عناصر الخطبة
1/ حب الوطن أمر فِطْري 2/ بيان مفهوم الوطنية الحقة 3/ أمور تخالف الوطنية الحقة 4/ الوطنية العامة والوطنية الخاصة 5/ الحنين للجنة الوطن الأولاقتباس
لا ينبغي أن تحصر الوطنية وحب الوطن في شعارات تُرفَع، فمَن لم يفعلها فإنه غير مواطن! وهذا من الفهم القاصر؛ فإن الوطنية الحقة هي منفعة الوطن، وهي الولاء والطاعة والحب، وتقديم الخدمات الجليلة للبلاد، وعدم الشذوذ، وعدم الخروج على ولاة الأمر؛ فهذه هي الوطنية الحقة التي ينبغي أن نفهمها ..
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونتوكل عليه، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضْلِلْ فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، وصفيُّه من خلقه وخاتم رسله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، فعليه من ربه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وجزاه الله خير ما جزى به نبياً عن أمته.
أما بعد: أيها المؤمنون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله -تعالى- في السر والعلن، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أيها المؤمنون: إن من الأمور التي جبل عليها البشر حبَّ الوطن، وهذا أمر مفطور عليه الناس، في فطرهم أنهم مجبولون على حب البلاد التي نشأوا فيها، والله -سبحانه وتعالى- في كتابه الكريم بيَّن أن الخروج من الديار أعظم وأشدّ على النفوس من القتل، فقال -سبحانه-: (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا) [النساء:66].
والنبي -صلى الله عليه وسلم- عندما هاجر بدينه مما صنع به كفار قريش، ومن أذيتهم له ولأصحابه -رضي الله عنهم- خرج من مكة التي نشأ فيها وترعرع على ترابها، لما خرج -عليه الصلاة والسلام- نظر إلى مكة، وقال -كما في الحديث الصحيح-: "واللهِ لَأَنْتِ أحبُّ بلاد الله إلى الله، وأحب بلاد الله إليّ، ولولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجتُ"، فبيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الميل إلى الديار أمر فطري.
ولكن؛ إذا كان الإنسان يريد أن يقيم شرع الله تعالى ولم يجد في بلاده التي نشأ فيها مَن يعينه على الطاعة وعلى عبادة الله -سبحانه وتعالى- فإنه يخرج منها، فإن الضرورات الخمس التي اتفق عليها كل أصحاب الملل والديانات: حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ العرض، وحفظ المال.
فحفظ الدين مقدم على كل شيء، فلما تعارض حفظ الدين مع حفظ النفس هاجر -عليه الصلاة والسلام- وهاجر أصحابه -رضي الله عنهم- مع محبتهم الشديدة لمكة؛ ولهذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يدعو ربه: اللهم حبِّبْ إلينا المدينة كما حببْتَ إلينا مكة، وكان -عليه الصلاة والسلام- إذا رأى دُور المدينة وجنباتها أسرع الخطى، وهذا من شدَّةِ محبتِهِ لبلده المدينة التي هي البلد الثاني التي أحبها النبي -صلى الله عليه وسلم- ومات فيها -عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم-.
أيها الإخوة الكرام: ينبغي أن نفهم هذه القضية، وينبغي ألا تخلط بغيرها، كما أننا في هذه البلاد المباركة ينبغي أن نستشعر الخصوصيات التي خصنا الله تعالى بها؛ فبلد الحرمين لها خصوصية ينبغي أن تُفْهَمَ، وينبغي أن تُعْقَلَ، وينبغي ألَّا نطلب وألَّا نُحب أن نشارك غيرنا في بعض الأمور التي لا تصح، ولا يجوز لنا أن نطالب بها في بلد الحرمين التي من خصوصياتها التي خصها بها النبي -صلى الله عليه وسلم- أنها لا يجتمع فيها دينان، فقال -عليه الصلاة والسلام- : "لا يجتمع في جزيرة العرب دينان"، وقال: "أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب".
فلذلك لا يجوز بناء الكنائس، ولا بيع مكان عبادة لغير المسلمين في جزيرة العرب، لا تبنى فيها إلا المساجد، وهذه من خصوصياتها التي خصها بها النبي -صلى الله عليه وسلم- فيها الحرمان الشريفان اللذان هما موئل المسلمين، فيها قبلة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، فيها يحكم شرع الله -سبحانه وتعالى-، فيها من الخصوصيات الأمن والأمان الذي تنعم به هذه البلاد، وهذه من نعمة الله -سبحانه وتعالى-، وقد قال -عليه الصلاة والسلام-: "مَن بات آمناً في سربه، معافىً في بدنه، معه قوت يومه وليلته، فكأنما سيقت له الدنيا بحذافيرها"، إذاً؛ ينبغي أن نفهم هذه القضية.
أيها الإخوة الكرام: إن جوهر الوطنية الحقة، وجوهر الولاء للوطن يبني على العقيدة الصحيحة على الإيمان بالله -سبحانه وتعالى-، على رفع شعيرة لا إله إلا الله محمد رسول الله، على البيعة لولي الأمر، والطاعة بالمعروف، وعدم نزع يد من طاعة، أو عدم الخروج عليه، فهذه من الأولويات التي لا ينبغي أن ننازع فيها، قال -عليه الصلاة والسلام-: "مَن نزع يداً من طاعة مات ميتةً جاهلية"، وقال -عليه الصلاة والسلام-: "مَن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتةً جاهلية"، فهذه من الأولويات التي ينبغي ألا ننازع فيها.
من حقوق الولاء والحب للوطن لزوم الجماعة وعدم الشذوذ عنهم، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار"، وبيَّن أصحابه -رضي الله عنهم- هذا الأمر، فقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: لا إسلام إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمارة، ولا إمارة إلا بطاعة، فبيَّن -رضي الله عنه- أنه لا بد من جمع الكلمة، ولا بد من الائتلاف؛ قال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: إنما تكرهون في الجماعة لهي خير مما تحبون في الفرقة؛ فإن الجماعة رحمة والفرقة عذاب. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: إن القوم إذا اجتمعوا صلحوا وملكوا، وإذا افترقوا فسدوا وهلكوا، فإن الجماعة رحمة والفرقة عذاب.
ولعلنا نلحظ -أيها الإخوة الكرام- ما يحدث في بلادٍ عندما تشتتت وذهبت جماعتها، وأصبح القتل والتدمير والهلاك ديدن أولئك، لا يأمنون على أموالهم ولا على أبنائهم ولا على ممتلكاتهم، لا ينبغي أن تحصر الوطنية وحب الوطن في شعارات تُرفَع، فمَن لم يفعلها فإنه غير مواطن، وهذا من الفهم القاصر؛ فإن الوطنية الحقة هي منفعة الوطن، وهي الولاء والطاعة والحب وتقديم الخدمات الجليلة للبلاد، وعدم الشذوذ، وعدم الخروج على ولاة الأمر، فهذه هي الوطنية الحقة التي ينبغي أن نفهمها؛ فليس من الوطنية أن يرفع الإنسان شعاراتٍ جوفاءَ ثم يعصي الله تعالى أو يعصي ولاة الأمر، أو يشذ عن الجماعة.
ليس من الوطنية الحقة أن يخلع الإنسان يدا من بيعة، ليس من الوطنية الحقة خيانة الأمانة أو خيانة المسؤولية أو ظلم الآخرين، ليس مواطناً حقاً مَن يخون الوطن ويسرق وينهب ويأخذ أموال المواطنين ويظلمهم، وإن رفع صور ولاة الأمر خلفه، ليس من الوطنية الحقة الاستخفاف بالمسؤولية أو توظيفها للمصالح الشخصية، فهذا ليس مواطناً حقا، المواطن الحق هو من يقدم المنفعة والخيرات للمواطنين، مَن يُطِعْ ولاة الأمر بالمعروف، ولا يخونهم؛ فإن الأمانة هي عبء ثقيل ينبغي أن يستشعره المسلم، (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) [الأحزاب:72].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر المولى العظيم الجليل لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله والداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيرا، ورضي عن أصحابه وأتباعه وإخوانه إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها المؤمنون ينبغي أن نذكر أبناءنا الشباب في يوم احتفالاتهم أنه ليس من حب الوطن إشاعة الفوضى، ليس من حب الوطن قطع الإشارات، ليس من حب الوطن ترويع الآمنين، ونهب الممتلكات، فهذه ظواهر شاذه ينبغي ألا يقع فيها المسلم الذي رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبياً ورسولا؛ فإن الإسلام يعلمنا النظام، ويعلمنا حفظ الأمانة، ويعلمنا الأدب، فمنه نستقي أدبنا وقيمنا ومبادئنا.
وحب الوطن هو أن يقوم الإنسان بالمسؤولية التامة، وأن يحفظ الأمانة، وأن يستشعر هذا الأمر، حب الوطن، بالدفاع عنه، وعن مقدساته وعن مواطنيه، حب الوطن بحفظ النظام وعدم ترويع الآمنين، وعدم الفوضى والهمجية، حب الوطن باحترام الكبير، والعطف على الصغير، واحترام الجار والضيف، وعدم نهب الممتلكات، وعدم الترويع، وعدم الوقوع في المحرمات.
حب الوطن بالحرص على الممتلكات العامة والخاصة، فهذا من محبة الوطن، حب الوطن ليس يوماً في السنة؛ بل هو كل يوم، وليس في موقف واحد؛ بل في مواقف كثيرة ينبغي ألا يغفل عنها الإنسان، ينبغي أن نستشعر هذه الأمور أيها الإخوة الكرام.
فالوطنية عامة وخاصة، الوطنية الخاصة هي ما يقوم به الإنسان في وطنه الذي نشأ فيه، والوطنية العامة هي بمحبته لبلاد الإسلام في مشرق الأرض ومغاربها، فأي بلد تؤدي فيها شعيرة الله، ويسمع فيها الأذان، وتوجد المساجد، وتؤدي فيها العبادة، فهي وطنه، فينبغي أن يحب إخوانه المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وألا ينظر إلى المسلمين بنظر الازدراء أو الاحتقار، فمن رفع راية لا إله إلا الله، ومن أدى الصلاة وقام بشعائر الإسلام وأركانه الخمسة فهو أخ لك ينبغي أن تحترمه وأن تقدره وأن تحبه، وأن تستشعر أن شعار العقيدة يجمع بينكما؛ فإن الإسلام جمع بين بلال الحبشي وصهيب الرومي وسلمان الفارسي في مدينة الرسول -صلى الله عليه وسلم- مع أبي بكر وعمر القرشيين.
ينبغي -أيها الإخوة- أن ننفع، وألا نكون ضارين، وأن نستشعر أن الوطنية النفع، وهي تقديم الخير للغير، وهي النظام، وهي الشعور بهذه المسؤوليات التي أوجبها الله -سبحانه وتعالى- علينا.
وأخيراً؛ ينبغي ونحن نتذكر الوطن ألا ننسى وطننا الأول الذي لا بد أن نعود إليه، فإن الجنة التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر هي وطن المسلمين الأول، الذي خرج منه أبونا آدم ومازال كل مسلم رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- يحن إلى وطنه الأول:
فَحَيَّ إلى جَنَّاتِ عدنٍ فإنَّها *** منازلُكَ الأُولَى وفيها الْمُخَيَّمُ
وَلَكِنَّنَا سَبْيُ العَدُوِّ فَهَلْ ترَى *** نعُود إلى أوطاننا ونُسَلّمُ
وكما قال أبو تمام :
نقِّلْ فؤادَكَ حيث شئتَ مِنَ الهوى *** ما الحُبُّ إِلا للْحَبِيبِ الأوَّلِ
كَمْ مَنْزِلٍ في الأَرْضِ يسْكُنُه الفَتَى *** وحنينُهُ أبَدَاً لأولِ مَنْزِلِ
فأول منزل نحن إليه دائماً وأبداً هي جنة عدن التي فيها مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فنسأل الله ألا يحرمنا الفردوس الأعلى، أن يجمعنا إخواناً على سرر متقابلين في جنات عدن مع النبيين والصدقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا.
ألا صلوا وسلموا...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم