عناصر الخطبة
1/رمضان شهر الجهاد 2/معارك وغزوات في رمضان 3/من موانع الانتصار 4/الحث على الاجتهاد في العشر الأواخراقتباس
فإن بقينا على ذنوبنا وخطايانا وإسرافنا مع ربنا وأتينا بعقائد هشة، وولاءٍ منقوص, وحجاب لنسائنا هش رقيق، وأصبحت مصادر التلقي والفتيا من مجهولي العلم والخٌلق، وانهزمنا أمام مغريات أرباب الشهوات، وممن يريدون أن تميل الأمة ميلاً عظيماً، فأنى لنا؟!...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الحمد لله الذي اهتدى بهديه ورحمته المهتدون، وضلّ بعدله وحكمته الضالون، لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون، وأشهد أن لا إله إلا الله كتب العزة والنصر لأوليائه، وجعل الذِّلَّةَ، وَالصَّغَارَ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْره، وأشهد أن محمداً عبدالله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، الذين كانوا قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون, وسلّم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[آل عمران: 200].
رمضان شهر الجهاد والمجاهدة، والصبر والمصابرة، والفتوحات والانتصارات، رَمَضَانُ مَولِد لِلإِسلامِ، ومُبتَدَأ نَصرٍ لِلمُسلِمِينَ، وَمَشرِق فَتحٍ مُبِينٍ، وَمِفتَاح مَجدٍ كَرِيمٍ.
في رمضان كانت غزوةُ بدرٍ الكبرى التي فرق الله بها بين الحق والباطل، وهو أول مشهد شهده رسول الله؛ (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[آل عمران: 123].
في رمضان كان الفتح الأعظم فتح مكة، الذي بشر الله به محمداً فقال ممتناً عليه؛ (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا)[الفتح: 1]، ففتح الله لرسولنا محمد -صلى الله عليه وسلم- القلوب بنزول القرآن في رمضان؛ (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ)[القدر: 1]، وفتح له مكة بالتوحيد والجهاد في رمضان.
في رمضان هُدِمَ هُبَلُ وَمَعَهُ أَكثَرُ مِن ثَلاثِ مِئَةٍ وَسِتِّينَ صَنَمًا حَولَ الكَعبَةِ المُشَرَّفَةِ.
في رمضان بَعثَ الرَّسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَالِدَ بنَ الوَلِيدِ لِيَهدِمَ العُزَّى فَهَدَمَهَا, وَفِيهِ بَعثَ عَمرَو بنَ العَاصِ لِيَهدِم سُوَاعًا فَهَدَمَهُ, وَفِيهِ بَعَثَ سَعدَ بنَ زَيدٍ لِيَهدِمَ مَنَافًا فَهَدَمَهُ.
في رمضان عودةُ النبي -صلى الله عليه وسلم- من غزوةِ تبوك, واستغرقت هذه الغزوة خمسين يوماً.
في رمضان فتحت قلاع المجوس بقيادة الصحابي البطل المثنى بن حارثة -رضي الله عنه- قال ابن إسحاق: "وحمل عليهم المسلمون واحتز جرير بن عبدالله رأس قائد الفرس وقطعه, وهربت المجوس وركب المسلمون أكتافهم, وسبق المثنى بن حارثه إلى الجسر فوقف عليه ليمنع الفرس من الجواز عليه، فقتل منهم يومئذ وغرق قريب من مائة ألف, وغنم المسلمون مالاً جزيلاً وطعاماً كثيراً، وبعثوا بالبشارة والأخماس إلى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-, وذلت في هذه الموقعة رقاب الفرس، وتمكن الصحابة من الغارات في بلادهم فيما بين الفرات ودجلة", قال ابن كثير: "وكانت هذه الوقعة بالعراق نظير اليرموك بالشام".
في رمضان سير الخليفةُ عثمان بن عفان -رضي الله عنه- حملةً بقيادة عبدالله بن أبي السرح لفتح جنوب إفريقيا ونشر الإسلام في البلاد النصرانية.
في رمضان أول أسطول بحري يغزو البحر, "نَامَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يوماً في بيتِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ ثُمَّ اسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحَكُ، قَالَتْ أُمُّ حَرَامٍ: مَا يُضْحِكُكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ، غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللهِ، يَرْكَبُونَ ثَبَجَ هَذَا الْبَحْرِ، مُلُوكًا عَلَى الْأَسِرَّةِ"، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، فَدَعَا لَهَا"(متفق عليه).
وتحققت هذه البشارة حين ولي عثمان الخلافة فكتب إلى معاوية في غزو البحر، فخرج معه جماعة من الصحابة فيهم أبو ذر وأبو الدرداء وشداد بن أوس وعبادة بن الصامت وزوجه أم حرام بنت ملحان، وكان أول أسطول بحري في الإسلام، ففتحت قبرص، وعقب الغَزاة سقطت أم حرام الأنصارية من بغلتها فاندقت عنقها، فماتت شهيدةً ببشارة النبي لها.
في رمضان انطلق قائد المسلمين طارق بن زياد بجيش لا يتجاوز اثنا عشر ألفا، فوجد ملك إسبانيا قد جمع له مائة ألف، واتصلت الحرب بينهم فهزم الله المشركين، فقُتل منهم خلق كثير، ونصر الله المسلمين نصراً لا كفاء له.
في طلائع شهر رمضان سنة أربع ومائة للهجرة، زحف عبدالرحمن الغافقي بجيشه، وهناك التقى مع جيوش أوروبا الجرارة, ووقعت بين الفريقين إحدى المعارك الفاصلة لا في تاريخ المسلمين فحسب بل في تاريخ البشرية كلها، المسماة ببلاط الشهداء لكثرة من استشهد فيها من المسلمين؛ وذلك لما انشغل المسلمون بالغنائم التف عليهم العدو فخر القائد صريعاً وتبعه الشهداء, وتكررت فيه مأساة يوم أُحد، سنة الله في خلقه (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا)[الأحزاب: 62], لكن أعقبها الله بمعركة الزلاقة بقيادة يوسف بن تشافين, فقُتل فيها من النصارى ما طبق وجه الأرض دماً, وانتهت بنصر عظيم وسحق للنصرانية في شمال الأندلس.
في رمضان صرخت امرأةُ في الأسر: "وآمعتصماه", فهب الخليفة المعتصم في صبيحة الجمعة من رمضان وصاح في قصره: "النفير النفير", واستدعى الشهود فأشهدهم أن ثلث ما يملكه صدقة للمسلمين، فسار في جحافل أمثال الجبال يقودها بنفسه.
أتوك يجرون الحديد كأنما *** أتو بجياد ما لهن قوائم
فحاصر عمورية حتى انهدت حصونها ودخلوا المدينة قهراً, وتفرقت الروم وأخذ المسلمون أموالاً لا تحد ولا توصف, ولما رأى شاعر الإسلام أبو تمام حصون الروم تتهاوى بأيدي المسلمين صاح بأعلى صوته:
السَّيْــــفُ أَصْـــدَقُ أَنْبَــاءً مِنَ الكُتُــبِ *** في حدهِ الحدُّ بينَ الجدِّ واللَّعبِ
بيضُ الصَّفائحِ لاَسودُ الصَّحائفِ في *** مُتُونِهنَّ جلاءُ الشَّك والريَـــــبِ
خَلِيفَــةَ اللَّهِ جـــازَى اللَّهُ سَعْيَـــكَ عَــنْ *** جُرْثُومَةِ الديْنِ والإِسْلاَمِ والحَسَبِ
أَبْقَتْ بَني الأصْفَر المِمْرَاضِ كاسِمِهمُ *** صُفْرَ الوجُوهِ وجلَّتْ أَوْجُهَ العَرَبِ
في يوم الجمعة الخامس والعشرين من شهر رمضان التقى قائد المسلمين المظفر قطز بجحافل التتار في عين جالوت، ولما رأى قطز عصائب التتار قال لمن معه: "لا تقاتلوهم حتى تزول الشمس، وتفيء الظلال، وتهب الرياح، ويدعو لنا الخطباء والناس في صلاتهم"، والتقى الصفان، وتبارز الشجعان، واقتتل الفريقان قتالاً عظيماً، فعقر جواد السلطان قطز، فترجل وبقي واقفاً على الأرض ثابتاً، فلما ظهرت بوادر النصر استشهد الملك المظفر، قطز وأعز الله المسلمين, وأخزى التتر الملحدين, وكسر شوكتهم، ولم تقم لهم بعدها قائمة.
ملَكنا فعَدلْنَا، وبنينا فأعلينا، وفتحنا فأوغلنا، وكنا الأقوياء المنصفين.
في هذا الشهر المبارك سحق قائد المسلمين صلاح الدين النصارى في معركة حطين المدوية, واسترد بعدها بيت المقدس وضرب الجزية عليهم.
أما رمضان سنة سبعمائة واثنين من الهجرة فقد كان له نبأ في قطع جماجم التتار الملاحدة في موقعة شقحب، التي شارك فيها شيخ الإسلام ابن تيمية، وكانت الغلبة فيها للمسلمين، قال ابن كثير -رحمه الله-: "وحرّض ابن تيمية السلطان على القتال وبشّره بالنصر، وجعل يحلف له بالله إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً، وأفتى الناس بالفطر مدة قتالهم، وأفطر هو أيضاً، وكان يدور على الجنود والأمراء، فيأكل من شيء معه في يده، يتأول فيه حديث أبي سعيد: "إنكم ملاقوا عدوكم والفطر أقوى لكم".
لنا -نحن المسلمين- كل أرض يتلى فيها القرآن، وتصدح مناراتها بالأذان، لنا المستقبل والمستقبل لنا؛ (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) [محمد: 7] (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)[الحج: 40]، (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ)[غافر: 51].
الإسلام منيعٌ لا يقبل الذلة والخنوع، والمسلم عزيز بدينه، قوي بربه, وإلا فإن بقينا على ذنوبنا وخطايانا وإسرافنا مع ربنا وأتينا بعقائد هشة، وولاءٍ منقوص, وحجاب لنسائنا هش رقيق، وأصبحت مصادر التلقي والفتيا من مجهولي العلم والخٌلق، وانهزمنا أمام مغريات أرباب الشهوات، وممن يريدون أن تميل الأمة ميلاً عظيماً، فأنى لنا؟! (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[آل عمران: 165].
نستغفر ربنا ونتوب إليه، إن ربنا رحيمُ ودود.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين, والعاقبة للمتقين, ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المرسلين وقدوة الناس أجمعين وعلى آله وصحبه والتابعين، وسلم تسليما إلى يوم الدين.
أما بعد: إذا كان الأوائل في رمضان فتحوا القلوب بالقرآن، والبلدان بنشر الإسلام, فماذا عمن لا يقوى أن يوقظ نفسه لفريضة الصلاة, أو يختم القرآن كل ثلاث, أو يكف نفسه عن الحرام، أو يخرس لسانه عن دعوة ونصيحة للمسلمين؟ هذه شرائط العزة والنصر والتمكين، قال جرير بن عبدالله: "بايعت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على النصح لكل مسلم"(متفق عليه).
فاتقوا الله -أيها المؤمنون-, فمن اتقى ربه فاز وسعد، ونال يوم الجزاء جميل ما وُعد، فأخلصوا لربكم في العبادة والطاعة، والزموا الجمعة والجماعة, وبادروا بالأعمار صالح الأعمال، فقد أظلتنا خير ليال العام، العشر الليالي، البيض العوالي، فيها ليلة خير من ألف شهر, من قامها إيمانًا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه, فالرابح من استقبلها بنية خالصة، وعزيمة صادقة, وأقبل فيها على ربه دعاءً وصلاةً وذكراً ودعوةً وإنفاقاً في الخير، فقد كان نبيكم -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا دخلت العشر "إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ وَأَحْيَا لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ".
فشمروا واجعلوا من رمضان ومن العشر مدرسة ومصنعاً لصقل النفس وأطرها على الحق, علّها يكون منهج العمر والله لا يضيع أجر من أحسن عملا, فارجوا ربكم، فإن ربكم رحيم ودود، لطيف مجيد, وأكثروا من الدعاء لأنفسكم وأهليكم وأمتكم بالصلاح والحفظ والنصر والتمكين, وعلى عدوكم وعدو المسلمين من اليهود والنصارى والملاحدة والوثنيين بالخزي والمحق والخسران المبين.
ثم صلوا وسلموا على عبدالله ورسوله محمد.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم