عناصر الخطبة
1/أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس 2/النية الصادقة والهمة العالية سر النجاح في الدنيا والآخرة 3/نماذج من سيرة الأنبياء في الحرص على إسعاد الآخرين 4/صور من حياة الصحابة في الحرص على نفع الآخرين 5/اتساع أبواب الخير والنفع للناس 6/على المسلم أن يكون له مشروع خير في الحياةاقتباس
مع هذا العصر الذي تتسارع فيه الأحداثُ، وتتشابَكُ فيه المصالحُ، نُدرك كم نحن بحاجة إلى إعادة هذه المفاهيم العظيمة لتطوير المجتمع، وتأسيس المبادَرات التي تنهض بالوطن، وتُعزِّز من قوة الأمة، والأُمَّةُ اليومَ بحاجةٍ إلى كل جهد نافع، وإلى كل مشروع يحمل الخيرَ للأجيال القادمة...
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ، الحمدُ للهِ واهبِ النِّعَمِ، ذي الْمَنِّ والجُودِ والكَرَمِ، يمنُّ على مَنْ يشاء من عباده، ليجعلَه مفتاحًا للخير، باسطًا يدَه بالنفع للخَلْق، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، وصفه الله بقوله: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)[التَّوْبَةِ: 128].
أما بعدُ: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله.
من هدي النبوة، ومن نور الرسالة، الذي يجعل للحياة قيمةً، وللمسلم قدرًا وهدفًا، ويربط المسلمَ بمجتمعه، ويجعله فاعِلًا بينهم، قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله، سرور تدخله على مسلم، تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دينا، أو تطرد عنه جُوعًا"(رواه الطبراني).
هذا الحديث يُصحِّح نظرَ المسلم للكون والخَلْق والحياة، ويُطوِّر المسارَ، ويُوجِّه البوصلةَ، وهو جديرٌ بأن نتأمَّل حروفه، ونتبيَّن مدلوله، ليتدفق في عروق الأفراد والمجتمعات طعم الإسلام، وحلاوة الدين، خاصَّة حين تغلب روح الأنانية والفرديَّة، ويتضخم حب الذات، وتجمد العواطف، وتذبل العَلاقات، وينشغل المسلم عن واجبه تجاه أمته، وعن رسالته في حق وطنه، وعن دوره في مجتمعه.
أعظم وسام يناله المسلم أن يكون أحب الناس إلى الله، وأعظم تحفيز للمسارعين إلى الله وطالبي رضاه زرع البسمة على الشفاه، وكشف الكربة عن المكروبين، وبذل العون للمحتاج.
بمثل هذه التوجيهات الربانية، والنبوية، يربي الإسلامُ أفرادَه على العطاء، ويجعل كلَّ واحد منهم نبعًا يفيض بالخير، ومَنْ سلَك هذا المسلكَ فإن حياتَه تتسع، وصدره ينشرح، وتحل عليه البركة، فالنفع سر مفتاح النجاح، وباب القَبول في الدنيا والآخرة، وغاية ما يحتاجه من يريد النفع، نية صادقة، وعقل وقَّاد، وهمة عالية، في محبة الخير وإيصاله للآخَرين، فليس هو بحاجة لمال ولا لثروة حتى يتأهل لهذه الفضيلة.
ولنعلم أن كل ما يسهم في تحسين حياة الآخَرين الدنيوية والأخروية، فهو من النفع المتعدي، فأبواب النفع ليست محدودة في نطاق محصور، ولا في مجال ضيق، ولو تأملنا وظيفة النبوة لوجدناها جعلت لنفع الخلق، وإخراجهم من ظلمات الشرك إلى نور الإسلام، حقًّا لقد ترك لنا الأنبياء والصالحون أمثلة عظيمة على المشاريع الحياتيَّة التي كرسوا حياتهم من أجلها، فقام كل نبي بدعوة قومه لتوحيد الله، وأرسى معالم ومنارات اهتدى بها الناس من بعدهم، فنبي الله نوح -عليه السلام- يبني سفينة النجاة لأمته، ونبي الله إبراهيم -عليه السلام- يلبي نداء ربه، ويمتثل أمره ببناء الكعبة؛ لتكون قبلة للتوحيد وللعبادة للأجيال القادمة، ونبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- يترك أمته على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، ويرسي فيها مكارم الأخلاق.
ولَمَّا رجَع -صلوات ربي وسلامه عليه- من غار حراء، وقد عَرَتْهُ الدهشةُ للمَلَك الذي جاءه في الغار، يقول لخديجة -رضي الله عنها-: "قد خشيتُ على نفسي، فقالت له: كلَّا، أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبدًا؛ إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الدهر"، اشتملت هذه الأحوال على نفع متعدٍّ للآخَرين؛ فكانت عاصمة له -بإذن الله- من أن يصيبه خزي أو حزن أو أذى.
وعند الإمام أحمد في كتاب الزهد قال: "كان يقال في الحكمة: إن العمل الصالح يرفع صاحبه، وإذا ما سقَط وجَد متَّكَأً".
تعلَّم الصحابةُ من نبيهم صلى الله عليه وسلم هذا الدرس، وَوَعَوْهُ جيدًا، وضربوا أروع النماذج في النفع، واستثمر كل واحد منهم ما وهبه الله من قدرات ومواهب، في مشاريع حياتيَّة، تركت آثارًا خالدة على الأمة الإسلاميَّة، فبعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- واجهت الأمة تحديات كبيرة، أبرزها ارتداد بعض القبائل عن الإسلام، فأعاد أبو بكر -رضي الله عنه- للإسلام هيبته وقوته، وكانت شهوده سببًا في استقرار الأمة، وعثمان -رضي الله عنه- يقوم بفرض من فروض الكفايات، فيجمع القرآن في مصحف واحد، ويأمر بتوزيعه في الأمصار؛ ليحافظ بذلك على القرآن من الضياع، ويضمن للأمة مرجعًا موحدًا لكتاب الله، فكان لذلك أثر عظيم يمتد إلى يومنا هذا، وإلى قيام الساعة.
والصحابي الجليل عبد الرحمن بن عوف، من أثرياء الصحابة، ومن أكثرهم إنفاقا في سبيل الله، حتى إنه تصدق بقافلة كاملة كانت تحمل الأرزاق والمؤن، عندما علم بحاجة المسلمين، فاستخدم ثروته لنفع الناس وتخفيف معاناتهم.
والصحابي الجليل مصعب بن عمير أرسله النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة قبل الهجرة ليعلم أهلها الإسلام، فكان له نفع في المجال الدعوى والتعليميّ، وهذا أنس بن مالك -رضي الله عنه- الذي خدم النبي -صلى الله عليه وسلم- عشر سنوات عاش ليعلم الأجيال الجديدة من المسلمين ما تعلمه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكان نفعه عظيمًا، وأثره جليلًا، في نقل السيرة والأحداث.
إن نفع الأمة يتنوع أنواعًا، وينقسم ضُروبًا؛ فتارةً بنشر الإسلام، وبناء قيمه السامية، وتارة بإغاثة الملهوفين ودعم الفقراء والمساكين، ومرة ببناء المساجد ودعم حلقات تحفيظ القرآن، والمؤسَّسات الخيريَّة، ثم بنفع الوطن الذي عاش على ترابه، واستنشق هواءه، ونهل من معينة بالإسهام في بناء مؤسساته، والعمل على ازدهاره، ورفع شأنه والانخراط في تنميته، والعمل على استقراره وتعزيز لُحمته.
وهناك مِنَ الناسِ مَنْ يجعل حياتَه مشروعًا يحمل الخيرَ للناس، يضع نُصبَ عينيه تجاوُزَ حدود الوقت والمكان، فيكون سببًا في نفع أجيال متعاقبة، حتى بعد أن يودع هذه الدنيا، هؤلاء هم أصحاب الهِمَم العالية، والطموحات الكبيرة، الذين يبذلون حياتَهم لمشروعٍ واحدٍ عظيمٍ وهدفٍ سامٍ كبيرٍ، يملأ حياتَهم، ويملأ حياة الناس من بعدهم، فينتفع به الناس أيما انتفاع، يسعى دومًا للارتقاء بشأن مجتمعه، بخدمة يُقدِّمُها في مجال العلم أو الاقتصاد أو الصحة أو أي مجال من مجالات الخير والتطوع والتطوير والبناء، مشروع الحياة حتى لو كان صغيرًا فإنَّه كبير بالنية الصادقة، هذا المشروع رسالة يحملها صاحبها طيلة حياته، يعمل من أجلها في كل لحظة من لحظات عمره، يبذل في سبيلها من جهده ووقته وماله؛ ليكون أثره ممتدًّا بعد وفاته، ونفعه وأجره مدرارًا في ميزان حسناته، ومن أخلص النيَّة وكان هدفه إرضاء ربه نال مراده، وبارك الله في جهده.
مشروع الحياة قد يستغرق السنوات، حتى يؤتي ثماره، لكن أصحاب الهِمَم العالية لا تثنيهم العقبات ولا يحبطهم الفشل، بل يتعلمون ويمضون قدمًا مراعينَ قولَ اللهِ -تعالى-: (وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)[هُودٍ: 115]، فالصبر هو الوقود الذي يبقي شعلة العمل مشتعلة، ويعطي صاحبها القدرة على الدوام والاستمرار، وأحب الأعمال إلى الله أدومه وإن قل.
في حياتنا المعاصرة تجد أن أصحاب المشاريع الخالدة هم من صنعوا الفارق في حياة الناس؛ فهناك من أسسوا المدارس والجامعات، وهناك مَنْ أنشأوا المستشفيات، وهناك مَنْ ساهموا في تطوير العلوم والمعارف، وهناك من عملوا على نشر العلم وغرس القيم والدعوة إلى الله، خلد التاريخ أسماءهم، وحفظ الرب أجرهم، لا لأنهم بحثوا عن المجد الشخصيّ، ولكن لأنهم اختاروا نفع الناس والارتقاء بأمتهم ووطنهم، وهو ما يبقي أعمال المرء جارية حتى بعد موته، كما النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له".
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي خلقَنا من العَدَم، وجادَ على عباده بجزيل النعم، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، الذي علَّم بالقلم، وأشهد أنَّ سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، علَّمَنا الاستعاذةَ من العَجْز والكسل والهرم، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه، الذين بلَغُوا أجلَّ المراتب والقِمَم.
أما بعدُ: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله.
ومع هذا العصر الذي تتسارع فيه الأحداثُ، وتتشابَكُ فيه المصالحُ، نُدرك كم نحن بحاجة إلى إعادة هذه المفاهيم العظيمة لتطوير المجتمع، وتأسيس المبادَرات التي تنهض بالوطن، وتُعزِّز من قوة الأمة، والأُمَّة اليومَ بحاجةٍ إلى كل جهد نافع، وإلى كل مشروع يحمل الخير للأجيال القادمة، قال الله -تعالى-: (وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا)[الْمُزَّمِّلِ: 20].
ألَا وصلُّوا -عبادَ اللهِ- على رسول الْهُدَى، فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]، اللهمَّ صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنَّكَ حميدٌ مجيدٌ، اللهمَّ بَارِكْ على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنَّكَ حميدٌ مجيدٌ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا، اللهمَّ وارضَ عن الخلفاء الراشدين، الأئمة المهديين؛ أبي بكر، وعمر، وعثمان وعلي، وعن الآل والصحب الكرام، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
اللهمَّ أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، ، وأَذِلَّ الكفرَ والكافرينَ، ودمِّرِ اللهمَّ أعداءكَ أعداءَ الدينِ، واجعَلِ اللهمَّ هذا البلد آمنًا مطمئنًّا وسائرَ بلاد المسلمين.
اللهمَّ إنَّا نسألكَ الجنةَ وما قرَّب إليها من قول وعمل، ونعوذ بكَ من النار وما قرَّب إليها من قول وعمل، اللهمَّ إنَّا نسألكَ من الخير كلِّه، عاجلِه وآجلِه، ما عَلِمْنَا منه وما لم نعلم، ونعوذ بكَ من الشر كله، عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم، اللهمَّ أعنا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصَّر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، واهدنا ويسر الْهُدَى لنا، وانصرنا على من بغى علينا، اللهمَّ إنه قد حل بفلسطين من البلاء والضر ما أنت عليم به وقادر على كشفه، اللهمَّ ارفع عنهم البلاء الذي نزل بهم، اللهمَّ إنهم حفاة فاحملهم، وجياع فأطعمهم، وعراة فاكسهم، ومظلومون فانتصر لهم، اللهمَّ انصرهم على عدوك وعدوهم الصهاينة المعتدين يا قوي يا عزيز.
اللهمَّ أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، اللهمَّ أنزل علنيا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهمَّ أنزل علنيا الغيث ولا تجعلنا من الآيسينَ، اللهمَّ أغثنا، اللهمَّ سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا بلاء ولا هدم ولا غرق، اللهمَّ تحيي به البلاد، وتعيذ به العباد، وتجعله بلاغًا للحاضر والباد، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهمَّ وفق ولي أمرنا خادم الحرمين الشريفين لما تحب وترضى، اللهمَّ وفِّقْه لهداكَ، واجعل عملَه في رضاكَ يا ربَّ العالمينَ، ووفِّقْ وليَّ عهده لما تحب وترضى يا أرحم الراحمين، ووفق جميعَ ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك، وتحكيم شرعك يا أرحم الراحمين، وسُنَّة نبيِّكَ -صلى الله عليه وسلم-.
(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[الْأَعْرَافِ: 23]، (رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ: 201]، (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النَّحْلِ: 90]، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)[الْعَنْكَبُوتِ: 45].
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم