بين الرخاء والبلاء

الشيخ هلال الهاجري

2022-03-04 - 1443/08/01 2022-10-12 - 1444/03/16
التصنيفات: أحوال القلوب
عناصر الخطبة
1/تأملات في قصة سمنون العابد 2/الفرق بين الرخاء والبلاء 3/استواء الناس في الرخاء 4/البلايا كواشف عن حقيقة العبد وحاله 5/من فوائد أزمان الابتلاء.

اقتباس

يستوي النَّاسُ جَميعًا في الرَّخاءِ، ولكن يتباينُ النَّاسُ كَثيرًا في البلاءِ، ولو عَلمنا حِكمةَ اللهِ -تعالى- في أقدارِه، لما رَضينا إلا بتدبيرِه واختيارِه، فعلينا أن نقومَ بوظائفِ العُبوديةِ الواجبةِ علينا في أوقاتِ البلاءِ، وليسَ لنا أن نتدَّخلَ فيما لا نعلمُ من القَدرِ والقَضاءِ...

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

الحمدُ للهِ يُعطي ويَمنعُ، ويَخفضُ ويَرفعُ، يَبتلي بالسَّراءِ والضَّراءِ، والشِّدةِ والرَّخاءِ وهو العَليمُ الحَكيمُ، وأَشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وَحدَه لا شَريكَ لَهُ، قَالَ في كِتابِه العَزيزِ: (وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ)[الأنبياء: 35].

 

وأَشهدُ أنَّ محمدًا عَبدُه ورَسولُه الذي تَقلَّبَ في أَنواعِ العُبوديةِ لربِّ العَالمينَ، وعَلَّمَ أُمتَه أَنَّهم في شِدَّتِهم ورَخَائهم، وعُسرِهم ويُسرِهم؛ مَربوبونَ للرَّحمنِ الرَّحيمِ؛ صَلَّى اللهُ عَليهِ وعَلى آلِهِ وصَحبهِ الغُرِّ المَيامينَ، وسَلَّمَ تَسليمًا كَثيرًا إلى يَومِ الدِّينِ.

 

أَما بَعدُ: ذَكرَ الخَطيبُ البَغداديُّ -رحمَه اللهُ- في كِتابِه تاريخِ بَغداد في تَرجمةِ سَمنون بن حَمزةَ، والذي كانَ يُسمَّى بسَمنون المُحِبِّ؛ وذلكَ لعبادتِه للهِ -تَعالى- حتى كانَ وِردُهُ في كلِّ يومٍ وليلةٍ خمسَمائةٍ رَكعةٍ، وكَذلكَ لأشعارِه في حُبِّ اللهِ -عَزَّ وجَلَّ-، وكَانَ مِمَّا يَقُولُ:

 

وكانَ فُؤادِي خَالِيًا قَبلَ حُبِّكُمْ *** وكانَ بذِكرِ الخَلْقِ يَلهُو وَيَمرَحُ

فَلَمَّا دَعَا قَلْبي هَوَاكَ أجابَهُ *** فَلَستُ أُرَاهُ عَنْ فِنَائِكَ يَبْرَحُ

وَإنْ كَانَ شَيءٌ في البِلادِ بأَسْرِهَا *** إذا غِبْتَ عَنْ عَيْني، بعَينيَّ يَملُحُ

فإنْ شئتَ وَاصِلْني، وَإن شئتَ لا تَصِلْ *** فَلَستُ أَرَى قَلبي لِغَيرِكَ يَصْلُحُ

 

وكَانَ لَهُ كَلامٌ مَتينٌ في المَحَبَّةِ؛ حَتى اعتَقدَ وَهو في الرَّخاءِ، أنَّه قد بَلغَ مَنزلةً لا يُؤثرُ فيها البلاءُ، فَقَالَ:

فَليسَ لي مِنْ سِوَاكَ حَظٌ *** فَكَيفَمَا شِئتَ فَامتحني

إنْ كَانَ يَرجُو سِوَاكَ قَلبي *** لا نِلتُ سُؤلي ولا التَّمني

 

فمَا كَادَ أن يَنتهيَ من هَذينِ البَيتينِ حتى ابتُلِيَ باحتباسِ البولِ، وأَخَذَ يَتلَّوى من الألمِ كَما تَتلوَّى الحَيَّةُ، وكَانَ يَدورُ على مَدارسِ وحَلقَاتِ القُرآنِ، ويُفَرِّقُ الجَوزَ على الصِّبيانِ، ويَقولُ لهم: "ادعُوا لعَمِّكم الكَذَّابِ".

 

فَهل عَلمتُم الفَرق بينَ الرَّخاءِ والبَلاءِ؟، إنَّهُ الفَرقُ بينَ الأرضِ والسَّماءِ.

 

من السَّهلِ جدًّا أن نتكلمَ عن الصَّبرِ وحُسنِ الظَّنِ باللهِ -تعالى- وَقتَ الرَّخاءِ، ومن اليَسيرِ أن نَتحدثَ عن قُربِ اللهِ -تَعالى- لنا وقتَ العافيةِ واستجابتِه للدُّعاءِ، ومِن الهَيِّنِ علينا تَرديدَ حديثِ: "إنَّ اليُسرَ مع العُسرِ، وإن الفَرجَ مع الكَربِ" ونحنُ في أوقاتِ الصَّفاءِ، ولكن ما هو حديثُنا عندما يشتدُّ الكربُ والبلاءُ؟

 

أخبرني عن شُعورِكَ وأنتَ تَتحرى أوقاتَ الدُّعاءِ، وترى أنَّه لا يُستجابُ لكَ، وحدثني عن إحساسِكَ وأنتَ يَحرِقُكَ الصَّبرُ ولا ترى نَصرًا لكَ، تُحافظ على الصَّلاةِ وقِراءةِ القُرآنِ وأذكارِ الكربِ ولا ترى فَرجًا لكَ، وتَتوبُ وتستغفرُ وتتذللُ وتبكي بُكاءَ الأطفالِ ولا تَرى بوادرَ يُسرٍ لكَ، فيضعفُ القَلبُ وتَضيقُ النَّفسُ ويوسوسُ الشَّيطانُ لكَ، الآنَ.. حدِّثنا حديثَ الصِّدقِ عن عِباداتِ الشِّدةِ والبلاءِ فنحنُ نسمعُ لكَ.

 

أيُّها الأحبَّةُ: يستوي النَّاسُ جَميعًا في الرَّخاءِ، ولكن يتباينُ النَّاسُ كَثيرًا في البلاءِ، ولو عَلمنا حِكمةَ اللهِ -تعالى- في أقدارِه، لما رَضينا إلا بتدبيرِه واختيارِه، فعلينا أن نقومَ بوظائفِ العُبوديةِ الواجبةِ علينا في أوقاتِ البلاءِ، وليسَ لنا أن نتدَّخلَ فيما لا نعلمُ من القَدرِ والقَضاءِ.

 

عَلينا بالصَّبرِ الصَّبرِ فهو خَيرُ نِعمةٍ وعطاءٍ، ويُوفَّى صَاحبُه يومَ القِيامةِ خَيرَ الجَزاءِ، كما قالَ -تعالى-: (إِنَّمَا يُوَفََّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)[الزمر: 10]، وعلينا بالرِّضا؛ الرِّضا بما اختارَه لنا ربُّنا ومولانا، وأن نعَلمَ أنَّه لولا حبُّهُ لنا ما ابتلانا، قالَ -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-: "إن عِظَمَ الجزاءِ مع عِظَمِ البلاءِ، وإن اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- إذا أَحَبَّ قومًا ابتلاهم؛ فمن رَضِيَ فله الرِّضَى، ومن سَخِطَ فله السُّخْطُ".

 

الشُّكرُ للهِ شُكرًا لَيسَ يَنصرمُ *** شُكرًا يُوَافقُ مَا يَجري بِهِ القَلمُ

يَأتي البَلاءُ لتَمحيصٍ وتَذكرةٍ *** كَأنَّ كُلَّ بَلاءٍ نَازلٌ .. نِعَمُ

 

أَقولُ هَذا القَولَ، وأَستغفرُ اللهَ لي ولكم، فَاستغفروه إنَّه هو الغَفورُ الرَّحيمُ.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَبِهِ نَسْتَعِينُ عَلَى أُمُورِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ إِلَهُ الأَوَّلِينَ والآخِرين، وأشهدُ أن محمّدًا عَبدُهُ ورسولُهُ أَشْرَفُ الأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِيْنَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلىَ يَوْمِ الدِّينِ.

 

 أَمَّا بَعْد: لو تأملنا في البلاءِ، لوَجدنا رَحمةَ اللهِ، فحياةُ الرَّخاءِ الدَّائمةَ، تُسبِّبُ البَغْيَ والطُّغيانَ، ونِسيانَ نَعَمِ الرَّحمنِ، (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ)[الشورى:27].

 

بل هل تعلمونَ أن مِن النَّاسِ مَن لا يَصلحُ له إلا البَلاءُ، ليبقى في عُبوديةٍ وتَضرُّعٍ وتَذلُّلٍ ودُعاءٍ، وتأملوا هذا المِثالِ: (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[يونس: 12]، فهل أيَّامُ الضُّرِّ له خيرٌ، أم عِندَما يُكشفُ عنهُ البَلاءُ؟

 

أيَّامُ البَلاءِ تَنكشفُ بِها حَقيقةُ الدُّنيا، وأنَّها لا تَصلحُ للبقاءِ والخُلودِ، فهَلْ ننتظرُ فِيها إلا فَقرًا مُنسِيًا، أو غِنًى مُطغِيًا، أو مَرضًا مُفسِدًا، أو هَرَمًا مُفنِّدًا أو مَوتًا مُجهِزًا، أو الدَّجَّالَ فشرٌّ غائبٌ يُنتَظرُ، أو السَّاعةُ فالسَّاعةُ أَدهى وأمرُّ، فيَشتاقُ العَبدُ لدارٍ لا نَصبَ ولا خوفَ فيها، فَيَعملُ اليومَ لأجلِ أن يَرتاحَ فيها.

 

أيَّامُ البَلاءِ تُعلِّمُنا الخُضوعَ، أيَّامُ الشِّدةِ تُعلِّمُنا الخُشوعَ، نتذَّكرُ عِندَما نَرى ضَعفَنا وفَقرَنا، أننا عبيدٌ لا نَملكُ حتى أمرَنا، وتتحقَّقُ العُبوديةُ الحقيقيةُ بالتَّعلُّقِ بِمن خلَقَنا وقدَّرَنا، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)[فاطر:15]، عِندَها تَخشعُ الرُّؤوسُ، وتَخضَعُ النُّفوسُ، ويتعلَّمُ العَبدُ الدُّروسَ.

 

يا أرحمَ الرَّاحمينَ، أَنتَ رَبُّ المُستضعفينَ، وأَنتَ رَبُّنا، إنْ لم يَكنْ بِكَ سَخطٌ عَلينا فَلا نُبالي، ولَكنْ عَافيتَكَ أَوسعُ لَنا، نَعوذُ بنُورِ وَجهِكَ الذي أَشرقَتْ لَهُ الظُّلماتُ، وصَلُحَ عَليهِ أَمرُ الدُّنيا والآخرةِ، مِنْ أَنْ يَنزِلَ بِنا غَضبُكَ، أو يَحلَّ عَلينا سَخطُكَ، لَكَ العُتبى حَتى تَرضى، ولا حَولَ ولا قُوةَ إلا بِكَ.

 

اللهم إنَّا نسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ الْتامَّةَ لَنَا، وَلِأَحِبَّائِنا، وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ.

 

وصلِّ اللهمَّ على نَبيِّنا محمدٍ، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ.

 

المرفقات

بين الرخاء والبلاء.pdf

بين الرخاء والبلاء.doc

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات