الهجرة

موقع إمام المسجد

2022-10-10 - 1444/03/14
عناصر الخطبة
1/ أهمية الهجرة بالدين والفرار به 2/ هجرة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم للحفاظ على دينهم 3/ الحكمة من الهجرة في سبيل الله 4/ هجر المعاصي والذنوب 5/ الهجرة إلى الله ورسوله 6/ أقسام الهجرة 7/ من معاني الهجرة.

اقتباس

والحكمة من الهجرة المحافظة على الدين، وألا يفتن المسلم في دينه وأن يتمكن المؤمن من الطاعة بلا مانع ولا وازع، ويتبرأ عن صحبة الأشرار المؤثرة بدوامها في اكتساب الأخلاق الذميمة، والأفعال الشنيعة"...

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله بارئ النسم، ومسبغ النعم، ذي الجلال والإكرام، والتفضل والإنعام، وصلى الله على محمد خاتم الأنبياء، وسيد الأصفياء، وعلى آله الطيبين، وأصحابه أجمعين، أما بعد:

 

عباد الله: إن الله -عز وجل- عظم شأن الهجرة في كتابه، ومدح المهاجرين في سبيله في عدة آيات قال -عز وجل-: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [البقرة: 218]، وقال تعالى: (فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) [آل عمران: 195]، وقال تعالى: (فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) [النساء: 89]؛ ففي هذه الآية دليل على أن الهجرة إلى المدينة، كانت واجبة، ولم يزل حكمها كذلك إلى أن فتحت مكة؛ فنسخ بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا هجرة بعد الفتح"، وقيل: أن حكمها لم ينسخ، وهو باق، فتحرم الإقامة بعد الإسلام في دار الشرك، وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا) [النساء: 97].

 

وقال تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ) [الأنفال: 75]، وقال: (الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ) [التوبة: 20]، وقال -عز وجل-: (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ) [النحل: 41].

قال البغوي: "نزلت في بلال، وصهيب، وخباب، وعمار، وعابس، وجبر، وأبي جندل بن سهيل، أخذهم المشركون بمكة؛ فعذبوهم، وقيل: هم أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، ظلمهم أهل مكة، وأخرجوهم من ديارهم حتى لحق طائفة منهم بالحبشة، ثم بوأهم الله المدينة بعد ذلك فجعلها لهم دار هجرة، وجعل لهم أنصاراً من المؤمنين".

 

وقوله تعالى: (ظالمي أنفسهم) أي: في حال ظلمهم أنفسهم بترك الهجرة، وموافقة الكفرة، فإنها نزلت في ناس من مكة أسلموا ولم يهاجروا حين كانت الهجرة واجبة"،  وقال تعالى: (فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) [النساء: 89]، وقوله: (وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ) [النساء: 100]، وقال عن إبراهيم: (وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ) [الصافات: 99].

 

ووردت أحاديث كثيرة في فضل الهجرة؛ فعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن أعرابياً سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الهجرة؛ فقال: "ويحك، إن شأنها شديد، فهل لك من إبل تؤدي صدقتها؟" قال: نعم، قال: "فاعمل من وراء البحار؛ فإن الله لن يترك من عملك شيئاً"؛ حتى كان يقدم المهاجر على غيره في الإمامة ففي حديث أبي مسعود الأنصاري عنه -عليه الصلاة والسلام-: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله؛ فإن كانوا في القراءة سواء؛ فأعلمهم بالسنة؛ فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة".

 

عباد الله: إن شأن الهجرة عظيم، لأن فيها مفارقة للوطن والأهل والأحباب والمال، خوف أن يفتن المسلم في دينه.

 

هجرت الخلق طراً في رضاك**** ويتمت العيال لكي أراكا

فلـو قطعتني في الحب إربـاً****لما حـن الفؤاد إلى سواكا

 

ولما كان الصبر على هجرة الوطن ولاسيما إن كان ثّم أهل وعشيرة شديداً جداً، ذكر ما للصابر على ذلك لمن تشوف إلى السؤال عنه فقال: (إنما يوفى)، أي؛ التوفية العظمية (الصابرون) أي على ما تكرهه النفوس في مخالفة الهوى، وإتباع أوامر الملك الأعلى من الهجرة وغيرها (أجرهم بغير حساب)، أي؛ على وجه من الكثرة لا يمكن في العادة حسبانه".

 

والحكمة من الهجرة المحافظة على الدين، وألا يفتن المسلم في دينه وأن يتمكن المؤمن من الطاعة بلا مانع ولا وازع، ويتبرأ عن صحبة الأشرار المؤثرة بدوامها في اكتساب الأخلاق الذميمة، والأفعال الشنيعة".

 

وأجر الهجرة على قدر النية والإخلاص، وأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن هذه الهجرة تختلف باختلاف النيات والمقاصد بها؛ فمن هاجر إلى دار الإسلام حبا لله ورسوله، ورغبة في تعلم دين الإسلام، وإظهار دينه حيث كان يعجز عنه في دار الشرك، فهذا هو المهاجر إلى الله ورسوله حقاً، وكفاه شرفاً وفخراً أنه حصل له ما نواه من هجرته إلى الله ورسوله، قال: "إن الإسلام يهدم ما كان قبله، وإن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وإن الحج يهدم ما كان قبله"، قال تعالى: (وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) [النساء: 100]؛ "فهو أولاً يحدد الهجرة بأنها (في سبيل الله).

 

وهذه هي الهجرة المعتبرة في الإسلام؛ فليست هجرة للثراء، أو هجرة للنجاة من المتاعب، أو هجرة للذائذ والشهوات، أو هجرة لأي عرض من أعراض الحياة، ومن يهاجر هذه الهجرة -في سبيل الله- يجد في الأرض فسحة ومنطلقاً؛ فلا تضيق به الأرض، ولا يعدم الحيلة والوسيلة. للنجاة وللرزق والحياة: (وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً) [النساء: 100]، وإنما هو ضعف النفس وحرصها وشحها؛ يخيل إليها أن وسائل الحياة والرزق، مرهونة بأرض، ومقيدة بظروف، ومرتبطة بملابسات لو فارقتها لم تجد للحياة سبيلاً.

 

عباد الله:  والهجرة مستمرة، كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها، وقال -عليه الصلاة والسلام-: "ستكون هجرة بعد هجرة؛ فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم، و يبقى في الأرض شرار أهلها، تلفظهم أرضوهم، و تقذرهم نفس الله، و تحشرهم النار مع القردة والخنازير"، وقال -عليه الصلاة والسلام-: "لا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار"؛ ففي هذه الأحاديث دلالة على أن الهجرة غير منقطعة، أما حديث ابن عباس: "لا هجرة بعد الفتح" يعني لا هجرة واجبة".

 

وقد كانت الهجرة في أول الإسلام فرضاً، ثم صارت مندوبة؛ فالهجرة المنقطعة هي الفرض، والباقية هي الندب، وقيل: بأن قوله: "لا هجرة بعد الفتح"، أي؛ من مكة إلى المدينة، وقوله: "لا تنقطع"، أي؛ من دار الكفر في حق من أسلم إلى دار الإسلام".

 

نسأل الله العظيم أن ينصر دينه، ويكرم أولياءه، إنه ولي ذلك والقادر عليه، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

 

أيها المسلمون: اعلموا أن الهجرة على قسمين؛ هجرة حقيقية، وهي هجرة بالبدن للأهل والوطن، وهجرة معنوية؛ وهى هجرة القلب للشهوات والهوى، والثانية أصعب وأقوى، وهي فرض عين على كل مسلم لأنها هجر للذنوب والمعاصي، وهذا الفرض لا يسقط عن كل مكلف في كل حال من أحواله؛ فإن الله حرم على عباده انتهاك المحرمات، والإقدام على المعاصي، "وفي بعض الآثار؛ "الهجرة هجرتان":

"هجرة صُغرى، وهجرة كبرى؛ فالصغرى؛ انتقال الأجسام مِن وطنٍ غير مرضي إلى وطن مرضي، والكبرى؛ انتقال النفوس من مألوفاتها وحظوظها إلى معرفة ربها وحقوقه".

 

وقد سئل النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أي الإيمان أفضل؟ قال: "الهجرة"، قال: وما الهجرة؟ قال: "أن تهجر السوء"، وقال -عليه الصلاة والسلام-: "والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه".

 

عباد الله: إنها الهجرة بالقلب إلى الله ورسوله، وهذه هي المقصودة هنا، وهذه الهجرة هي الهجرة الحقيقية، وهي الأصل، وهجرة الجسد تابعة لها، وهي هجرة تتضمن من و إلى، فيهاجر بقلبه من محبة غير الله إلى محبته، ومن عبودية غيره إلى عبوديته، ومن خوف غيره ورجائه والتوكل عليه إلى خوف الله ورجائه والتوكل عليه، ومن دعاء غيره وسؤاله والخضوع له والذل والاستكانة له إلى دعائه وسؤاله والخضوع له والذل له والاستكانة له، والمقصود؛ أن الهجرة إلى الله تتضمن هجران ما يكرهه وإتيان ما يحبه ويرضاه وأصلها الحب والبغض؛ فإن المهاجر من شيء إلى شيء لابد أن  يكون ما هاجر إليه أحب مما هاجر منه؛ فيؤثر أحب الأمرين إليه على الآخر".

 

والهجرة تعني: "سفر النفس في كل مسألة من مسائل الإيمان، ومنزل من منازل القلوب، وحادثة من حوادث الأحكام إلى معدن الهدى، ومنبع النور، الملتقى من فم الصادق المصدوق، الذي: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) [النجم: 3، 4]؛ فكل مسألة طلعت عليها شمس رسالته، وإلا فاقذف بها في بحر الظلمات، وكل شاهد عدله هذا المزكي و إلا فعده من أهل الريب والتهمات، فهذا حد هذه الهجرة".

 

نسأل الله العلي القدير أن يمن علينا بالهجرة إليه وإلى رسوله، وأن يعيننا على فعل الطاعات وترك المنكرات وهجرتها، إنه على كل شيء قدير.

 

اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

المرفقات

الهجرة

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات