اليوم الآخر (5-10) البعث والحشر

راكان المغربي

2023-07-14 - 1444/12/26 2023-07-23 - 1445/01/05
التصنيفات: الحياة الآخرة
عناصر الخطبة
1/التذكير بالنفخ في الصور والبعث والنشور 2/أحوال الناس يوم المحشر 3/شدة حرارة الشمس يوم القيامة والأصناف الذين يظلهم الله تحت ظل عرشه

اقتباس

الْأَهْوَالُ عَظِيمَةٌ، وَالْأَحْدَاثُ مُخِيفَةٌ، وَالْقُلُوبُ وَاجِفَةٌ، وَالْأَبْصَارُ خَاشِعَةٌ، والأهوال فضيعة، والكرب قد بلغ بالناس مبلغه، واشتدت عليهم حرارة الشَّمْسِ حتى بلغت منتهاها؛ إِذَا بِظِّلِّ يُظَلِّلُ مَكَانًا مِنَ الْمَحْشَرِ، إنه هُوَ ظَلُّ عَرْشِ الرَّحْمَنِ، َيَوْم لَا ظِلَّ إِلَّا ظَلُّهُ، فإذا بفِئَةٌ مِنَ النَّاسِ ستُظَلَّلُ بِذَلِكَ الظِّلِّ لِأَعْمَالٍ عَمِلُوهَا فِي...

الخطبةُ الأولَى:

 

أَمَّا بَعْدُ: هَا هُوَ ضَجِيجُ الْحَيَاةِ يَعُمُّ الْأَرْجَاءَ، الْأَوْضَاعُ مُسْتَقِرَّةٌ، وَالْحَيَاةُ عَامِرَةٌ، انْظُرُوا إِلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ يَحْلِبُ نَاقَتَهُ لِيَشْرَبَ مِنْ لَبَنِهَا، وَهَذَا يَرْفَعُ لُقْمَتَهُ لِيَأْكُلَهَا، وَهَذَا الْبَائِعُ يَبْسُطُ الثَّوْبَ لِيَبِيعَهُ لِمَنْ يَشْتَرِيهِ، وَأَمَّا ذَلِكَ الرَّجُلُ فَهُوَ يُصْلِحُ حَوْضَهُ لِيَسْتَقِيَ مِنْهُ الْمَاءَ، وَفِي تِلْكَ اللَّحَظَاتِ، وَفِي يَوْمٍ كَيَوْمِنَا هَذَا، فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَمِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ، إِذَا بِأَمْرٍ يُدَبَّرُ، وَحَدَثٍ عَظِيمٍ يُشَارِفُ عَلَى الْقُدُومِ.

صَاحِبُ الْقَرْنِ قَدْ الْتَقَمَ الْقَرْنَ مُنْذُ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ يَنْتَظِرُ أَنْ يَأْتِيَهُ الْأَمْرُ، وَفِي هَذِهِ اللَّحْظَةِ يَتَحَقَّقُ الْمِيعَاد.

قَامَتِ السَّاعَةُ، وَحُقَّ الْأَمْرُ، وَأَنْفَذَ اللَّهُ الْوَعْدَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ)[الحج: 1-2]، يَقُولُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَصِفُ لَحَظَاتِ الدُّنْيَا الْأَخِيرَةِ: "ولَتَقُومَنَّ السّاعَةُ وقدْ نَشَرَ الرَّجُلانِ ثَوْبَهُمَا بيْنَهُمَا فلاَ يَتَبايَعانِهِ، ولا يَطْوِيانِهِ، ولَتَقُومَنَّ السّاعَةُ وقَدِ انْصَرَفَ الرَّجُلُ بلَبَنِ لِقْحَتِهِ فلاَ يَطْعَمُهُ، ولَتَقُومَنَّ السّاعَةُ وهو يَلِيطُ حَوْضَهُ فلا يَسْقِي فِيهِ، ولَتَقُومَنَّ السّاعَةُ وقدْ رَفَعَ أحَدُكُمْ أُكْلَتَهُ إلَى فيهِ فلاَ يَطْعَمُهَا"(رواه البخاري).

 

يَنْفُخُ الْمَلَكُ فِي الصُّورِ فَيَنْقَلِبُ الضَّجِيجُ إِلَى سُكُونٍ، وَالْبِنَاءُ إِلَى خَرَابٍ، وَالْحَيَاةُ إِلَى فَنَاءٍ، (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ)[الرحمن: 26-27]، وَهَا هِيَ الدُّنْيَا تُوَلِّي ظَهْرَهَا لِلْوُجُودِ إِلَى غَيْرِ رَجْعَةٍ، قَدْ زَالَتْ بِكُلِّ مَا فِيهَا، زَالَتْ بِزَخَارِفِهَا وَأَنْهَارِهَا، بِأَمْوَالِهَا وَقُصُورِهَا، بِنِزَاعَاتِهَا وَحُرُوبِهَا، فَكَانَتْ حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ، وَإِلَى اللَّهِ الْمُرْجِعُ وَالْمَصِيرُ.

 

يَمْكُثُ الْخُلُقُ فِي الْفَنَاءِ أَرْبَعُونَ؛ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ بِدُونِ تَحْدِيدٍ، أَرْبَعُونَ سَنَةً أَمْ شَهْرًا، أَمْ غَيْرُ ذَلِكَ، ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ثُمَّ يُنْزِلُ اللهُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيَنْبُتُونَ كما يَنْبُتُ البَقْلُ، ليسَ مِنَ الإنْسانِ شيءٌ إِلَّا يَبْلَى، إِلَّا عَظْمًا واحِدًا وَهُوَ عَجْبُ الذَّنَبِ، ومِنهُ يُرَكَّبُ الخَلْقُ يَومَ القِيامَةِ"(رواه البخاري)، فَتَنْبُتُ أَجْسَادُهُمُ الْمُتَحَلِّلَةُ مِنْ عَجْبِ الذَّنَبِ الَّذِي هُوَ عَظْمٌ فِي أَسْفَلِ الظَّهْرِ لَا يَتَحَلَّلُ أَبَدًا كَمَا ثَبَتَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ عَنِ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ، وَكَمَا أَيَّدَهُ الْعِلْمُ الْحَدِيثُ بِالتَّجَارِبِ الْمُخْتَبَرِيَّةِ لِيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا.

 

ثُمَّ يَأْمُرُ اللَّهُ بِالنَّفْخَةِ الثَّانِيَةِ: (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ)[الزمر: 68]، هَا هُمْ يَقُومُونَ فَيَنْظُرُونَ مَا هِيَ الْأَرْضُ الَّتِي يَعْرِفُونَهَا، وَلَا السَّمَاءُ الَّتِي كَانُوا يُبْصِرُونَهَا، وَلَا النُّجُومُ الَّتِي كَانُوا يَهْتَدُونَ بِهَا: (إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ * وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ)[الانفطار: 1-5].

 

(عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) يَبْدَأُ شَرِيطُ الذِّكْرَيَاتِ، تَمُرُّ أَحْدَاثُ الْحَيَاةِ عَلَى الذِّهْنِ سَرِيعًا، تِلْكَ الْعُقُودُ الَّتِي قَضَوْهَا، وَالْأَمْوَالُ الَّتِي جَمَعُوهَا، وَاللَّذَائِذُ الَّتِي ذَاقُوهَا، يَنْتَهِي شَرِيطُ الذِّكْرَيَاتِ، يَتَأَمَّلُونَ فِيمَا هُمْ فِيهِ؛ فَحِينهَا يَعْلَمُونَ تِلْكَ الْحَقِيقَةَ وَيَقُولُونَهَا بِأَلْسِنَتِهِمْ: (قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ)[المؤمنون: 113].

 

إِيهٍ يَا ابْنَ آدَمَ: (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ)[ق: 22].

 

ثُمَّ يُحْشَرُونَ إِلَى أَرْضِ الْمَحْشَرِ إِلَى تِلْكَ الْأَرْضِ الَّتِي يَقُولُ عَنْهَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى أَرْضٍ بَيْضَاءَ عَفْرَاءَ كَقُرْصَةٍ النَّقِيِّ" أَيْ بَيْضَاءَ كَالدَّقِيقِ النَّقِيِّ "لَيْسَ فِيهَا مَعْلَمٌ لِأَحَدٍ".

 

وَأَمَّا حَالُهُمْ فِي مَحْشَرِهِمْ فَهُوَ الْحَالُ الْمَمْلُوءُ بِالذُّلِّ وَالْهَوَانِ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّكُمْ مَحْشُورُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ"؛ هَكَذَا يَقْدَمُونَ خَاوينَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، مِنْ مَلَابِسِهِمْ، مِنْ أَمْلَاكِهِمْ، مِنْ أَمْوَالِهِمْ، مِنْ حَشَمِهِمْ وَخَدَمِهِمْ: (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ)[الأنعام: 94].

 

وَالْجَمِيعُ حَاضِرٌ لَا يَغِيبُ عَنِ الْمَشْهَدِ أَحَدٌ: (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا)[مريم: 93-95].

 

يَسِيرُونَ وَرَاءَ ذَلِكَ الصَّوْتِ: (يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا)[طه: 108].

 

يَسِيرُونَ مُسْرِعِينَ رَافِعِي رُؤوسِهِمْ شَاخِصِينَ بِأَبْصَارِهِمْ عَلَى الْحَالِ الَّذِي وَصَفَ اللَّهُ: (إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ)[إبراهيم: 42-43].

 

الْأَهْوَالُ عَظِيمَةٌ، وَالْأَحْدَاثُ مُخِيفَةٌ، وَالْقُلُوبُ وَاجِفَةٌ، وَالْأَبْصَارُ خَاشِعَةٌ، فَيَا تُرَى مَعَ تِلْكَ الْعَظَائِمِ كَيْفَ حَالُ أَهْلِ الْإِيمَانِ؟ أُولَئِكَ الَّذِينَ اسْتَعَدُّوا لِلِّقَاءِ، وَعَمِلُوا لِيَوْمِ الْمَعَاد، يَا تُرَى هَلْ سَيَنْسَاهُمْ رَبُّهُمْ؟ لَا وَاللَّهِ.

 

هَؤُلَاءِ يَا كِرَام: (لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ)[الأنبياء: 103]؛ هَكَذَا تَلَقَّوْا وَعْدَ رَبِّهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَالْيَوْمُ مَوْعِدُ الْوَفَاءِ، وَفِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ يَقُولُ رَبُّ الْعِزَّةِ -عَزَّ وَجَلَّ-: "وَعِزَّتِي لَا أَجْمَعُ لِعَبْدِي أَمْنَيْنِ ولَا خَوْفَيْنِ؛ إِنْ هُوَ أَمِنَنِي فِي الدُّنْيَا أَخَفْتُهُ يَوْمَ أَجْمَعُ فِيهِ عِبَادِي، وَإِنْ هُوَ خَافَنِي فِي الدُّنْيَا أَمَّنْتُهُ يَوْمَ أَجْمَعُ فِيهِ عِبَادِي".

 

بَلِ اسْمَعْ إِلَى لُطْفِهِ وَهُوَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ لَهُمْ وَهُمْ فِي ذَلِكَ الْمَوْقِفِ وَتِلْكَ الْأَهْوَالِ: (يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ * ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ)[الزخرف: 68-70]؛ اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْهُمْ، وَأَمِّنَا يَوْمَ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ.

 

وَفِي الطَّرَفِ الْمُقَابِلِ مَا حَالَ أُولَئِكَ الَّذِينَ نَسُوا هَذَا الْيَوْمَ؟! كَانُوا يُذَكَّرُونَ بِهِ فَلَا يَتَذَكَّرُونَ، وَيُوعَظُونَ بِهِ فَيَغْفُلُونَ، أَعْمَوْا أَبْصَارَهُمْ، وَأَغْلَقُوا أَسْمَاعَهُمْ؛ فَكَانَ الْجَزَاء مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ: (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا)[الإسراء: 97].

 

وَبَيْنَمَا هُمْ يَسِيرُونَ إِلَى الْمَحْشَرِ إِذَا بِمَخْلُوقَاتٍ صَغِيرَةٍ مُتَنَاهِيَةٍ فِي الصِّغَرِ تَمْشِي مَعَهُمْ، يَا تُرَى مَنْ هَؤُلَاءِ؟ أَيُّ نَوْعٍ مِنَ الْحَشَرَاتِ تَسِيرُ مَعَهُمْ؟ وَهَلْ سَيُحَاسِبُونَ كَمَا يُحَاسَبُ النَّاسُ؟

 

إِذَا دَقَّقْتَ النَّظَرَ قَلِيلاً سَتَجِدُهُمْ لَيْسُوا بِحَشَرَاتٍ، بَلْ هُمْ أُنَاسٌ مِنَ الْبَشَرِ، بَلْ مِنْ أَكَابِرِ الْبَشَرِ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي الدُّنْيَا، وَأَمَّا الْيَوْمُ فَهَذِهِ هِيَ أَحْجَامُهُمْ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يُحْشَرُ الْمُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ فِي صُوَرِ الرِّجَالِ، يَغْشَاهُمْ الذُّلُّ مِنْ كُلِّ مَكَانِ"؛ فَلَا مَكَانَ لِلْكِبْرِيَاءِ هُنَاكَ، الْكُلُّ صَاغِرٌ، الْكُلُّ ذَلِيلٌ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ.

 

يَقُولُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "يَطْوِي اللَّهُ السَّمَاوَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ يَأْخُذُهُنَّ بِيَدِهِ الْيُمْنَى، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أَيْنَ الْجَبَّارُونَ؟ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ؟ ثُمَّ يَطْوِي الْأَرْضِينَ، ثُمَّ يَأْخُذُهُنَّ بِيَدِهِ الْأُخْرَى، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أَيْنَ الْجَبَّارُونَ؟ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ؟"، قال -تعالى-: (يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ)[غافر: 16-17]، هَا هُمْ فِي أَرْضِ الْمَوْقِفِ الذُّلُّ يَغْشَاهُمْ، وَالْكَرْبُ يَمْلَأُهُمْ، ثُمَّ تَدْنُو الشَّمْسُ، يَقُولُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "تُدْنَى الشَّمْسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْخَلْقِ حَتَّى تَكُونَ مِنْهُمْ مِقْدَارَ مَيْلٍ، فَيَكُونُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فِي الْعَرَقِ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى كَعْبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى حَقْوَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ إِلْجَامًا".

 

وَتَكُونُ مُدَّةُ وُقُوفِهِمْ يَوْمًا طَوِيلاً مِقْدَارُهُ خَمْسُونَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَيُهَوِّنُ اللَّهُ أَمْرَ الْوُقُوفِ عَلَى أَهْلِ الْإِيمَانِ -نَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمْ مَنْ فَضْلِهِ-، فَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى الْمُؤْمِنِ كَقَدْرِ مَا بَيْنَ الظَّهْرِ وَالْعَصْرِ".

 

اللَّهُمَّ هَوِّنْ عَلَيْنَا الْمَوْقِفَ، وَيَسِّرْ لَنَا الْحِسَابَ...

 

بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ...

 

 

الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

 

 

وَبَيْنَمَا النَّاسُ فِي هَذَا الْكَرْبِ وَمَعَ شِدَّةِ حَرِّ الشَّمْسِ وَدُنُوِّهَا مِنَ الْخَلْقِ، إِذَا بِالظِّلِّ يُظَلِّلُ مَكَانًا مِنَ الْمَحْشَرِ، هَا هُوَ ظَلُّ عَرْشِ الرَّحْمَنِ، وَيَوْمئِذٍ لَا ظِلَّ إِلَّا ظَلُّهُ، وَهَا هِيَ فِئَةٌ مِنَ النَّاسِ تُظَلَّلُ بِذَلِكَ الظِّلِّ لِأَعْمَالٍ عَمِلُوهَا فِي الدُّنْيَا، فَاخْتَرْ مِنْهَا مَا شِئْتَ؛ عَسَى اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكَ الْمَوْقِفَ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ -تَعالى- في ظِلِّهِ يَومَ لا ظِلَّ إلّا ظِلُّهُ: إمامٌ عَدْلٌ، وشابٌّ نَشَأَ في عِبادَةِ اللهِ، ورَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ في المَساجِدِ، ورَجُلانِ تَحابَّا فِي اللهِ، اجْتَمعَا عليْهِ وتَفَرَّقَا عليْهِ، ورَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذاتُ مَنصِبٍ وجَمالٍ فَقالَ: إنِّي أخافُ اللهَ، ورَجُلٌ تَصَدَّقَ بصَدَقَةٍ فأخْفاهَا حتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمالُهُ ما تُنْفِقُ يَمِينُهُ، ورَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ خالِيًا، فَفاضَتْ عَيْناهُ".

 

وَمِمَّا وَرَدَ أَيْضًا فِيمَنْ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ تَحْتَ عَرْشِهِ مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَعَ عَنْهُ، فَحَلَّ وَقْتُ سَدَادِ دَيْنِهِ، لَكِنَّهُ أَمْهَلَهُ لِعُسْرِهِ وَضِيقِ حَالِهِ، أَوْ تَنَازَلَ لَهُ عَنْ دَيْنِهِ أَوْ بَعْضٍ مِنْهُ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ أَنَظَرَ مُعْسِرًا، أَوْ وَضَعَ عَنْهُ أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ، يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ".

 

فَاللَّهَ اللَّهَ -يَا عِبَادَ اللَّهِ- بِالْعَمَلِ وَالْجِدِّ، وَمَا هِيَ إِلَّا أَيَّامٌ قَلَائِلُ، ثُمَّ الْمَوْعِدُ الْجَنَّةُ -بِكَرَمِ اللَّهِ وَفَضْلِهِ-، وَصَدَقَ اللَّهُ فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ: "إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا، فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ، فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ".

 

أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ)[لقمان: 33].

المرفقات

اليوم الآخر (5-10) البعث والحشر.doc

اليوم الآخر (5-10) البعث والحشر.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات