عناصر الخطبة
1/إذا وقر الإيمان في القلبِ فاض على الجوارح 2/الوقت رأس مال الإنسان 3/ثلاث وسائل معينة على استثمار الوقت وثلاث مضيعة للوقت يجب الحذر منها 4/التعود على الطاعة في كل وقتاقتباس
معاشر المؤمنين الكرام: الوقتُ هو الحياة، الوقتُ هو رأسُ مالِ الانسانِ، وهو أغلى وأنفسُ ما وُهبِ له بعد الإيمان، بل إن كلَّ دقيقةٍ منه أغلى من كل كنوز الدنيا ونفائسها، وما ضاع منه فلا يمكنُ تعويضه أبداً، والمتبصرُ بإمعانٍ سيرى أنَّ العمر الحقيقي للإنسان إنما يُحسبُ بمقدار...
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ الذي أنشأَ وبَرَا، وخلقَ الماءَ والثَّرى، وأبْدَعَ كلَّ شَيْء وذَرَا: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى)[طه: 5-6]، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريك لهُ، لهُ الملكُ وله العزُ والغنى، منهُ المُبتدأُ، وعليهِ المُعتمدُ، وإليهِ المُنتَهى: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى)[طه: 8]، وأشهدُ أنَّ محمَّدًا عبدهُ ورسولهُ، النبيُّ المصطفى، والقدوةُ المُجتبى.
واللهِ ما ذرأ الإلهُ وما برى *** خَلْقَاً ولا خُلُقاً كأحمدَ في الورى
فعليه صلَّى اللهُ ما قلمٌ جرى** أو لاحَ نجمٌ من ضياءٍ أو سَرى
والآل والصحب الكرام جميعهم، والتابعينِ لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيرا.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله وأطيعوه، واحمدوه على ما هداكم واشكروه، واذكروه ذكراً كثيراً ومجدوه، واعلموا أنَّ الإيمانَ إذا وقرَ في القلبِ فاضَ على الجوارحِ، فتصبح الحركات والسكنات كلها للهِ، فَهُو للهِ وبالله وفي اللهِ، في الحديث القدسي الصحيح، قال الله -جل في علاه-: "فإذا أحببتُه كنتُ سمعَهُ الذي يسمَع به، وبصرَهُ الذي يُبصِرُ به، ويدَهُ التي يبطِشُ بها، ورجلَهُ التي يمشي عليها، ولئن سألني لأعطينّهُ، ولئن استعاذني لأعيذنّهُ"، و(ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)[الجمعة: 4].
معاشر المؤمنين الكرام: الوقتُ هو الحياة، الوقتُ هو رأسُ مالِ الانسانِ، وهو أغلى وأنفسُ ما وُهبِ له بعد الإيمان، بل إن كلَّ دقيقةٍ منه أغلى من كل كنوز الدنيا ونفائسها، وما ضاع منه فلا يمكنُ تعويضه أبداً، والمتبصرُ بإمعانٍ سيرى أنَّ العمر الحقيقي للإنسان إنما يُحسبُ بمقدار الوقتِ الذي يستثمرهُ لعِمارة آخرتهِ، وما عداهُ فهو خسارةٌ لا تُحسب، وإذا كان الوقتُ هو الحياة، فإنَّ الوقتَ لا يتجدَّدُ ولا يتمدَّدُ ولا يتراجع، وإنما يمضي للأمام، وللإمام فقط.
ومن ضيَّع ولو جزءً يسيراً من وقته، فما عرفَ قيمةَ الحياةِ؛ لأنَّ من يوازنُ حياتهُ القصيرةَ بما ينتظرهُ من خلودٍ أبدي في الآخرة، سيرى أنَّ كلَّ نَفَسٍ من أنفاسِه يَعدِلُ دُهوراً وأحقاباً لا نهاية لها، في الحديثٍ الصحيح، قال صلى الله عليه وسلم: "من قال سبحان اللهِ وبحمدِه غُرِسَتْ له نخلةٌ في الجنَّةِ"، وغراسُ الجنة لها مواصفاتٌ عجيبة، فالجواد السريعُ يسيرُ في ظلها سنواتٍ لا يقطعها، هلَّا تأملتم: فثانيتينِ فقط، تقولُ فيهما: "سبحان الله وبحمده" تساوي نخلةً في الجنة، ودقيقتين فقط، تصلى فيهما ركعتين خاشعتين، أو تقرأ فيهما سورة الإخلاص عشر مرات، تساوي كما جاء في الحديث الصحيح قصراً في الجنة.
فهل عرفت قيمة الوقتِ ونفاسته، وأنَّ ما يُهدرُ منهُ لا يمكنُ تعويضهُ أبداً، في الحديث الصحيح: أنَّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- مرَّ على قبرٍ فقال: "ركعتانِ خفيفتانِ مما تحقرونَ وتنفلون يزيدُها هذا في عمله أحبُّ إليه من بقية دُنياكم"، وفي الحديث الصحيح: "مَا جَلَسَ قَومٌ مَجْلِسًا لَمْ يَذْكرُوا الله -تَعَالَى- فِيهِ ولَم يُصَّلُّوا عَلَى نَبِيِّهم فِيهِ إلاَّ كانَ عَلَيّهمْ تِرةً وحسرةً يوم القيامة"، ويقولُ الامام ابن القيِّم -رحمه الله-: "إضاعةُ الوقتِ أشدُّ من الموت؛ لأن إضاعَةَ الوقتِ تقطعك عن اللهِ والدارِ الآخرةِ، والموتُ يقطعك عن الدنيا وأهلها".
أيها الأكارم: إن مما يحزُّ في النفس، ويؤلمُ القلب، ويحيرُ العقل: أنَّ استشعار قيمةَ الوقتِ، والحرصَ على حُسنَ استثمارهِ؛ أمرٌ مفقودٌ لدى الكثيرين.
نعم -أحبتي في الله-: هناك أناسٌ كثيرون يُفرطونَ في أوقاتهم تفريطاً عجيباً، ويضيِّعون الساعات الطويلة بلا أدنى فائدةٍ، وصدق من قال:
وَالوَقْتُ أَنْفَسُ مَا عُنِيتَ بِحِفْظِهِ *** وَأَرَاهُ أَسْهَلَ مَا عَلَيْكَ يَضِيعُ
ووالله -يا كرام-: والله لو وفقَ المسلمُ أن يستثمرَ أوقاتِه بالشكل الصحيح لتغيرَ طعمُ الحياةِ في حِسه، ولصنعَ فارقاً ضخماً لنفسه.
دَقّاتُ قَلبِ المَرءِ قائِلَةٌ لَهُ *** إِنَّ الحَياةَ دَقائِقٌ وَثَواني
والناسُ غادٍ في الحياة وَرائِحٌ *** ما بين ربحانٍ بها أو خسْرانِ
فمن أراد أن يستثمرَ أوقاتهُ بكفاءةٍ عالية، وأنَّ يحقِّقَ لنفسه فارقاً هائلاً في الإنجاز، فعليه بثلاثة أمورٍ هامة: أولها: احترامُ الوقت، وأن يكونَ جاداً في تنظيمه وتقسيمهِ، عازماً في حُسنِ استثمارهِ والاستفادةِ منهُ.
وثانيها: أن يتعلَّمَ فنَّ إدارةِ الوقت، وأن يتعوَّدَ على تنظيم الوقت، وجدولةِ الأعمالِ، وترتيبِ المهام، فلكل أمرئٍ من دهره ما تعودا، ولكل جهدٍ منظم، مردودٌ مضاعف، ومتى أحسنتَ تقسيمَ وقتك، وتنظيمَ مهامِّك: كان يومُكَ كصندوقٍ رُتبَ جيداً فاتسعَ لأشياءَ كثيرةً.
وثالثها: ضبطُ النفسِ والتحكّم بها: فبقليلٍ منْ التفكير والجدِّيةِ سيتمكنُ الانسانُ منْ توظيفِ الكثير من الأوقات المهدرةِ، والساعات الضائعة، فإن لم يكن كُلها فبعضها.
كما أنَّ عليه أن يحذر من ثلاثة أمورٍ ضارة: أولها: الغفلة، فالغفلة هي أشدُّ ما يضرُ القلوب، الغافلُ يظنُّ أنه يقتلُ الوقت، والحقيقةُ أنَّه يقتلُ نفسه، وصدق الله: (وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ)[مريم: 39]، وقال تعالى: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ)[الأنبياء: 1].
وثانيها: الكسل، فالكسلُ من أكبر مضيعات الوقت، ومن أشدِّ أعداءِ النَّجاح، والشاعرُ يقول:
الفوزُ بالجِدِّ والحِرْمَان في الكَسَلِ *** فانصبْ تُصِبْ عن قريبٍ غايةَ الأملِ
قد هياؤك لأمرٍ لو فطنت له *** فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
وثالثها: الانشغالُ بالتوافه ورفقةُ البطالين، فبقدر الانشغالِ بالأمور التافهةِ يكونُ الانصرافُ عن الأمور الهامة والعظيمةِ، ومن باع الياقوت بالحصى فهو لا شك مغبونٌ خاسر، وعن المرء لا تسأل وسل عن قرينه، فالمرءُ على دين خليله.
ألا فاستبقوا الخيرات -يا عباد الله-، فالحياةُ قصيرةٌ، والفرصُ محصورةٌ، والصوارفُ كثيرةٌ، والأيامُ تمرُّ سِراعاً، والأوقات تمضي تباعاً، والمرءُ حيثُ يجعلُ نفسهُ، فإنْ رفعها ارتفعتْ وسمت، وإنْ وضعها اتَّضَعتْ وسفلت، والعاقلُ من لا يرى لنفسه ثمناً دونَ الجنةِ، ومن كانت له نفسٌ تواقةٌ، طارت به نحو المعالي، في الحديث القدسي: "وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ".
فطُوبَى لمن استلهم الفكرة، وأخذَ العظةَ والعِبرَة، ثم عزمَ وحسمَ أمره، وتزودَ ليوم حشره ونشره: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)[العنكبوت: 69]، و (إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ)[النحل: 128].
أقول ما تسمعون ...
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى، وصلاة وسلاماً على عباده الذين اصطفى.
وبعد: فاتقوا الله -يا عباد الله-: واعلموا أن الموفق حقاً من وهبَه اللهُ -تعالى- أُذُناً تعي وتَسمَعُ، وَقَلباً يَخشَى وَيَخشَعُ، وعقلاً يرتدِعُ ويُقلِع، ثم اعلموا أنَّ كلٌّ منَّا سيقفُ بين يدي ربه وحيداً منفرداً، عارياً حافياً، يُختمُ على فيهِ، وتتكلمُ جوارحهُ، فالسعِيدُ الموفق من استعد لهذا اللقاء، والعَاجِزُ مَن أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني.
أيها الأفاضل الكرام: يَنبغي للمُسلِمِ أن يعَّوِدَ نَفسهُ عَلَى الجدِّية في الطاعة، وعَلَى سُلُوكِ الاستِقَامَةِ في سائر الأحيان، وَأنَّ يأَطرهَا عَلَى الحقِّ والخيرِ أطرا، وَأن يَعودها عَلَى أَنَّ الرَّاحَةَ إِنَّمَا تَكُونُ في الثبات على مَا يُحِبُّهُ اللهُ لا في تَركِهِ.
نعم قَد تَمُرُّ بِالمَرءِ أَوقَاتُ ضعفٍ وفتُور، لَكِنَّ هذا لا ينبغي أَن يَصِلَ إِلى الواجبات فَتُترَكَ، ولا إِلى المحرماتِ فَتُنتهك، ولا أَن يُعكِّرِ ما قدمهُ من أعمالٍ صالحةٍ في مَوَاسِمِ الطَّاعَاتِ، فعَن عَبدِاللهِ بنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لِكُلِّ عَمَلٍ شِرَّةٌ، وَلِكُلِّ شِرَّةٌ فَترَةٌ، فَمَن كَانَت فَترَتُهُ إِلى سُنَّتي فَقَدِ اهتَدَى، وَمَن كَانَت فَترَتُهُ إِلى غَيرِ ذَلِكَ فَقَد هَلَكَ"، والمعنى: أنَّ لكل عملٍ فورةُ نشاطٍ، وفترةُ حماس، ثم يعقبها ارتخاءٌ وفتور، هكذا هي طبيعةُ الانسان، لكن الموفق من يضلُ حتى في فترة فتوره، محافظاً على الواجبات، مجتنباً للمحرمات، أما من أودى به فتوره أن يترك الواجبَات، أو ينتهك المحرمَات، فهذا الذي قد هلَك وخسِر -عياذاً بالله-.
أيها الموفقون: بجميل الكلامِ تدومُ المودَّة، وبحُسن الخُلُق يَطيبُ العيش، وبلين الجانبِ تستقيمُ الأمور، و "لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ"، (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)[فصلت: 34].
ثم اعلموا أن ثمرةَ حُسن الاستماعِ هي: الانتفاع، وأنَّ دليلَ الانتفاعِ هو: الاتّباع، فكونوا من (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ)[الزمر: 18]، وكما بدأنا الكلام بحمد ربنا وشكره، فنختمُ بذكره مُسبحين، ولحسنُ بلائه شاكرين.
وآخرُ دعوانا أن الحمدُ للهِ ربِّ العالمين.
(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ)[الصافات: 180].
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم