اليسر والسعةُ في دين الإسلام

الشيخ أحمد بن ناصر الطيار

2022-10-10 - 1444/03/14
عناصر الخطبة
1/ مجيء شريعة الإسلام بالتيسير والتخفيف 2/ اهتمام الإسلام بمصالح العباد ورفقه بهم 3/ الإسلام دين السماحة واليُسْر والرحمة 4/ من مظاهر السماحة واليسر في الإسلام.

اقتباس

يا سبحان الله! أصحابُ النبي -صلى الله عليه وسلم-, ينهون رجلاً ترك ماله وأهله ومتاعه ليجاهد في سبيل الله, ورفعِ راية الإسلام؛ لأنهم يرون أنّ ترك النِّسَاء وَالْخُرُوجَ من الْأَمْوَال, يشبه الرهبانية التي تُناقض الإسلام السمح. فأين الذين شدّدوا على أنفسهم في هذا الزمان, وتركوا أهلهم ووالدين ساخطين, ومحتاجين إليهم أشد الحاجة, وذهبوا للقتال تحت رايات مشبوهة بدعيّة, وتنكروا لأهلهم ووطنهم زاعمين الجهاد في سبيل الله, نسأل الله أن يردهم للحق.

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله الذي ختم شرائِعَه بشريعة الإسلام، وجعلها سمحةً صالحةً لكلِّ زمانٍ ومكان, وتكفَّل بحفظها عن التحريفِ والنقصان, وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له, لا يشغله شأنٌ عن شأن, ولا يغيب عنه خطراتُ الإنس والجان.

 

 وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الْمبعوثُ بالرحمة والإحسان، ومُتمِّماً لمكارمِ الأخلاقِ، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه, ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

 

 أما بعد.. فاتقوا الله عباد الله, واعلموا أنَّ الله تعالى أكرمنا بالحنيفيَّةِ السَّمْحَةِ, والْملَّة الرَّحبة, التي ما شرعها الله إلا لمصلحتنا, ولا فرضها إلا رحمةً بنا.

 

ومن أعظم ما اتَّصفت به شريعتنا, أنها جاءت بالتيسير على العباد, لا تعنُّت ولا مشقَّة فيها.

 

وهذا الذي أراده الله بنا, حيث قال تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة: 185].

وهو يريد أنْ يُخفِّف عنا جل وعلا, (يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ) [النساء: 26].

 

قال البخاري رحمه الله: بَابٌ الدِّينُ يُسْرٌ.

وَقَوْلُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَحَبُّ الدِّينِ إِلَى اللهِ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ".

ثم ساق بسنده عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قَالَ: "إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ, وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ, فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا".

 

وقد قَالَ الله تَعَالَى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا) [البقرة: 286]، قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "تَأَمَّلْ قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ: (إلَّا وُسْعَهَا) كَيْفَ تَجِدُ تَحْتَهُ أَنَّهُمْ فِي سَعَةٍ وَمِنْحَةٍ مِنْ تَكَالِيفِهِ، لَا فِي ضِيقٍ وَحَرَجٍ وَمَشَقَّةٍ، فَإِنَّ الْوُسْعَ يَقْتَضِي ذَلِكَ, فَاقْتَضَتْ الْآيَةُ أَنَّ مَا كَلَّفَهُمْ بِهِ مَقْدُورٌ لَهُمْ, مِنْ غَيْرِ عُسْرٍ لَهُمْ وَلَا ضِيقٍ وَلَا حَرِجٍ. ا.هـ

 

وكان نبيُّنا وإمامنا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-, يُحبّ ما فيه تيسيرٌ وتخفيفٌ على الناس.

قَالَتْ عَائِشَةُ -رضي الله عنها-: "لَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَتْرُكُ الْعَمَلَ، وَإِنَّهُ لَيُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَهُ مَخَافَةَ أَنْ يَسْتَنَّ بِهِ النَّاسُ، فَيُفْرَضَ عَلَيْهِمْ"، قَالَتْ: "وَكَانَ يُحِبُّ مَا خَفَّ عَلَى النَّاسِ" (رواه الإمام أحمدُ بإسنادٍ صحيح).

 

وكان ينهى أصحابه أنْ يُشدِّدوا على الناس, جاء أَعْرَابِيٌّ فبَالَ فِي الْمَسْجِدِ، فَثَارَ إِلَيْهِ النَّاسُ ليَزجروه ويُعَنّفوه، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «دَعُوهُ، وَأَهْرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ سَجْلًا مِنْ مَاءٍ، فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ» (رواه البخاري).

 

وبالرَّغْم من أنّ هذا الرجل سيُلوِّث بيت الله –تعالى-, إلا أنه مع ذلك أمر أصحابه أنْ يتركوه يُكمل بوله, كلُّ ذلك لئلا يتأذى بقطع بوله, فأيُّ سماحةٍ أعظم من هذا؟!

 

بل إنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا خُيِّر بين أمرين, لا يختار إلا الأيسر والأسهل منهما, لا يختار ما فيه المشقة والعنت أبداً.

 

قَالَتْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها-: "مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بَيْنَ أَمْرَيْنِ, أَحَدُهُمَا أَيْسَرُ مِنَ الآخَرِ, إِلاَّ اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا" (متفق عليه).

 

وعلى ذلك سار أصحابه -رضي الله عنهم-, فقد روى مسلم في صحيحه، أَنَّ سَعْدَ بْنَ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ، أَرَادَ أَنْ يَغْزُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَأَرَادَ أَنْ يَبِيعَ عَقَارًا لَهُ بِهَا, فَيَجْعَلَهُ فِي السِّلَاحِ وَالْخيل، وَيُجَاهِدَ الرُّومَ حَتَّى يَمُوتَ، فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ لَقِيَ أُنَاسًا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، فَنَهَوْهُ عَنْ ذَلِكَ، وَأَخْبَرُوهُ أَنَّ رَهْطًا سِتَّةً أَرَادُوا ذَلِكَ فِي حَيَاةِ نَبِيِّ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَنَهَاهُمْ نَبِيُّ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، وَقَالَ: «أَلَيْسَ لَكُمْ فِيَّ أُسْوَةٌ؟» فَلَمَّا حَدَّثُوهُ بِذَلِكَ رَاجَعَ امْرَأَتَهُ، وَقَدْ كَانَ طَلَّقَهَا وَأَشْهَدَ عَلَى رَجْعَتِهَا.

 

يا سبحان الله! أصحابُ النبي -صلى الله عليه وسلم-, ينهون رجلاً ترك ماله وأهله ومتاعه ليجاهد في سبيل الله, ورفعِ راية الإسلام؛ لأنهم يرون أنّ ترك النِّسَاء وَالْخُرُوجَ من الْأَمْوَال, يشبه الرهبانية التي تُناقض الإسلام السمح.

 

فأين الذين شدّدوا على أنفسهم في هذا الزمان, وتركوا أهلهم ووالدين ساخطين, ومحتاجين إليهم أشد الحاجة, وذهبوا للقتال تحت رايات مشبوهة بدعيّة, وتنكروا لأهلهم ووطنهم زاعمين الجهاد في سبيل الله, نسأل الله أن يردهم للحق.

 

قال شيخ الإسلام: "وهذا هو الدين الذي فطر الله عليه خلقه, فإنه محبوبٌ لكلِّ أحد, فإنه يتضمن الأمر بالمعروف, الذي تحبه القلوب, والنهيَ عن المنكر, الذي تبغضه, وتحليلَ الطيبات النافعة, وتحريمَ الخبائث الضارة". ا.هـ

 

ومن عظمة هذا الدينِ, واهتمامِه بمصالح العباد: أنه حرَّم عليهم أموراً ضارةً بهم, لكنه أباحها لَمَّا كانت تخدمُ مصالحهمُ الدنيوية, فقد حرَّم على المسلمين اقتناء الكلاب, لِمَا فيها من الأمراض والمفاسد الكثيرة, وأخبر أنَّ «مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا نَقَصَ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَانِ» ، وأخبر أنَّ «الْمَلاَئِكَةَ لاَ تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلاَ صُورَةٌ».

 

ومع ذلك: فقد أباح اتخاذ الكلاب واسْتعمالها, لمن أرادها للزَّرْعِ وَالْمَاشِيَةِ وَالصَّيْدِ, وهي حاجاتٌ ليست من ضروريات الناس, بل هي مِمَّا يحتاجونها في أمور دُنْياهم وحياتهم, فلذا أباحها الشارع الحكيمُ لهم.

 

ومن ذلك أيضاً: أنه -صلى الله عليه وسلم-: نَهَى عَنِ الربا أشدّ النهي, فلا يُباع التمر بالتمر إلا إذا تساويا في الكيل, ونهى عن بيع الرطبِ بالتَّمْرِ، حتى وإن تساويا وزناً, لكنه -صلى الله عليه وسلم- رخَّص من ذلك بالعرايا, وهي أن يكون عند الإنسان تمرٌ قديم, ويريد أن يتفكه بالرطب، وليس عنده مالٌ يشتري به هذا الرطب.

 

فانظروا وتأملوا -يا أمَّةَ الإسلام- كيف اسْتثنى صورةً من صور الربا فأباحها لهم, لا لأنَّ ذلك من ضروريَّات حياتهم, بل لأنهم يُريدون أنْ يتفكهوا ويتلذَّذوا, فأيُّ سماحةٍ وتيسيرٍ أعظم من هذا؟!

 

هذا هو دينُنا يا أمة الإسلام, دينُ السماحة واليُسْر والرحمة, (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج: 87]، (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة: 185].

 

فالدين لم يأتِ إلا لمنافع الناس, في دينهم ودُنياهم, فلم يُحرِّم عليهم إلا ما يَضُرُّهم, ولم يُبح لهم إلا ما ينفعهم.

 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم, ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم, أقول ما تسمعون, وأستغفر الله لي ولكم من كلِّ ذنبٍ فاستغفروه, إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه, وسلم تسليمًا كثيراً إلى يوم الدين.

 

أما بعد: أيها المسلمون: ومن مظاهر السماحة في هذا الدين: أنَّ الله –تعالى- إذا حرَّم على عباده أمراً فيه ضررٌ عليهم: فتح لهم من الحلال والمباح أضعافه.

 

قال ابن القيم -رحمه الله-: "ما حرَّم الله على عباده شيئًا إلا عوَّضهم خيرًا منه, كما حرم عليهم الربا, وعوَّضهم منه التجارة الرابحة, وحرَّم عليهم القمار, وأعاضهم منه أكل المال بالمسابقة النافعة, وحرم عليهم الحرير, وأعاضهم منه أنواع الملابس الفاخرة, وحرم عليهم الزنا واللواط, وأعاضهم منهما بالنكاح والتسري بصنوف النساء الحسان, وحرَّم عليهم شرب المسكر, وأعاضهم عنه بالأشربة اللذيذة النافعة, وحرم عليهم سماع آلات اللهو, وأعاضهم عنها بسماع القرآن, وحرم عليهم الخبائث من المطعومات, وأعاضهم عنها بالمطاعم الطيبات.

 

ومن تلمَّح هذا وتأمله: "عرف حكمة الله ورحمته, وتمامَ نعمتِه على عباده, فيما أمرهم به ونهاهم عنه, وأنه لم يأمرهم بما أمرهم به حاجةً منه إليهم, ولا نهاهم عنه بخلا ًمنه –تعالى- عليهم, بل أمرهم بما أمرهم إحساناً منه ورحمة, ونهاهم عمَّا نهاهم عنه صيانةً لهم وحِمْيَة". ا.هـ.

 

وصلوا وسلموا...

 

 

المرفقات

والسعةُ في دين الإسلام

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات