بين تواضع الأتقياء وكبر الأشقياء

الشيخ عبدالله بن محمد البصري

2022-10-07 - 1444/03/11
عناصر الخطبة
1/ الكبر والغرور منبع شقاء العباد 2/ التواضع من شيم الأنبياء 3/ من تواضع النبي -عليه السلام- 4/ من تواضع أصحابه -رضي الله عنهم- 5/ مصير المتكبرين يوم القيامة

اقتباس

مِفتَاحُ سَعَادَةِ العَبدِ وَبَابُ مَحَبَّةِ النَّاسِ لَهُ، التَّيَقُّظُ وَالفِطنَةُ، وَمَعرِفَةُ قَدرِ النَّفسَ وَالوُقُوفُ عَلَى حَقِيقَتِهَا، وَمَنبَعُ الشَّقَاءِ وَسَبَبُ بُغضِ النَّاسِ لِلمَرءِ وَنُفُورِ القُلُوبِ مِنهُ، كِبرُهُ وَغُرُورُهُ، وَتَعَالِيهِ عَلَى مَن دُونَهُ وَغَفلَتُهُ عَن مَآلِهِ وَمَصِيرِهِ. وَإِنَّ مِن أَخلاقِ الأَنبِيَاءِ وَشِيَمِ النُّبَلاءِ، وَالَّتي نَالُوا بها مَحَبَّةَ اللهِ وَكَسِبُوا بها قُلُوبَ خَلقِهِ، التَّوَاضُعَ وَالرِّفقَ وَاللِّينَ.

 

 

 

 

الخطبة الأولى: 

أَمَّا بَعدُ:

فَأُوصِيكُم -أَيُّهَا النَّاسُ- وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: (تِلكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا في الأَرضِ وَلا فَسَادًا وَالعَاقِبَةُ لِلمُتَّقِينَ) [القصص: 83].

أَيُّهَا المُسلِمُونَ: مِفتَاحُ سَعَادَةِ العَبدِ وَبَابُ مَحَبَّةِ النَّاسِ لَهُ، التَّيَقُّظُ وَالفِطنَةُ، وَمَعرِفَةُ قَدرِ النَّفسَ وَالوُقُوفُ عَلَى حَقِيقَتِهَا، وَمَنبَعُ الشَّقَاءِ وَسَبَبُ بُغضِ النَّاسِ لِلمَرءِ وَنُفُورِ القُلُوبِ مِنهُ، كِبرُهُ وَغُرُورُهُ، وَتَعَالِيهِ عَلَى مَن دُونَهُ وَغَفلَتُهُ عَن مَآلِهِ وَمَصِيرِهِ.

وَإِنَّ مِن أَخلاقِ الأَنبِيَاءِ وَشِيَمِ النُّبَلاءِ، وَالَّتي نَالُوا بها مَحَبَّةَ اللهِ وَكَسِبُوا بها قُلُوبَ خَلقِهِ، التَّوَاضُعَ وَالرِّفقَ وَاللِّينَ.

وَقَد مَنَحَ تَعَالى أَحَبَّ عِبَادِهِ إِلَيهِ التَّوَاضُعَ وَرَزَقَهُم خَفضَ الجَنَاحِ، وَجَعَلَ الكِبرَ وَالتَّعَاظُمَ صِفَةَ أَعدَائِهِ وَأَعدَاءِ أَولِيَائِهِ، فَهَذَا مُوسَى نَبيُّ اللهِ وَكَلِيمُهُ -عَلَيهِ السَّلامُ- يَسقِي لامرَأَتَينِ أَبُوهُمَا شَيخٌ كَبِيرٌ، وَذَاكَ دَاوُدُ -عَلَيهِ السَّلامُ- كَانَ يَأكُلُ مِن كَسبِ يَدِهِ، وَكَانَ زَكَرِيَّا -عَلَيهِ السَّلامُ- نَجَّارًا، وَعِيسَى -عَلَيهِ السَّلامُ- (قَالَ إِنِّي عَبدُ اللهِ آتَانيَ الكِتَابَ وَجَعَلَني نَبِيًّا * وَجَعَلَني مُبَارَكًا أَينَ مَا كُنتُ وَأَوصَاني بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتي وَلم يَجعَلْني جَبَّارًا شَقِيًّا) [مريم: 30-32]، وَمَا مِن نَبيٍّ إِلاَّ رَعَى الغَنَمَ، رَوَى البُخَارِيُّ وَغَيرُهُ عَن أَبي هُرَيرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- عَنِ النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَا بَعَثَ اللهُ نَبِيًّا إِلاَّ رَعَى الغَنَمَ"، فَقَالَ أَصحَابُهُ: وَأَنتَ؟! فَقَالَ: "نَعَمْ، كُنتُ أَرعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لأَهلِ مَكَّةَ".

وَقَد قَالَ -جَلَّ وَعَلا- مُخَاطِبًا نَبِيَّهُ الكَرِيمَ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: (وَاخفِضْ جَنَاحَكَ لِلمُؤمِنِينَ) [الحجر: 88]، فَمَا كَانَ مِنهُ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ- إِلاَّ أَنِ امتَثَلَ تَوجِيهَ رَبِّهِ -جَلَّ وَعَلا- وَجَعَلَ التَّوَاضُعَ وَخَفضَ الجَنَاحِ مَنهَجًا لِحَيَاتِهِ، فَكَانَ رَقِيقَ القَلبِ رَحِيمًا، خَافِضَ الجَنَاحِ لِلمُؤمِنِينَ، لَيِّنَ الجَانِبِ لأَصحَابِهِ، سَهلاً لِمَن يُعَامِلُهُ، يَحمِلُ الكَلَّ وَيَكسِبُ المَعدُومَ، وَيُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الدَّهرِ، رَكِبَ الحِمَارَ وَأَردَفَ عَلَيهِ، وَبَدَأَ مَن لَقِيَهُ بِالسَّلامِ، وَسَلَّمَ عَلَى الصِّبيَانِ وَلاعَبَهُم، وَأَجَابَ دَعوَةَ مَن دَعَاهُ، وَأَكَلَ الإِهَالَةَ السَّنِخَةَ، عَن أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- أَنَّ النَّبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَزُورُ الأَنصَارَ وَيُسَلِّمُ عَلَى صِبيَانِهِم وَيَمسَحُ رُؤُوسَهُم. رَوَاهُ ابنُ حِبَّانَ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ.

وَمَعَ هَذَا فَمَا كَانُوا يَقُومُونَ لَهُ قِيَامَ تَعظِيمٍ؛ لِعِلمِهِم بِكَرَاهِيَتِهِ لِذَلِكَ، قَالَ أَنَسٌ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ-: "لم يَكُنْ شَخصٌ أَحَبَّ إِلَيهِم مِن رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-، وَكَانُوا إِذَا رَأَوهُ لم يَقُومُوا؛ لِمَا يَعلَمُونَ مِن كَرَاهِيَتِهِ لِذَلِكَ". رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ.

وَلَمَّا سُئِلَت عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنهَا-: مَا كَانَ النَّبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- يَصنَعُ في بَيتِهِ؟! قَالَت: "يَكُونُ في مِهنَةِ أَهلِهِ -أَي خِدمَتُهُم- فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلاةُ خَرَجَ إِلى الصَّلاةِ". رَوَاهُ البُخَارِيُّ.

وَعَن هِشَامِ بنِ عُروَةَ عَن أَبِيهِ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنهَا-: هَل كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- يَعمَلُ في بَيتِهِ شَيئًا؟! قَالَت: "نَعَمْ، كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- يَخصِفُ نَعلَهُ، وَيَخِيطُ ثَوبَهُ، وَيَعمَلُ في بَيتِهِ كَمَا يَعمَلُ أَحَدُكُم في بَيتِهِ". رَوَاهُ ابنُ حِبَّانَ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ.

وَعَنِ البَرَاءِ بنِ عَازِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا- قَالَ: كَانَ النَّبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- يَنقُلُ التُّرَابَ يَومَ الخَندَقِ حَتَّى اغبَرَّ بَطنُهُ؛ يَقُولُ:

"وَاللهُ لَولا اللهُ مَا اهتَدَينَا *** وَلا تَصَدَّقنَا وَلا صَلَّينَا
فَـأَنزِلَـنْ سَكِينَةً عَلَينَا *** وَثَبِّتِ الأَقدَامَ إِنْ لاقَينَا
إِنَّ الأُلى قَد بَغَـوا عَلَينَا *** إِذَا أَرَادُوا فِـتنَةً أَبَينَا"

يَرفَعُ بها صَوتَهُ: "أَبِينَا، أَبِينَا". مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

وَأَخرَجَ الحَاكِمُ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ عَن أَبي مَسعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- أَنَّ رَجُلاً كَلَّمَ النَّبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- يَومَ الفَتحِ فَأَخَذتُهُ الرِّعدَةُ، فَقَالَ النَّبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "هَوِّنْ عَلَيكَ؛ فَإِنَّمَا أَنَا ابنُ امرَأَةٍ مِن قُرَيشٍ كَانَت تَأكُلُ القَدِيدَ".

وَقَد كَانَ تَوَاضُعُهُ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ- لا يُفَارِقُهُ حَضَرًا وَلا سَفَرًا، يَعرِفُهُ مِنهُ الغَرِيبُ كَمَا يَعرِفُهُ القَرِيبُ، وَيَنَالُهُ الضَّعِيفُ كَمَا يَنَالُهُ القَوِيُّ؛ فَفِي البُخَارِيِّ عَن أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- قَالَ: إِنْ كَانَتِ الأَمَةُ لَتُوقِفُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- في الطَّرِيقِ فَتَخلُو بِهِ عَنِ النَّاسِ حَتَّى تَذهَبَ بِهِ حَيثُ شَاءَت مِنَ المَدِينَةِ في حَاجَتِهَا لِيَقضِيَهَا.

وَعِندَ مُسلِمٍ عن أَبي رِفَاعَةَ قال: انتَهَيتُ إِلى النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ يَخطُبُ، قَالَ: فَقُلتُ: يَا رَسُولَ اللهِ: رَجُلٌ غَرِيبٌ جَاءَ يَسأَلُ عَن دِينِهِ لا يَدرِي مَا دِينُهُ. قَالَ: فَأَقبَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- وَتَرَكَ خُطبَتَهُ حَتَّى انتَهَى إِليَّ، فَأُتِيَ بِكُرسِيٍّ حَسِبتُ قَوَائِمَهُ حَدِيدًا، قَالَ: فَقَعَدَ عَلَيهِ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-، وَجَعَلَ يُعَلِّمُني مِمَّا عَلَّمَهُ اللهُ، ثُمَّ أَتَى خُطبَتَهُ فَأَتَمَّ آخِرَهَا.

وَعَن جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- يَتَخَلَّفُ في المَسِيرِ -أَي يَكُونُ في أَوَاخِرِهِم في السَّفَرِ-، فَيُزجِي الضَّعِيفَ وَيُردِفُ وَيَدعُو لَهُم. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ.

هَكَذَا كَانَ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ- رَقِيقًا رَفِيقًا رَحِيمًا، اختَارَ لِنَفسِهِ أَن يَكُونَ عَبدًا مُتَوَاضِعًا، وَعَاشَ قَرِيبًا مِن أَصحَابِهِ، حَيَاةً لا عُلَوَّ فِيهَا ولا تَكَبُّرَ، وَلا فَخرَ بِرِئَاسَةٍ ولا تَمَيُّزَ بِجَبَرُوتٍ، وَلا اختِصَاصَ لأَشخَاصٍ ولا استِئثَارَ بِمَالٍ، وَهَكَذَا كَانَ خُلَفَاؤُهُ مِن بَعدِهِ وَالأُمَرَاءُ مِن أَصحَابِهِ، فَكَانَ أَبُو بَكرٍ يَخدِمُ المُسلِمِينَ وَهُوَ خَلِيفَةٌ، حَتَّى كَانَ يَحلِبُ لِبَعضِ العَجَائِزِ شِيَاهَهَا، وَيَقضِي لَهَا حَوَائِجَهَا، بَلْ وَيَكنِسُ بَيتَهَا، وَمِثلَهُ كَانَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- وَالَّذِي كَانَ مِن خَبَرِهِ لَمَّا خَرَجَ إِلى الشَّامِ وَمَعَهُ أَبُو عُبَيدَةَ، فَأَتَوا عَلَى مَخَاضَةٍ وَعُمَرُ عَلى نَاقَةٍ لَهُ، فَنَزَلَ وَخَلَعَ خُفَّيهِ فَوَضَعَهُمَا عَلَى عَاتِقِهِ وَأَخَذَ بِزِمَامِ نَاقَتِهِ فَخَاضَ، فَقَالَ أَبُو عُبَيدَةَ: يَا أَمِيرَ المُؤمِنِينَ: أَنتَ تَفعَلُ هَذَا؟! مَا يَسُرُّني أَنَّ أَهلَ البَلَدِ استَشرَفُوكَ -يَعني استَقبَلُوكَ-. فَقَالَ: "أَوَّهْ، وَلَو يَقُلْ ذَا غَيرُكَ -أَبَا عُبَيدَةَ- جَعَلتُهُ نَكَالاً لأُمَّةِ مُحَمَّدٍ، إِنَّا كُنَّا أَذَلَّ قَومٍ فَأَعَزَّنَا اللهُ بِالإِسلامِ، فَمَهمَا نَطلُبِ العِزَّ بِغَيرِ مَا أَعَزَّنَا اللهُ بِهِ أَذَلَّنَا اللهِ".

وَأَمَّا عُثمَانُ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- فَقَد كَانَ رَحِيمًا بِأَهلِهِ وَخَدَمِهِ، حَتَّى إِنَّهُ كَانَ إِذَا استَيقَظَ مِنَ اللَّيلِ لا يُوقِظُ أَحَدًا مِنهُم لِيُعِينَهُ عَلَى الوُضُوءِ إِلاَّ أَن يَجِدَهُ يَقظَانَ، وَكَانَ يُعَاتَبُ في ذَلِكَ فَيُقَالُ لَهُ: لَو أَيقَظتَ بَعضَ الخَدَمِ؟! فَيَقُولُ: "لا،‍ اللَّيلُ لَهُم يَستَرِيحُونَ فِيهِ". وَكَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- يَنَامُ في المَسجِدِ مُتَوَسِّدًا رِدَاءَهُ وَهُوَ خَلِيفَةُ المُسلِمِينَ.

وَأَمَّا عَلِيُّ بنُ أَبي طَالِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- فَقَد رُوِيَ عَنهُ أَنَّهُ اشتَرَى تَمرًا بِدِرهَمٍ فَحَمَلَهُ في مِلحَفَةٍ، فَقَالُوا: نَحمِلُ عَنكَ يَا أَمِيرَ المُؤمِنِينَ، قَالَ: "لا، أَبُو العِيَالِ أَحَقُّ أَن يَحمِلَ".

وَهَذَا أَبُو هُرَيرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- لَمَّا وَلاَّهُ مَروَانُ بنُ الحَكَمِ المَدِينَةَ مَرَّةً، فَكَانَ يَحمِلُ الحَطَبَ بِنَفسِهِ وَيَقُولُ: "أَفسِحُوا لِلأَمِيرِ، أَفسِحُوا لِلأَمِيرِ".

وَأَمَّا عُتبَةُ بنُ غَزوَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- فَقَد صَعِدَ المِنبَرَ خَطِيبًا وَهُوَ أَمِيرٌ فَقَالَ: "وَلَقَد رَأَيتُني سَابِعَ سَبعَةٍ مَعَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- مَا لَنَا طَعَامٌ إِلاَّ وَرَقُ الشَّجَرِ، حَتَّى قَرِحَت أَشدَاقُنَا، فَالتَقَطتُ بُردَةً فَشَقَقتُهَا بَيني وَبَينَ سَعدِ بنِ مَالِكٍ، فَاتَّزَرَتُ بِنِصفِهَا وَاتَّزَرَ سَعدٌ بِنِصفِهَا، فَمَا أَصبَحَ اليَومَ مِنَّا أَحَدٌ إِلاَّ أَصبَحَ أَمِيرًا عَلى مِصرٍ مِنَ الأَمصَارِ، وَإِنِّي أَعُوذُ بِاللهِ أَن أَكُونَ في نَفسِي عَظِيمًا وَعِندَ اللهِ صَغِيرًا". رَوَاهُ مُسلِمٌ وَغَيرُهُ.

هَكَذَا كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- وَهَكَذَا كَانَ أَصحَابُهُ وَأُمَرَاؤُهُ، وَهُمُ الَّذِينَ مَلَكَ أَحَدُهُم مِنَ الدُّنيَا مَا لا يَملِكُهُ اليَومَ عَشَرَةٌ مِنَ المُلُوكِ وَالرُّؤَسَاءِ مُجتَمِعِينَ، وَمَعَ هَذَا فَقَد كَانُوا مُتَوَاضِعِينَ لِرَعَايَاهُم، مُطَامِنِينَ لِنُفُوسِهِم، عَارِفِينَ بِقَدرِ ذَوَاتِهِم، وَمِن ثَمَّ صَدَقَ فِيهِم قَولُ إِمَامِ المُتَوَاضِعِينَ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ-: "مَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ للهِ إِلاَّ رَفَعَهُ". رَوَاهُ مُسلِمٌ.

وَبِذَاكَ التَّوَاضُعِ وَالرِّفقِ أَحَبَّتهُم رَعَايَاهُم، فَأَطَاعُوهُم وَوَالَوهُم، وَلم يُخَالِفُوهُم أَو يَخرُجُوا عَلَيهِم، وَأَمَّا كَثِيرٌ مِن رُؤَسَاءِ العَالَمِ اليَومَ، فَقَد جَعَلُوا بَينَهُم وَبَينَ شُعُوبِهِم حَوَاجِزَ مِنَ الكِبرِ وَحِيطَانًا مِنَ التَّعَالي، وَاصطَنَعُوا بَينَهُم وَبَينَ مَن تَحتَهُم فَجَوَاتٍ كَبِيرَةً بِتَعَاظُمِهِم عَلَيهِم وَتَفَاخُرِهِم، في ظِلِّ وَهمٍ بِعَظَمَةٍ مُخَالِفَةٍ لِلوَاقِعِ، عَمِلَ عَلَى تَزيِينِهَا لأُولَئِكَ الحُكَّامِ بِطَانَةُ سُوءٍ غَشَّاشُونَ، وَنَفَخَ فِيهَا إِعلامِيُّونَ مُنَافِقُونَ، فَلا عَجَبَ أَن يُفجَأَ أُولَئِكَ الطُّغَاةُ المُتَجَبِّرُونَ بِمُظَاهَرَاتٍ تَعصِفُ بِهِم، وَلا عَجَبَ أَن تُسَلَّطُ عَلَيهِم شُعُوبَهُم فَتَغضَبَ غَضبَاتٍ يَطُولُ أَمَدُهَا وَيَحتَدِمُ أَمرُهَا، حَتى يُفَادُوا بِأَنفُسِهِم لإِسقَاطِهِم وَيُصِرُّوا عَلَى إِخرَاجِهِم مِن دِيَارِهِم أَذِلَّةً صَاغِرِينَ، وَصَدَقَ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- حَيثُ قَالَ: "إِذَا مَشَت أُمَّتي المُطَيطَاءَ، وَخَدَمَتهُم فَارِسُ وَالرُّومُ، سُلِّطَ بَعضُهُم عَلى بَعضٍ". أَخرَجَهُ ابنُ حِبَّانَ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ. فَاللَّهُمَّ وَلِّ عَلَينَا خَيَارَنَا، وَاكفِنَا شَرَّ الأَشرَارِ وَكَيدَ الفُجَّارِ.

 

 

 

 

 

الخطبة الثانية:

 

 

 

أَمَّا بَعدُ:

فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالى وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ.

أَيُّهَا المُسلِمُونَ: وَإِذَا كَانَت عَاقِبَةُ الكِبرِ في الدُّنيَا الذُّلَّ حَتَّى لِلرُّؤَسَاءِ وَالحُكَّامِ المُمتَنِعِينَ بِجُيُوشِهِم وَعَسكَرِهِم، فَإِنَّ الذُّلَّ الحَقِيقِيَّ لِلمُتَكَبِّرِينَ إِنَّمَا يَكُونُ حِينَ يَطوِي اللهُ السَّمَاوَاتِ يَومَ القِيَامَةِ ثُمَّ يَأخُذُهُنَّ بِيَدِهِ اليُمنى ثُمَّ يَقُولُ: "أَنَا المَلِكُ، أَينَ الجَبَّارُونَ؟! أَينَ المُتَكَبِّرُونَ؟!"، ثُمَّ يَطوِي الأَرَضِينَ ثُمَّ يَأخُذُهُنَّ بِشِمَالِهِ ثُمَّ يَقُولُ: "أَنَا المَلِكُ، أَينَ الجَبَّارُونَ؟! أَينَ المُتَكَبِّرُونَ؟!". رَوَاهُ مُسلِمٌ وَغَيرُهُ.

في ذَلِكَ المَوقِفِ الرَّهِيبِ وَاليَومِ المَهِيبِ يُحشَرُ أُولَئِكَ المُتَكَبِّرُونَ في أَذَلِّ صُورَةٍ وَأَحقَرِ هَيئَةٍ، قَالَ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ-: "يُحشَرُ المُتَكَبِّرُونَ يَومَ القِيَامَةِ أَمثَالَ الذَّرِّ في صُوَرِ الرِّجَالِ، يَغشَاهُمُ الذُّلُّ مِن كُلِّ مَكَانٍ، يُسَاقُونَ إِلى سِجنٍ في جَهَنَّمَ يُسَمَّى بُولَسَ، تَعلُوهُم نَارُ الأَنيَارِ، يُسقَونَ مِن عُصَارَةِ أَهلِ النَّارِ طِينَةِ الخَبَالِ". رَوَاهُ أَحمَدُ وَالتِّرمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ الأَلبَانيُّ.

كَمَا أَنَّ مِن عَذَابِهِم في ذَلِكَ اليَومِ العَظِيمِ وَهَوَانِهِم أَنَّهُم يُبعَدُونَ عَنِ الحَبِيبِ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ- جَزَاءَ مَا أَبعَدُوا الضُّعَفَاءَ عَن مَجَالِسِهِم في الدُّنيَا وَأَهَانُوهُم وَلم يُكرِمُوهُم، قَالَ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ-: "إِنَّ مِن أَحَبِّكُم إِليَّ وَأَقرَبِكُم مِنِّي مَجلِسًا يَومَ القِيَامَةِ أَحَاسِنَكُم أَخلاقًا، وَإِنَّ أَبغَضَكُم إِليَّ وَأَبعَدَكُم مِنِّي يَومَ القِيَامَةِ الثَّرثَارُونَ وَالمُتَشَدِّقُونَ وَالمُتَفَيهِقُونَ"، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ: مَا المُتَفَيهِقُونَ؟! قَالَ: "المُتَكَبِّرُونَ".

فَيَا مَن ظُلِمُوا وَهُضِمُوا وَتُكُبِّرَ عَلَيهِم: لا تَيأَسُوا، فَقَد قَالَ حَبِيبُكُم -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- كَمَا في صَحِيحِ مُسلِمٍ: "احتَجَّتِ الجَنَّةُ وَالنَّارُ، فَقَالَتِ النَّارُ: فِيَّ الجَبَّارُونَ وَالمُتَكَبِّرُونَ. وَقَالَتِ الجَنَّةُ: فِيَّ ضُعَفَاءُ المُسلِمِينَ وَمَسَاكِينُهُم. فَقَضَى اللهُ بَينَهُمَا: إِنَّكِ الجَنَّةُ رَحمَتي أَرحَمُ بِكِ مَن أَشَاءُ، وَإِنَّكِ النَّارُ عَذَابي أُعَذِّبُ بِكِ مَن أَشَاءُ، وَلِكِلَيكُمَا عَلَيَّ مِلؤُهَا".

وَكَانَ مِن دُعَائِهِ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ- كَمَا عِندَ التِّرمِذِيِّ وَغَيرِهِ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ: "اللَّهُمَّ أَحيِني مِسكِينًا وَأَمِتْني مِسكِينًا، وَاحشُرْني في زُمرَةِ المَسَاكِينِ".

 

 

 

 

المرفقات

تواضع الأتقياء وكبر الأشقياء

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات