بين الدين والدنيا

ناصر بن محمد الأحمد

2015-08-05 - 1436/10/20
عناصر الخطبة
1/ أهمية التوازن بين الدنيا والآخرة 2/ الفهم الصحيح لنصوص ذم الدنيا 3/ حث الإسلام على العمل والكسب 4/ حكم الاستمتاع بالدنيا وملاذها 5/ إنها معادلة صعبة.

اقتباس

لا بد من التوازن الدقيق في هذه المسألة، فلا تكن الدنيا أكبر همنا، وفي نفس الوقت لا نغتر بترهات الصوفية وتخبطات القُصاص الوعاظ، ونحن لا نريد تضخيم دور المال، ولكن واقع البشرية اليوم يقول: إن للاقتصاد دورًا بالغًا، ونعم المال الصالح للعبد الصالح، وكيف تقوى الدعوة الإسلامية دون الأخذ بالأسباب؟! وكيف نريد من شعوب تعيش على فتات موائد الغرب أن تنهض وتساعد في إقامة حكم الله في الأرض؟! ولهذا إنها معادلة صعبة..

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله..

 

أما بعد: أيها المسلمون: لا نبتعد كثيراً إذا قلنا: إن الاختلال في توازن أمور الدين والدنيا كان ولا يزال أحد الأسباب التي جعلت المسلمين يتعثرون في نهضتهم، ويضعفون في الوصول إلى أهدافهم.

 

إن كثيراً من المسلمين يحملون مفهوماً خاطئاً عن الدنيا أو عن التوازن بين الدنيا والدين، فتراهم يطربون عندما يسمعون قصص الزهد غير الشرعي، وقصص الزهاد الذين يتركون الدنيا كلها، والواعظ الذي يذم الدنيا دائماً يقبل الناس عليه ويسمعون منه، ويُعجبون به.

 

لا شك أنها معادلة صعبة ودقيقة تلك التي تجمع بين الدنيا والدين، أو بين الدنيا والآخرة، وأيّ خلل في فهم هذه المعادلة سيؤدي إلى أخطاء كبيرة وتقصير عما يريده الله -سبحانه وتعالى- من المؤمنين من التمكن في الأرض وإعمارها بالعدل ونشر الإسلام.

 

قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وقِنَا عَذَابَ النَّار) [البقرة: 202]، "الحسنة في الدنيا تشمل كل مطلوب دنيوي من عافية ودار رحبة، ورزق واسع، وعلم نافع، وعمل صالح، ومركب هين، وثناء جميل، والحسنة في الآخرة أعلاها دخول الجنة وتوابعه من الأمن من الفزع الأكبر وتيسير الحساب". انتهى.

 

فالدنيا في المفهوم الإسلامي الصحيح وسيلة وذريعة لتحصيل مقاصد الشريعة، فالمقصد هو الدين، ولكن لما استمد استمراره من الدنيا كانت هذه القضية مرعية، والكسب في الدنيا من الواجبات؛ لأنه لا يستطيع الاستقلال بالعبادة إلا بتأمين ضروريات حياته، وكل ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فإذا كانت الدنيا بهذه المثابة وأنها منـزل وممر لا موطن ومقر، فالآخرة هي دار الجزاء، قال الله تعالى: (فَإذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وإلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ) [الضحى: 7- 8]، إذا كانت كذلك فالواجب الكشف عن جهة انتظامها واختلالها، لنعلم أسباب صلاحها وفسادها. وبما أنها مطية للآخرة، فإنها إذا فسدت فربما أدى فسادها إلى إنقاص الدين.

 

 فإذا وصلت الحال بأهلها إلى قلة الأمن وقلة الرزق أو التهارج والقتل والعيش الذليل وتسلط الأعداء وقهرهم للمسلمين، فمن المؤكد أن هذه الأمور تُضعف الدين كذلك فلا يستطيع المسلم أن يقول: أنا أحفظ ديني وأدع الدنيا لمن هو راغب فيها؛ لأن من صلحت حاله مع فساد الدنيا واختلاف أمورها لن يعدم أن يتعدى إليه فسادها، ويقدح فيه اختلالها، لأنه منها يستمد. ومن فسدت حاله مع صلاح الدنيا، وانتظام أمورها لم يجد لصلاحها لذة ولا لاستقامتها أثراً؛ لأن الإنسان دنيا نفسه.

 

أيها المسلمون: عندما يبتعد الناس عن منهج الأنبياء وعن اتباع الشرائع الإلهية، تصبح الدنيا محورهم الأساس، وهي آمالهم وموضع لذاتهم، ويصبحوا عبيداً لها. ولا فكاك لهم من أسرها. جاء القرآن الكريم ليصحح هذه الأوضاع ويضع المسلم على الجادة المستقيمة، فالدنيا ليست غاية وإنما وسيلة، ولا بد من إعمارها. ففي هذه الدنيا نعبد الله، وفي هذه الدنيا نتعلم، وفي هذه الدنيا نجاهد. قال الله تعالى: (إنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا ويَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَاد) [غافر: 51]، (ولَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُون) [الأنبياء: 105]. (نَحْنُ أَوْلَيَاؤُكُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وفِي الآخِرَة) [فصلت: 31].  (فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَة) [آل عمران: 148]. (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِه) [الأعراف: 32]. وذِكر الزينة في هذا المجال له دلالته الخاصة، إذ الزينة جمال، والجمال شيء زائد على الضرورة.

 

وأما ما جاء في القرآن من ذم للدنيا فهو لتأديب المسرفين وكبح جماح المفرطين كقوله تعالى: (ومَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إلاَّ لَعِبٌ ولَهْو) [الأنعام: 32]. وقوله تعالى: (واضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً)  [الكهف: 45]. فهي دعوة إلى عدم التعلق بالدنيا الفانية وأنها قصيرة لا تستحق أن تُجعل غاية، كقوله سبحانه: (ورَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا واطْمَأَنُّوا بِهَا) [يونس: 7].

 

وقد بعث الله الأنبياء هداة للبشرية ولم يكن من منهجهم الإعراض عن عمارة الدنيا، قال تعالى حكاية عن هود عليه السلام: (واذْكُرُوا إذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وزَادَكُمْ فِي الخَلْقِ بَسْطَة) [الأعراف: 69]. وقوله تعالى على لسان صالح: (وإلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ واسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) [هود: 61].

 

وأما قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر" فهي سجن بالنسبة لما ينتظره في الآخرة من جنات، وجنة الكافر بالنسبة لما ينتظره في الآخرة من العذاب.

 

 وكذلك قوله -صلى الله عليه وسلم-: "الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه"، فذكر الله وما والاه هو كل عمل خير يقصد به إقامة الدين، وهذا مطلوب في الدنيا. ولذلك قال -صلى الله عليه وسلم-: "ما من مسلم غرس غرساً فأكل منه إنسان أو دابة إلا كان له صدقة". 

 

وحياة الرسول -صلى الله عليه وسلم- العملية من الدعوة والجهاد وإقامة الدولة الإسلامية، أكبر دليل على هذا التوازن فلم يمنع الصحابة اشتغالهم بالتجارة أو الزراعة من الجهاد والتعلم ونشر الإسلام.

 

أيها المسلمون: لا شك عندنا أن الصحابة -رضوان الله عليهم- هم القدوة وهم النموذج في فهم الإسلام، وأقوالهم وأفعالهم هي التي تدل على هذا الفهم، وبالرجوع إلى سيرتهم نجد أن حياتهم كانت طبيعية ليس فيها تكلف وتعمق، يأخذون بالأسباب في الكسب من تجارة وزراعة أو عمل يدوي، ويخصصون جزءاً من أوقاتهم للعلم، وإذا دعا داعي الجهاد فهم الرجال، وفيهم الأغنياء دون بطر، والفقراء مع التعفف، كانوا أبعد الناس عن التهالك على الدنيا، فتحوا البلدان وأنشئوا المدن، وأقاموا الدول.

 

الخلل إذن جاء بعدهم، جاء من يقول: إن الدنيا ضرّة الآخرة وليست طريقاً لها، وأشاع الزهد بمعنى ترك الدنيا وعدم الاهتمام بها. هؤلاء البطالون الذين لا يريدون الكدّ والتعب، ويتخوفون الصراع مع الأعداء، يلجئون إلى حيلة الزهد والانزواء وكيف يكون إذن التمكين في الأرض والحكم بشريعة الإسلام، وهذا كله يختلف عن الاغترار بالدنيا والانغماس في شهواتها.

 

قد يظن بعض الناس أن الأمور الدنيوية أو اللذات الحسية هي نقص في الإنسان، وهذا غير صحيح، بل الدنيا بوجه من الوجوه كمال إذا لم تُطغِ، وإذا لم تصرفه عن الآخرة، والدليل على أن اللذات الجسدية ليست نقصاً أن عالم الآخرة لا يخلو منها، فهو عالم يكون الإنسان بها في أعلى أوج الكمال، فيستوفي جميع اللذات الروحية والجسدية من غير عناء ولا شقاء ولا جهاد ولا بلاء.

 

 وعندما يفشل بعض الناس في الحياة ولا يستطيعون إعمار الدنيا بالخير والتمكن فيها، واستخلاصها من أيدي الكفار، عندها يلجئون إلى حيلة نفسية وهي التركيز على الزهد، وإقناع النفس أن نعيم الدنيا زائل، والكفار لهم الدنيا ونحن لنا الآخرة، وربما في دخائلهم يحبون الدنيا حباً جماً.

 

بارك الله..

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله..

 

أما بعد: أيها المسلمون: إن ما جاء عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- من ذكرٍ للدنيا لا يفهم منه إلا التحذير أن يتنافسها المسلمون فتهلكهم، وإلا أنها لا تساوي شيئاً بالنسبة للآخرة؛ لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- اشتغل بها، فقد دعا وجاهد وأسس دولة الإسلام، وكان بعض كبار الصحابة من الأغنياء، ولم يَدْعُهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى ترك المال وترك الاشتغال بالتجارة.

 

وكذلك ذم الدنيا الوارد على لسان بعض العلماء إنما هو راجع إلى أفعال بني آدم التي تقع على غير الوجه الذي تحمد عاقبته.

 

وربما يتكالب الناس على الدنيا في زمن معين أو في بلد معين، فيأتي عالم رباني ويتكلم عن الدنيا وموقعها بالنسبة للآخرة، وذلك فيما يَرُدّ الناس إلى التوسط والتوازن، فهذا صحيح، وهذا يختلف عن الذي يجعل الفقر هو الأصل، ويذم الدنيا دائماً.

 

أيها المسلمون: الإسلام يحث على العمل والكسب: قال سفيان بن عيينة: "ليس من حب الدنيا أن تطلب منها ما يصلحك". وعن الإمام أحمد: "أَحبُّ الدراهم إليّ درهم من تجارة، وأكرهها عندي الذي من صلة الإخوان".

 

 وعن سعيد بن المسيب قال: "لا خير فيمن لا يطلب المال يقضي به دينه، ويصون به عرضه، ويقضي به ذمامه، وإن مات تركه ميراثاً لمن بعده".

 

وقد جاء في القرآن عن داود -عليه السلام-: (وعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُم) [الأنبياء: 80]، وصح عن زكريا -عليه السلام- أنه كان نجاراً، وأما ما اشتهر بعدئذ من احتقار للمهن، فهذا شيء دخل على المسلمين من قبل الفلاسفة اليونانيين الذين كانوا يعظمون العمل العقلي ويحتقرون المهن، ويرتبون المجتمع طبقات حسب أهوائهم.

 

إن الاستمتاع بالدنيا وملاذها والترفه فيها وإن كان بالحلال، ولكنه يوشك أن يؤدي بالمؤمن إلى حبها والتعلق بها، فالمؤمن يبقى على حذر منها ويبتعد عن مواطن الزلل والشبهات، ويعوّد نفسه على العيش الخشن حتى يكون على استعداد للتضحية في أي وقت، وهذا لا يمنع من لبس الثوب الحسن والنعل الحسن؛ كما سأل أحد الصحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن التجمل بهذا وحبه للنظافة في مسكنه وثوبه، فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله جميل يحب الجمال". وهذا لا ينقص درجته عن الذي يفضل الخشونة في مأكله أو ملبسه.

 

وأما قول الله تعالى: (أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا واسْتَمْتَعْتُم بِهَا) [الأحقاف: 20]، فالتحقيق أنها في الكفار وليست في المؤمنين الذين يتمتعون باللذات التي أباحها الله لهم، لأنه –تعالى- ما أباحها لهم ليذهب بها حسناتهم. وقال سعيد بن جبير: "متاع الغرور ما يلهيك عن طلب الآخرة، وما لم يلهك فليس بمتاع الغرور، ولكنه متاع بلاغ إلى ما هو خير منه".

 

والخلاصة: أنه لا بد من التوازن الدقيق في هذه المسألة، فلا تكن الدنيا أكبر همنا، وفي نفس الوقت لا نغتر بترهات الصوفية وتخبطات القُصاص الوعاظ، ونحن لا نريد تضخيم دور المال، ولكن واقع البشرية اليوم يقول: إن للاقتصاد دورًا بالغًا، ونعم المال الصالح للعبد الصالح، وكيف تقوى الدعوة الإسلامية دون الأخذ بالأسباب؟! وكيف نريد من شعوب تعيش على فتات موائد الغرب أن تنهض وتساعد في إقامة حكم الله في الأرض؟!

ولهذا إنها معادلة صعبة..

اللهم..

 

 

المرفقات

الدين والدنيا

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات