عناصر الخطبة
1/اليسر والسماحة في أحكام الصيام 2/خير طريق لمعرفة يسر الإسلام الاقتداء بخير الأنام 3/ضرورة معالَجة مظاهر الإفراط والتفريط 4/الاعتقاد الخاطئ بأن في شرائع الإسلام صعوبات وتشديدات 5/من فوائد الصيام إظهار تميز أمة الإسلام عقيدة وعملا 6/أنفع شيء للعبد إقباله على ربه 7/وصايا لاغتنام شهر الخيراتاقتباس
إنه لا شيء على الإطلاق أنفع للعبد من إقباله على الله، واشتغاله بذِكْره، وتنعُّمِه بحبِّه، وإيثاره لمرضاته، بل لا حياة له ولا نعيم، ولا سرور ولا بهجة إلَّا بذلك، وإن الله -سبحانه- إذا أحبَّ عبدًا استعمَلَه في الأوقات الفاضلة بفواضل الأعمال...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي مَنَّ على عباده بمواسم الخيرات؛ ليتزوَّدُوا فيها من القُرُبات والأعمال الصالحات، ليغفِرَ لهم الذنوبَ ويُجزِلَ لهم الهباتِ، وأشهد ألَّا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، أكمَل لنا الدينَ، وأتمَّ علينا النعمةَ، ورضي لنا الإسلامَ دينًا، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعدُ: فاتقوا الله -عباد الله-، وراقِبوه في كل ما تقولون وما تفعلون، تنالوا المغفرةَ وإصلاحَ الأحوال، والتوفيقَ والتسديدَ؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71].
أيها المسلمون: إنَّ ممَّا يتجلَّى في أحكام الصوم في رمضان، والحِكَم العظيمة التي يهدف إليها الصيام؛ اليُسْرَ والسماحةَ التي بُنِيَ عليها دينُ الإسلام، كما هو في سائر فرائض الدِّين وواجباته العظام، مع تحقيقِ العبوديةِ لربِّ البريةِ، ومراعاةِ المصالحِ الشرعيةِ، والمسلمُ -حقًّا- مَنْ كان على بيِّنة من أمره، يعرف هُويتَه وهدفَه الذي يجب أن يحقِّقَه في حياته؛ فهو موحِّدٌ لله، عابدٌ له، مخلِصٌ له الدينَ، مستسلِمٌ خاضعٌ لربه، منقادٌ له بالطاعة، مجيبٌ لدعوته، مستقيمٌ على شِرْعَتِه، وفقَ ما أراد اللهُ، فلا ينحرف عن الجادَّة بغلوٍّ أو جفاءٍ، وهذه الأوصاف والخصائص تنتظم كلَّ مسلم موحِّد لَزِمَ دينَ الإسلام الذي ارتضاه اللهُ لنا، ولا يَقبل من أحدٍ سواه؛ كما قال تعالى: (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)[الْمَائِدَةِ: 3]، وقال جلَّ شأنُه: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[آلِ عِمْرَانَ: 85]، وهو دين الوسط في كل الأمور؛ عقيدةً وشريعةً وآدابًا وأخلاقًا.
أمَّا عن هدف المسلم في الحياة؛ فقد بيَّنَه اللهُ -جلَّ في علاه- بقوله: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)[الذَّارِيَاتِ: 56]، فينحصر الهدفُ الذي خَلَقَ اللهُ الخلقَ من أجله في عبـادة الله.
إخوة الإسلام: لقد أكرمنا الله بهذا الدين الحنيف، واختار شرعًا سمحًا ميسَّرًا، لا مشقةَ فيه ولا عسرَ، وهذا من مظاهر عظمة هذا الدين؛ قال تعالى: (مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)[الْحَجِّ: 78]، فما أمَر اللهُ -سبحانه- وألزَم إلا بما هو سهلٌ على النفوس، لا يُثقِلُها ولا يشقُّ عليها، ثم إذا عَرَضَ بعضُ الأسباب الموجبة للتخفيف، خَفَّف ما أَمَرَ به؛ إمَّا بإسقاطه أو إسقاطِ بعضِه، وقد أكَّد -صلى الله عليه وسلم- على سماحة هذا الدين ويسره بقوله: "أحبُّ الأديان إلى الله -تعالى- الحنيفيةُ السمحةُ".
عبادَ اللهِ: وإذا ما تساءلنا: ما السبيل لفَهْم يُسْرِ الإسلامِ وسماحتِه؟ فالجواب: إنه لا يمكن فهم ذلك حقًّا إلا من سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم-، فخيرُ الهديِ هديُه، وقد جعَلَه اللهُ على شريعة تتَّسِم بتحقيقِ المصالحِ وموافَقةِ الفطرةِ، وإمكانِ العملِ بها وامتثالِها، فقد جاء في حديث الثلاثة الذين سألوا عن عبادة النبي -صلى الله عليه وسلم- فلما أُخبِرُوا كأنهم تقالُّوها، فقالوا: أين نحن من النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ قد غفَر اللهُ له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر، قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدًا، وقال آخَرُ: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخرُ: أنا أعتزل النساء ولا أتزوَّج أبدًا، فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "أنتم الذين قلتُم كذا وكذا؟ أمَا واللهِ، إني لَأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوَّج النساءَ، فمَنْ رَغِبَ عن سُنَّتِي فليس مني"، وهكذا هي سُنَّةُ الرسولِ -صلى الله عليه وسلم-، وسطٌ بين الإفراط والتفريط، ومَنْ تأمَّلَ حُسنَ هذا الدين ونقاءه وصفاءه وبهاءه ويُسْرَه وسهولتَه ازداد تمسُّكًا به وتعظيمًا له وقيامًا بعقائده وأحكامه وآدابه وأخلاقه.
عبادَ اللهِ: وقد يكون في واقع الناس ما يُخالِف هذا المفهومَ الشرعيَّ الصحيحَ؛ فقد رأى -صلى الله عليه وسلم- رجلًا قائمًا في الشمس، فسأل عنه فقالوا: هذا أبو إسرائيل؛ نذَر أن يقوم ولا يقعد، ولا يستظل، وأن يصوم ولا يتكلم، فأمَر النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أن يقعد ويستظل، وأن يتكلم وأن يُتِمَّ صومَه، فلم يجعل النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- القيامَ وعدمَ الكلام طيلةَ اليوم، والبروزَ للشمس لم يجعلها قُرْبةً يجب الوفاءُ بها؛ فهذا ممَّا لا يُتعبَّد به، وأمَّا الصوم فقد وافَقَه عليه؛ لأنه مِنْ هديِه -صلى الله عليه وسلم-، وهذا الحديث يدلُّ على أن تطبيقات الناس العملية الخاطئة لا تمثِّل شرائعَ الدِّينِ، وأن السلوكياتِ المنحرفةَ لا علاقةَ لها بالشرع، فَمِنَ الناسِ مَنْ غلا وتشدَّد وأتى في الدين بما لم يأتِ به خاتمُ الأنبياء والمرسلينَ -صلى الله عليه وسلم-، وتجاوَز هديَه إلى مبتدَعات ومخترَعات لا أصلَ لها، وألزَم نفسَه بأغلالٍ وآصارٍ، لم يشرعها ربنا -عز وجل-، فهؤلاء قد حادُوا عن الجادَّة، وعملُهم مردودٌ عليهم، قال صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ"، وفي هذا: النهيُ عن التشديد في الدِّين، بأن يُحمِّل الإنسانُ نفسَه من العبادة ما لا يَحتَمِلُه إلا بِكُلْفَةٍ شديدةٍ.
وفي مقابل ذلك -عباد الله- هناك مَنْ يقع في التفريط، ويتساهل في أمرِ ديِنه؛ بحجة أن الدِّينَ يسرٌ، فيترك بعضَ الواجبات ويرتكب المحرَّماتِ، وينسُب بعضَ أوامر الله اللازمة للتشدُّد ويصفها بالتزمُّت، وهذا ناشئٌ عن ضَعْف إيمانه، وقلة تقواه، فلا عجبَ أن يُزيَّنَ له سوءُ عملِه؛ فيحيدَ عن الصراط المستقيم، وتغيبَ عنه حقيقةُ السماحة واليسر الذي جاء به الشرعُ القويمُ.
أيها الإخوة: لقد استقر في أذهان بعض الناس أن في الدين صعوباتٍ وتشديداتٍ، وهي فكرةٌ يروِّج لها أعداءُ الدين، ويزعمون أن الدين الإسلامي هو القيود والأغلال التي أخَّرَت الأمةَ الإسلاميةَ، وقعَدَتْ بها، ويتلقَّف هذه الدعوى الجائرةَ أتباعٌ لهم ويُشِيعُونَها بين الناس، فتأتي الأحكامُ الشرعيةُ ومصالحُها، ومنها أحكامُ الصيامِ وحِكَمُه؛ لتدفع تلك الفريةَ الظالمةَ، وتُبَيِّنَ عوارَ تلك التهمة الزائفة، وتعلِّمَنا أن الدين يسرٌ، وأن اللهَ لم يكلِّف العبدَ بشيء إلَّا وجعَل له فيه تيسيرًا، ورفَع عنه فيه الحرجَ، وكيف لا تكون أحكام الشرع كذلك، والله أعلم بما يتلاءم مع النفس البشرية وما يُصلِح العبادَ؟ وهو -سبحانه- أرحمُ بهم؛ ففرَض الصومَ على المسلمين كما فرَضَه على الذين مِنْ قبلِهم؛ لِمَا فيه من الفوائد والمصالح الدنيوية والأخروية، وقد اقتضت حكمةُ الله -تعالى- أن يتدرَّج هذا التشريعُ في مراحل وكانت آخرُ مراحله الترخيصَ بالإفطار في حال المرض الذي يشقُّ معه الصيامُ والسفر، ثم يقضي بعدَ رمضان صيامَ أيامٍ معدودةٍ؛ عددَ ما أفطَرَه، كما قال سبحانه: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)[الْبَقَرَةِ: 185]، كما أن أيام الصيام معدودةٌ، لا تزيد عن ثلاثين يومًا، فهو شهرٌ واحدٌ من بين اثنَيْ عَشَرَ شهرًا ، وهو من طلوع الفجر وحتى غروب الشمس، وليس اليوم كاملًا، فانظروا -رحمكم الله- كيف أن الله لم يكلفنا عنتًا، ولم يأمرنا بما لا نطيق، ومع هذا فَمِنَ الناسِ مَنْ يتلاعب بأحكام الشريعة، ويأخذ من الدين ما يهوى، ويترك ما لا ما يُوافِق هواه، وتصلُ به مسألةُ اليسر إلى أن يَخرُج بالشريعة عن معناها وحدودها؛ فيحتالَ على أحكام الشرع، وهذا من صور الاستهزاء، ومن طريقة بني إسرائيل، الذين أحلُّوا ما حرَّم الله بأدنى الحِيَلِ، وآمَنُوا ببعض ما أُمِرُوا به وكفروا ببعضه، فعاب الله عليهم بقوله: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ)[الْبَقَرَةِ: 85].
كما أن من كمال الشريعة وعظمتِها استيعابَها لجميع الأحكام، بما في ذلك أحكامُ الصيامِ ونوازلُه، وجميع ما يَجِدُّ في أحكامه كلِّها.
أيها الصائمون: ومن الأمور التي نستفيدها من شهر رمضان؛ تميزنا بعقيدتنا وشريعتنا عن غيرنا، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ)[الْبَقَرَةِ: 183]، فبَدَّلَ أهلُ الكتاب وحرَّفوا ما أمَرَهم اللهُ به، وفرَضَه عليهم؛ من الصيام وغيره، وعصَم اللهُ هذه الأمةَ من التغيير والتبديل في أحكام دينها، ومن الأمور التي نستفيدها كذلك في رمضان أن يربي العبدُ نفسَه على الإخلاص، قال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه"، فمعنى "إيمانًا" أي: إيمانًا بالله ورسوله، وتصديقًا بفرضية الصوم، وما أعدَّ اللهُ -تعالى- للصائمين من جزيل الأجر، ومعنى "احتسابًا" أي: طلبًا للأجر والثواب؛ بأن يصومه إخلاصًا لوجه الله -تعالى-، لا رياء ولا تقليلدًا ولا غير ذلك من المقاصد.
والصيام فرصة سانحة لتربية النفس على قوة الإرادة وتقوية وازع الإيمان؛ فالعبد يقهر نفسه، ويصبر على الجوع والعطش والشهوة، وفي هذا ترويض للنفس على ترك مألوفاتها؛ كما في الحديث القدسي: "يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي".
عبادَ اللهِ: من فضل الله ومنته جعَل شهرَ رمضانَ مضمارًا لخلقه، يستبقون فيه بطاعته إلى مرضاته، فبادِروا -وفَّقَكم اللهُ- إلى الخيرات، وأصلِحوا من أحوالكم، أوصى أبو ذر -رضي الله عنه- أصحابه يومًا فقال: "إن سفر القيامة طويل، فخُذوا ما يصلحكم، وصُوموا يومًا شديد الحر لحر يوم النشور، وصلُّوا ركعتين في ظلمة الليل، لظلمة القبور، وتصدَّقوا بصدقة السر ليوم العسر".
ولَمَّا قيل للأحنف بن قيس: "إنك شيخ كبير، والصوم يُضعِفُكَ. قال: إني أُعِدُّ لسفر طويل، والصبر على طاعة الله أهون من الصبر على عذاب الله".
فاللهم أيقظنا من رقدات الغفلة، ووفِّقْنا للتزود من التقوى قبل النُّقْلَة، وارزقنا اغتنام الأوقات في ذي المهلة.
أقول هذا القول وأستغفر الله الجليل لي ولكم، فاستغفِروه من كل ذنب وخطيئة، وتوبوا إليه، إن ربي غفور رحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات، امتنَّ على عباده بأيامٍ وليالٍ شريفةٍ مبارَكاتٍ، وأشهد ألَّا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، ذو الفضل والإحسان والعطايا والهبات، وأشهد سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، خير من أطاع ربه، واغتنم الأزمنة الفاضلة، وتعرَّض فيها للنفحات، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تمسَّك بسُنَّته إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد، فيا عبادَ اللهِ: إنه لا شيء على الإطلاق أنفع للعبد من إقباله على الله، واشتغاله بذِكْره، وتنعُّمِه بحبِّه، وإيثاره لمرضاته، بل لا حياة له ولا نعيم، ولا سرور ولا بهجة إلَّا بذلك، وإن الله -سبحانه- إذا أحبَّ عبدًا استعمَلَه في الأوقات الفاضلة بفواضل الأعمال، وإذا مقَتَه استعمَلَه في الأوقات الفاضلة بسيء الأعمال؛ ليكون ذلك أوجعَ في عقابه وأشدَّ لمقته لحرمانه بركةَ الوقت، وانتهاكِه حرمةَ الوقت؛ فالحذرَ الحذرَ -عباد الله- من الغفلة والإعراض عن الله -تعالى-، بل علينا أن نَجِدَّ ونجتهدَ؛ فنُرِيَ اللهَ من أنفسنا خيرًا في هذه الأيام والليالي المبارَكة، ونُقبِلَ على التوبة النصوح، ونتعرَّضَ لنفحات الجليل، ونَضرِبَ بسهمٍ في كل عمل صالح مستطاع، وأن نُكثِر من ذكر الله، ونحافظ على الصلوات المفروضة، ولا نفرِّطَ فيها أو نتكاسلَ عنها، ونحرصَ على الصدقة وبَذْل المعروف والمساهَمة في أوجُه الخير، والمشارَكة في أبواب البِرِّ؛ استثمارًا لما بَقِيَ من أيام شهرنا، الذي انقضى ثلثُه، ولْنُقْبِلْ على كتاب ربنا تلاوةً وتدبُّرًا، فالقلوب تصفو، والنفوس تزكو بالإقبال على الصلاة وقراءة القرآن، وسائر الطاعات، ولنغتنم ليالي الشهر مستشعرين ما في ذلك من فضل وعظيم أجر، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه".
ولْنَسْعَ في قضاء حوائج المحتاجين، وتفقُّد أحوال المساكين، فرمضان موسم المتصدقين، وفرصة سانحة للباذلين والمعطين، يقول الشافعي -رحمه الله-: "أحب للرجل الزيادة بالجود في رمضان؛ اقتداء برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولحاجة الناس فهي إلى مصالحهم، ولتشاغُل كثير منهم بالصوم والصلاة عن مكاسبهم"، ولْنُبَادِرْ -عباد الله- بنفع غيرنا بكل أنواع النفع، وأعظمُه دلالتُهم على الخير ونصحهم، ويدخل فيه: تعليم الجاهل، وإرشاد الضال، ووعظ العاصي، وتنبيه الغافل وتذكير الناسي، وأَوْلَى الناسِ بالنفع والإفادة وإسداءِ المعروف رعيةُ المرء، فتعاهَدُوا -عباد الله- أهليكم وأبناءكم وبناتكم، ومَنْ تحتَ أيديكم بالإحسان إليهم والنصح والتوجيه والسعي في استصلاحهم، وأَمْرِهم بالمعروف، ونهيِهم عن المنكر، مع الرِّفْق واللِّين، وإشعارهم بمحبتكم، والإشفاق عليهم، وحضِّهم على فِعْل الخير واغتنام الأوقات والبُعْد عن المفاسد والمنكَرات، وتحذيرهم من رفقاء السوء، والعلاقات المحرَّمة، والقنوات والمواقِع والمنتديات غير النافعة، التي تعود عليهم بانحرافات عقدية، وفكرية، وسلوكية، وأضرار أخلاقية، وتربوية، واجتماعية.
معاشر المسلمين: إن مما يعكِّر صفوَ رمضان ويُذهِب روحانيَّتَه ويمحو أثرَ العبادة إضاعةَ الأوقات في أيامه ولياليه، بالمعاصي والتوافه والملهِيات وما لا فائدةَ فيه، فإطلاقُ اللسان بالكلام المحرَّم، والاستماعُ إلى الحرام، والنظرُ إلى الحرام، كلُّ ذلك يؤدِّي إلى مضرَّةِ قلبِ العبدِ وفسادِه، والانشغالِ عمَّا ينفعُه، فيا من دَعَتْه نفسُه لاقتراف السيئات، في شهر المغفرة وتكفير السيئات، اتقِ اللهَ ربَّكَ، واستحِي من نظره إليك، فلا تَعْصِه وتخالف أمره، وقد أكرمك ببلوغ رمضان وأنتَ صحيحٌ معافًى، بينما هناك مَنْ حال الموتُ بينَه وبينَ بلوغ الشهر فلم يدركه، وهناك مَنْ أدرَكَه لكنه عاجزٌ عن الصيام والاغتنام، ثم أين أنت من استشعار النداء الرمضاني المبارَك العظيم؛ "يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر".
يا عبد الله، يا من وقع أسير شهواته، يا من عصى الله في خلواته، يا من أيام عمره معدودة، وأنفاسه محدودة، يا كثير التفريط في قليل البضاعة، يا شديد الإسراف يا قوي الإضاعة: كأني بك عن قليل يُرمى بكَ في جوف قاعة، مسلوبًا لباسَ القدرة وبأس الاستطاعة، وجاء منكَرٌ ونكيرٌ في أفظع الفظاعة، وأمسيتَ تجني ثمار هذه الزراعة، وتمنيتَ لو قدرتَ على لحظة لطاعة، وقلتُ: "ربِّ ارجعونِ"، وما لكَ كلمة مطاعة، فأدرِكْ نفسَكَ، وأعلِنِ التوبةَ عن تلك الآثام هذه الساعة.
هذا وصلُّوا وسلِّموا عباد الله على نبيكم؛ امتثالًا لأمر ربكم؛ (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]، اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وأهل بيته، كما صليت على آل إبراهيم إنَّكَ حميدٌ مجيدٌ، وبارك على محمد وأهل بيته، كما باركت على آل إبراهيم إنَّكَ حميدٌ مجيدٌ.
اللهم أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، ، وأَذِلَّ الكفرَ والكافرينَ، ودَمِّر أعداءَ الدِّينِ واجعلهم عبرة للمعتبرين، اللهم احفظ بلاد الحرمين من شر الأشرار، وكيد الكائدين، وكل عدو للإسلام والمسلمين، واجعلها آمنة مطمئنة، رخاء وسعة، وسائرَ بلاد المسلمين، اللهم ادفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا والزلازل والمحن وسوء الفتن، ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة، وعن سائر بلاد المسلمين.
اللهم كن لإخواننا المجاهدين والمستضعفين في سبيلك، والمرابطين على الثغور، وحماة الحدود، اللهم كن لهم معينا ونصيرا، ومؤيدا وظهيرا، اللهم آمِنَّا في الأوطان والدُّورِ، وأصلح الأئمة وولاة الأمور، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا ربَّ العالمينَ.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، وخذ بناصيته للبر والتقوى، اللهم إنا نسألك العفو والعافية، والمعافاة الدائمة، في الدين والدنيا والآخرة، اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك، اللهم إنا نعوذ بك من البرص والجنون والجذام ومن سيئ الأسقام.
اللهم يا وليَّ الإسلام وأهله، مسِّكْنا بالإسلام حتى نلقاكَ عليه، اللهم اجعل أعمالنا كلها صالحة، واجعلها لوجهكَ خالصةً، ولا تجعل لأحد فيها شيئًا، اللهم بَارِكْ لنا فيما بقي من شهرنا، وزوِّدْنا فيه من التقوى، واجعلنا ممَّن يصومه ويقومه إيمانًا واحتسابًا، ومن عتقائك من النار، والحمد لله رب العالمين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم