشْكِيكِ، وَاحْمُوهُمْ مِنْ مَوْجَاتِ التَّخَبُّطِ وَالْحَيْرَةِ وَحَصِّنُوهُمْ إِيمَانِيًّا وَفِكْرِيًّا، وَحَذِّرُوهُمْ مِنْ دُعَاةِ الضَّلَالِ، وَامْنَعُوهُمْ مِنْ مُجَالَسَتِهِمْ وَمُتَابَعَتِهِمْ، قَبْلَ أَنْ يَسْتَفْحِلَ الْخَطَرُ، وَيَعْظُمَ الضَّرَرُ؛ فَإِنَّ أَهْلَ التَّشْكِيكِ لَا يَعُدُّونَ مَنْ تَأَثَّرَ بِهِمْ مِنَ الْأَوْلَادِ الْيَوْمَ هُمُ الْغَايَةَ، بَلْ وَسِيلَةً لِإِضْلَالِ الْأَجْيَالِ الْقَادِمَةِ، عِنْدَمَا يَصِلُ هَؤُلَاءِ الْأَوْلَادُ إِلَى الْعَطَاءِ فِي الْمُجْتَمَعِ.
نَسْأَلُ اللَّهَ لِأَجْيَالِنَا السَّلَامَةَ مِنْ شُبُهَاتِ أَهْلِ الضَّلَالِ، وَأَنْ يُثَبِّتَنَا وَأَوْلَادَنَا عَلَى الْحَقِّ إِلَى يَوْمِ الْمَآلِ.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ، وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ:56].
اللَّهُمَّ وَأَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَاخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.
اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ، يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فَاذْكُرُوا اللَّهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى النِّعَمِ يَزِدْكُمْ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ اللَّه يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم