عناصر الخطبة
1/ الإنسان حارث وهمام 2/ قصة عن أماني تحققت 3/ تفاوت همم الناس 4/ علو همم السلف الصالح 5/ قيمة الرجل بقيمة همه 6/ ضعف همم المسلمين في هذا الزمان 7/ همة المسلم الحقيقي 8/ فضل علو الهمة 9/ نماذج معاصرة لعلو الهمةاقتباس
لقد كان الصحابة الكرام -عليهم الرحمة والرضوان- مثالاً يحتذى في علو الهمة وإدراك الغايةِ من هذه الحياة؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- رباهم على المعالي والترفع عن السفاسف، حتى في طلب الجنة كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يحثهم على طلب الفردوس منها، وهو خيرُ بقاعها، وهو منتهى الهمم النبيلة، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "إذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس؛ فإنه سرّ الجنة"، أي: أفضل موضع في الجنة...
الخطبة الأولى:
أما بعد:
اتقوا الله -عباد الله-، وأعدّوا العدةَ ليوم تتفطر فيه الأكباد وتتقلب فيه القلوب والأبصار، (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) [الزمر: 56].
معاشر الآباء والأمهات والإخوة والأخوات: ما من عاقل إلا وله في حياته هدف يسعى لتحقيقه، ورسالة يودُّ أداءها، أي: أن له همًا في هذه الحياة؛ لذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أصدق الأسماء حارث وهمام". قال ابن الأثير -رحمه الله- في معنى همام: "وإنما كان أصدقها لأنه ما من أحدٍ إلا وهو يهم بأمر، خيرًا كان أو شرًا". إذًا فكل أحد يحمل بين جوانحه همًا وهدفًا يحركه في هذه الحياة ويوجه طاقاته لتحقيقه.
اجتمع ذات يوم بفناء الكعبة أربعة من أبناء سادات قريش هم: عبد الله بن عمر، وعروةُ بن الزبير، وأخوه مصعب بن الزبير، وعبد الملك بن مروان، فقال لهم مصعب: تمنَّوا، فقالوا: ابدأ أنت، فقال: ولاية العراق وتزوُّجُ فلانة وفلانة وسماهما، وتمنى عروة الفقه في الدين، وتمنى عبد الملك الخلافة، وتمنى ابن عمر الجنة. فسعى كلٌ منهم لإدراك غايته، واستجمع قواه في تحقيق أمنيته، فنال مصعب ولاية العراق وتزوج بمن سمَّى، ونال عروة الفقه فكان من الأئمة العظام ومن فقهاء المدينة السبعة، ونال عبد الملك الخلافة والملك، واجتهد ابن عمر في طلب الجنة، ونرجو أن يكون من أهلها.
وفي القصة شاهدان:
الأول: كيف ربَّى النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه، وماذا كان همهم في الحياة، وكيف كانوا سادة الدنيا بذلك. فابن عمر الذي تربى بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم- كان أسمى الأربعة همة وأنبلهم طلبة، فكان هدفه أنبل، وكانت أمنيته أسمى.
والشاهد الثاني: تفاوتُ همم الرجال مع أن مطالب الأربعة كلّها في حدود المباح، لكن شتَّان بين من جعل همه بلوغ الجنة أو الفقه في الدين وهو طريق إلى الجنة، وبين من جعل همه التزوج بامرأة أو نيل منصب زائل، إن تركه الناس فيه فلم يخلعوه لم يتركه الموت حتى ينزله من كرسيه ويقذف به تحت التراب.
وفي القصة شاهد آخر، وهو أن ما يحمله الإنسان بداخله من همٍ ورسالة يُحرّك طاقاتِه نحو تحقيقه، فإذا به يتحقق، لا لأنه تمنّاه، ولكن لأنه جدَّ في تحقيقه وبذل أسباب الوصول إليه، فتحقّق بإذن الله.
وتأمل معي -أخي الكريم- تفاوت الهمم وكيف تتفاوت مقادير الرجال بتفاوتها، فمن الناس من همه جمع الدراهم وتكثيرها، وربما شح بها على نفسه أو أهله لأن همه في رؤيتها كثيرة وإن لم ينتفع بها، وهو بمثابة العبد الذي يحرس المال لسيده ولا حظ له فيه، ومنهم من همّه نيل المناصبِ والترفع بها، بل من الناس من همه أن يصبح لاعبًا يركض في الملاعب فتصفق له الغوغاء ويعظم في أعين الدهماء، ولا تزال الهمم تدنو وتدنو حتى إن من الناس من همه أن يكون مغنيًا يتمايل طربًا فيتمايل معه السفهاء، أو كاتبًا يشيع الفاحشة وينشر الرذيلة ويفري الأعراض ويروّج للباطل لينال به عرضًا زائلاً وصيتًا حائلاً، ومنهم من همه في الحياة امرأة يرى أنه إن ظفر بها فقد فاز فوزًا عظيمًا، وإلا فقد فاتته الحياة، ومن الناس من همه البنيان والعمران، فيرى أنه متى أكثر من العمران وأطال البنيان فقد قام بواجبه في الحياة؛ لأن الغرض من الحياة عند البعض أن نعمر الأرض ونحرثها ونزينها وكأننا خلقنا لها لا أنها خلقت لنا مع أن مولانا سبحانه يقول: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا) [البقرة: 29]، ومن الناس من همه بطنه، ومنهم من همه نزواته وهكذا. ولا تزال الهمم تصغر وتصغر حتى يصبح هم أحدهم في أمر تافه حقير يقضي ساعات طوال في الانشغال به، مع أنه يعود عليه بالضرر عاجلاً أو آجلاً، وكلٌ يسير إلى غايته، ويجهد في تحقيق رسالته، ومن هنا ينشأ التفاوت بين النبلاء والدهماء، بين العقلاء والسفهاء؛ لأن منازل الرجال وكذلك النساء تتفاوت بتفاوت ما يحملونه من الهموم والغايات، فالهمم العالية تسمو بصاحبها إلى ذرى المعالي، والهمم الدنيئة تسفُل بصاحبها إلى الحضيض، وكلٌ يسعى لإدراك غايته وتحقيق أمنيته جليلة كانت أم حقيرة، خيرًا كانت أم شرًا.
ألا بلّغ الله الحمى من يريده *** وبلغ أكناف الحمى من يريدها
وشتان بين من همه الحمى ومن همه كنيف الحمى.
معاشر المسلمين: لقد كان الصحابة الكرام -عليهم الرحمة والرضوان- مثالاً يحتذى في علو الهمة وإدراك الغايةِ من هذه الحياة؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- رباهم على المعالي والترفع عن السفاسف، حتى في طلب الجنة كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يحثهم على طلب الفردوس منها، وهو خيرُ بقاعها، وهو منتهى الهمم النبيلة، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "إذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس؛ فإنه سرّ الجنة"، أي: أفضل موضع في الجنة، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إن في الجنة مائة درجة أعدّها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس؛ فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة".
وهذا عبد القادر الجيلاني -رحمه الله- يقول لغلامه: "يا غلام: لا يكن همّك ما تأكل وما تشرب وما تلبس وما تنكح وما تسكن وما تجمع، كل هذا همُّ النفس والطبع، فأين همُّ القلب؟! همُّك ما أهمَّك، فليكن همّك ربّك -عز وجل- وما عنده".
واعلم -أيها الحبيب اللبيب- أن الهمّ الذي تحمله بين جنبيك هو الذي يحدِّدُ قيمتك في سوق الرجال، فإن كان همُّك في الحياة رضوان الله -عز وجل- فتحيا بدينك ولدينك ذابًا عن حياضه حاميًا لحماه دائبًا في نشره مجاهدًا لعزه ونصره مجتهدًا في نصح الخلق وتعبيدهم لخالقهم، ساعيًا في الخيرات آمرًا بالمعروف وناهيًا عن المنكر، فاعلم أن همَّك عظيم ومطلبَك كريم، فأخلص العمل لله -جل وعلا-، واقتفِ سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وسترى الثمار يانعة بإذن الله، فإن كنت ذا علم فعلِّمه من لا يعلم، وإن كنت ذا مال فلا تبخل بالبذل لإعزاز دينك وغوث إخوانك ودحر أعداء دينك، وإن كنت ذا منصب وجاه فاستعمله في مرضاة ربك وخدمة دينك وأمتك.
أما من كان همُّه في الحياة ليس إلا منصبًا رفيعًا، وقصرًا منيفًا، ومالاً وفيرًا، ولا همَّ له في دينه فلا يغضب لله ولا ينتصر لأولياء الله من العلماء والدعاة، ولا يأبه بانتهاك حدود الله فهذا ميت يمشي بين الأحياء، فأحسن الله عزاءه في نفسه، ولا كثر في المسلمين من جنسه، فبطن الأرض خير له من ظهرها.
ومـا للمرء خيرٌ في حياةٍ *** إذا مـا عُد من سقط المتاعِ
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الخطبة الثانية:
إخوتي الكرام: لقد أصيب المسلمون في عصورهم المتأخرة بدنو الهمم والرضا بالهوان والقعود عن معالي الأمور والاشتغال بالسفاسف والترهات على مستوى الأفراد والجماعات، فصاروا إمعات وببغاوات إلا من رحم الله، وغلب على الأمة اللهو والبطالة والعبث؛ ولهذا أصبحت الأمة غرضًا لأعدائها الذين تسلطوا عليها وجاسوا خلال ديارها فساموها سوء العذاب، بعد أن كانت عزيزةً مهيبة الجناب، فهوت من عليائها، ونزلت من شامخ عزها، ولقيت صغارًا بعد شمم، وذلاً بعد عزة، وجهلاً بعد علم، وعبثًا ولهوًا بعد جدٍ وحزم. فما أحوجنا أن نرجع إلى ديننا وأن نُعلي هممنا، فبالدين نرجع إلى الجادة، وبالهمم العالية ننفض غبارَ الذل ونرفع غِشاوةَ المهانة.
معاشر المسلمين: إن المسلم بطبيعته عالي الهمة؛ لأنه يشعر أنه مُبتعث لهداية الخلق والأخذ بأيدي الضالين إلى معرفة الله وما شرعه لخلقه، فهذا ربعي بن عامر يعرّف كسرى بحقيقة المسلم فيقول له: "نحن قوم ابتعثنا الله لإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن جور الأديان -يعني بعد تحريفها- إلى عدل الإسلام".
نعم -أيها الكرام-، هذه حقيقة المسلم وهذه همته، ولكنها تضعف بضعف العلم ونقص الإيمان، فكلما زاد العلم بالله ودينه وزاد الإيمان علت الهمة. وهذا سرّ علو همة الصحابة والتابعين الذين امتدّ سلطانهم من جنوب فرنسا إلى تخوم الصين، فهمة المسلم إنما تضعفها المعصية والجهل بحقائق الدين، وإلا فالأصل في المسلم علو الهمة، فهمته قد علت الجوزاء، ولم تتسع لها الأرض، فتطلعت إلى ما أعد الله لأوليائه في السماء.
وإن الهمة العالية لا تزال بصاحبها تزجره عن مواقف الذل ومواضع التهم وتنأى به عن التلطخ بالرذائل وتحثه على اكتساب المكارم والفضائل. والهمةُ العالية ترفع القومَ من سقوط، وتبدلهم بالخمول نباهة وبالضعة رفعة، ذلك أن علوَّ الهمة يستلزم الجدَّ والإباء ونُشدان المعالي وتطلابَ الكمال والترفع عن الدنايا. ولا تزال الهمة النبيلة ترقى بصاحبها في مراقي الكمال في دينه ودنياه، فلا يقصر همه على نفسه، بل يصل خيره لغيره، ويسعى في مصالح الأمة، ويجتهد في كلّ ما يرفع عنها الغمة، يحيا لأهداف سامية، فيحيا كبيرًا ويموت كبيرًا، أما الذي يعيش لنفسه فلا يُفرَح بحياته، ولا يؤسى لوفاته، وإن صغير الهمة عندما يرى أعداء الأمة في قوة وسطوة يذوب أمامهم رهبة، ويُطرق إليهم رأسه انبهارًا وذلة، ثم لا يلبث أن يسيرَ في ركابهم، ويسارع في مشاكَلتهم ومرضاتهم، ويهرول خلفهم في كل صيحة هرولة الإمعة الأبله.
معاشر الإخوة: إن هذا الدين العظيم أشد ما يكون حاجةً إلى رجال يحملون همَّه، رجال أقدامهم في الثرى وهمة هاماتهم في الثريا؛ لذا كان الحسن -رحمه الله- يقول: "يا له من دين لو أن له رجالاً".
إن علو الهمة هو أول طريق النجاح في الدين والدنيا بعد تقوى الله -جل وعلا-، ولكن لا بد من التخطيط السليم لتحقيق الأهداف، فالهدف الذي لا نخطط لبلوغه يبقى حلمًا جميلاً يصعب الوصول إليه كما قال بعضهم:
إذا تمنيت بت الليل مغتبطًا *** إن المنى رأس أموال المفاليس
فينبغي التخطيط لأهدافنا، دينية كانت أم دنيوية، مباحة من المكاسب والتجارات أن العلوم والمهارات أم غيرها، وينبغي أن تكون أهدافنا واضحة، فوضوح الهدف في ذهن صاحبه من أقوى أسباب تحقيقه بعد عون الله وتوفيقه، وحبذا لو كُتبت الخطة، فقد ثبت بالتجارب أن الخطة المكتوبة أجدى وأفضل ثمرة من غيرها. وقد استغنى السلف عن ذلك لوضوح الهدف في أذهانهم وقلة الصوارف والشواغل عن بلوغ الغايات.
ولا يظنّن ظانّ أننا عندما نتحدث عن علوّ همم السلف نرجع إلى الوراء في زمن تتسابق فيه الأمم نحو المستقبل، كلا، فإن اقتداءنا بالسلف هو ترقٍّ وصعودٌ وارتفاعٌ إلى مستوى ذلك الجيل الفريد الذي لم تعرف البشرية له نظيرًا؛ لأنهم جعلوا الهموم همًا واحدًا هو هَم الآخرة، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "من جعل الهموم همًا واحدًا هم آخرته كفاه الله هم دنياه، ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديتها هلك". صححه الألباني. وإن التحلي بما كانوا عليه من كريم الصفات وجميل الشيم من مفاتيح العزة بإذن الله.
والعجب أن الكفرة يسعون لبث كفرهم وأهل الضلال يدأبون في الترويج لضلالهم، فماذا صنعنا نحن للحق الذي نحمله؟! المنصرون يجوبون الأدغال ويتجشمون صعود الجبال، والمبتدعة ينفقون المليارات من الأموال لشراء البسطاء والسذج من أهل الحق وشراء الأقلام والألسن، فماذا قدمنا نحن؟! من أراد أن يعلم ما له عند الله فلينظر ما لله عنده.
ولكن هل انتهى زمن الهمم العالية؟! هل همم الرجال تاريخ أم لا زال له شواهد في الواقع؟! إن أمة الإسلام ولود لا يزال فيها همم تطرب النفوس لذكرها وتعطر المجالس بأخبارها، هل تريدون أن تسمعوا عن علو الهمة في زماننا؟! أبشركم، فالنماذج كثيرة، وسأقتصر على ذكر نموذجين لعلو الهمة في زماننا، همة عالم إمام وهمة داعية إغاثي مبارك:
أما الأول فهو العلامة ابن باز -رحمه الله-، يقول أحد مرافقيه الذين جاؤوا معه من الطائف إلى الرياض برًا، والشيخ قد تقدمت به السن يقول: لما كنا في منتصف الطريق بعد الساعة الثانية ليلاً قال الشيخ لمرافقيه: يبدو أننا تعبنا، قفوا لننام، فوقفنا فما مست أقدامنا الأرض إلا ونمنا من التعب، وشرع الشيخ في الصلاة، فلما استيقظنا قبل صلاة الفجر فإذا بالشيخ يصلي. ويقول بعض من أصحابه: لا أذكر أن ابن باز أخذ إجازة لا شهرًا ولا يومًا، بل كل وقته لدينه وأمته، نشر للعلم، وقضاء لحوائج الناس، وأمر بالمعروف، ونهي عن المنكر، ومناصحة للقريب والبعيد من الولاة والعامة، حتى كتب لبعض الطغاة كتابًا شديدًا لإيذائه للصالحين وقتله للمصلحين، وختم كتابه بقوله تعالى: (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَّنقَلِبُونَ).
داوم -رحمه الله- أكثر من سبعين سنة بين قضاء وإفتاء ومناصب علمية، قضى من خدمته قرابة ثلاثين عامًا بعد استحقاقه للتقاعد، وجاوز التسعين وهو على منصبه يباشر مهامه الكثيرة التي تنوء بها العُصبة من الرجال، فإذا انتهى الدوام كان بقية يومه بين تعليم وإفتاء وإغاثة ملهوف ومساعدة محتاج وشفاعة لمستضعف، لا ينام إلا نحو أربع ساعات هي حظ نفسه منه، وباقي يومه لدينه وأمته، أتته الدنيا فأعرض عنها؛ لأن همته جاوزت حدود التراب وما عليه، ولو شاء أن يكون من الأثرياء لكان، فقد أثرى من هو دونه جاهًا ومنصبًا، ولكنه آثر الزهد والخروج من الدنيا خفيفًا، فكان يبذل ماله بذلاً قلّما تسمع به أذن، فقد كان من كرماء هذا الزمان، وله في الجود والإنفاق في وجوه الخير مواقف لا يتسع المقام لذكرها.
وبالجملة فقد كانت الدنيا عنده أهون من أن يُلتفت إليها؛ لأن همته أعلى من الدنيا وما فيها، حتى قال بعضهم: نحن نركض خلف الدنيا وابن باز يهرب منها.
فما أحوج أبناء العشرين والثلاثين والخمسين لهمة ابن التسعين -عليه رحمة الله وعلى سائر علماء المسلمين-.
وأما المثال الآخر الذي يشهد أنه لا زال للهمة رجال ولا زالت الأمة ولادة؛ فطبيب خليجي سمع بجهود المنصرين في إفريقيا، فتحركت فيه حمية الدين ونخوة المؤمن، فترك حياة الرغد والرفاه والوظيفة المرموقة ليعيش في إفريقيا سنوات طويلة، وهو إلى هذا اليوم يجوب أدغالها ويخوض مستنقعاتها غير مبالٍ على أي فراش نام، أو من أي طعام أكل، ومن أي ماء متعكر شرب، فقضى هناك زهرة شبابه؛ باذلاً نفسه لدينه، دائبًا في الدعوة والإغاثة حتى تقدمت به السن، فلم يبالِ بكبر سنه، ولم تعقْه الأمراض التي أنهكت جسده الذي صار مستودعًا لعدد منها, هانت عليه نفسه في الله, وعلت همته في سبيل الله، فأسلم على يده الألوف المؤلفة من النصارى والوثنيين، وبنى المئات من المساجد والمدارس والمشافي، ووقف للتنصير في القارة السوداء كالطود الأشم، فلم يلقه المنصرون في بلدة إلا عادوا أدراجهم وانكفؤوا في جحورهم. رجل واحد يفعل كل هذا، فرزقه الله محبة الخلق، فلا يسمع بجهده أحد إلا أحبه، إنه الدكتور عبد الرحمن السميط -حفظه الله وأمده بالصحة والعافية-. ومن قصُرَت يده عن دعمه في معركة الحق ضد الباطل فلا يقصر لسانه عن الدعاء له.
ودخلت على فضيلة الدكتور القرضاوي في مرضه السابق وهو طريح الفراش وقد جاوز الثمانين، وإذا بالكتب بين يديه وبجواره، فقلت له ممازحًا: حتى في المستشفى بحث وتأليف! فضحك ولسان حاله يردّد ما قاله الإمام أحمد لما قيل له: إلى متى تطلب العلم يا أبا عبد الله؟! فقال: "مع المحبرة إلى المقبرة".
هذه هي الهمم، وهؤلاء هم الرجال.
هم الرجـال وعيب أن يقـال لمن *** لم يتصف بمعـالي وصفهم رجلٌ
وقد يقول قائل: وأين نحن من هذه الهمم؟! هذا مما يعجز عنه أكثر الناس، فنقول: سددوا وقاربوا، وليبذل كل منا لدينه ما يستطيع وما في وسعه، وفي المجال الذي يُحسنه، فلدى كل مسلم ما يستطيع أن يُقدمه، فلا تحقرن نفسك -أيها الحبيب-، فإن لم تكن بحرًا فكن بئرًا، وإن لم تكن بئرًا فكن دلوًا، وإن لم تكن سيفًا فكن غمدًا، وإن لم تكن قلمًا فكن حبرًا، (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى * وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى) [الليل: 5-11].
معاشر المسلمين: إن العاقل اللبيب من جعل همَّه في مرضاة الله، وعلم أنه لن ينال من الدنيا إلا ما كتب له مولاه، فاجتهد في رضاه، وآثره على هواه، وبذل الأسباب ثم توكل على الله، وقد صحّ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من كانت الآخرة همَّه جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همَّه جعل الله فقره بين عينيه، وفرَّق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدِّر له".
هذا؛ وصلوا وسلموا على خير البرية...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم