الهجرة؛ التضحية بالدنيا من أجل الآخرة والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه

محمد راتب النابلسي

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/ مفهوم الهجرة الشامل 2/ الإيمان زاد الهجرة 3/ من صور الهجرة 4/ دروس من هجرة النبي الكريم 5/ التطبيقات العملية للهجرة 6/ أعظم دروس الهجرة التوكل على الله 7/ أفضل المهاجرين؛ من هجر ما نهى الله عنه.

اقتباس

كل واحد منكم وأنا معكم بإمكانه أن يهاجر؛ فهناك مجموعة أصدقاء لا ترضي الله تركهم هجرة، هناك لقاءات مختلطة تركها هجرة، هناك عمل فيه رزق وفير، لكن فيه شبهات كثيرة تركه هجرة، هناك أشخاص البعد عنهم هجرة، دائماً وأبداً والهجرة لها...

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله نحمده، ونستعين به، ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله؛ فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته، وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً -صلى الله عليه وسلم- رسول الله، سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عين بنظر، أو سمعت أذن بخبر، أما بعد:

 

أيها الأخوة الكرام: بعد أيام قليلة تأتي مناسبة الهجرة، يأتي رأس السنة الهجرية، والهجرة حركة، وليس في الدين إسلام سكوني، أنت كما تتمنى تعيش، لكنك معجب بهذا الدين، تقدر عظمة هذا الدين، تقول للناس: إن هذا الدين حق، إن هذا القرآن الكريم حق، هذه الحالة السلبية، الإعجاب السكوني، ليست واردة في الإيمان، الدين حركة، وما لم تتحرك من مكان إلى مكان، من موقف على موقف، من أصدقاء قبل أن تعرف الله إلى أصدقاء بعد أن تعرف الله، ما لم يكن هناك حركة، ما لم يكن هناك تبديل، ما لم يكن هناك انتقال، فالإسلام الذي تتوهمه إسلام سكوني غير حركي، لذلك الذي تمّ أن التاريخ الإسلامي لم يكن لميلاد النبي -عليه الصلاة والسلام-، بل كان لهجرته لأن الهجرة حركة، أتمنى قبل أن أتابع الموضوع، ما لم تقف موقفاً معيناً، ما لم تعطِ، ما لم تأخذ، ما لم تغضب، ما لم ترضَ، ما لم تصل، ما لم تقطع، ما لم تنتقل من مكان إلى مكان، من موقع إلى موقع بسبب إيمانك، فهذا الإيمان الذي أنت عليه ليس هو الإيمان الذي أراده الله -عز وجل-.

 

والهجرة تعني التضحية بالدنيا من أجل الآخرة، كل إنسان ببلده بمسقط رأسه له مكانة، له أسباب للرزق، له معارف، له أصدقاء، لكن إذا ثبت له أن بقاءه في هذا البلد يعيق تقدمه الديني؛ فلابدّ من أن يهاجر، لذلك الهجرة قمة التضحية بالدنيا من أجل الآخرة، ذروة إيثار الحق على الباطل، الهجرة في أدق تعاريفها ليست انتقال رجل من بلد قريب إلى بلد بعيد، وليست ارتحالاً مفتقراً من أرض مجدبة إلى أرض مخصبة، إنها إكراه رجل آمن في سربه، ممتد الجذور في مكانه، على إهدار مصالحه، والتضحية بأمواله، وتصفية مركزه، والنجاة بشخصه، من أجل ألا يفتن في دينه، المحرك هو الدين، الآن الحركة مال فقط، ينتقل من بلد يعبد الله رب العالمين إلى بلد فيه من التفلت ما يبعد أكبر مؤمن عن الدين، الحركة الآن حركة مالية فقط، يبحث عن مركز، عن منصب، عن مال، عن دنيا، عن متاع، أما الهجرة فحركة دينية، حركة من أجل الإيمان، حركة من أجل أن يعبد الإنسان الواحد الديان.

 

أيها الأخوة: هذه الصعاب صعاب الهجرة لا يطيقها إلا مؤمن يخاف على سلامة إيمانه، أما الهياب الخوَّار القَلِق فلا يستطيع أن يفعل شيئاً من ذلك، قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنْ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوْ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ) [النساء: 66].

 

والإنسان بفطرته يتعلق بمسقط رأسه؛ حيث العادات، والتقاليد، والمعارف، والأصدقاء، والأقارب، لكن أحياناً يكتشف -وهذه حالات نادرة بالعالم الإسلامي- أن هذا المجتمع يبعده عن ربه، لذلك لا بد من الهجرة، أحياناً تترك مجموعة أصدقاء إلى مجموعة أخرى بعد الإيمان، نوع من الحركة، تترك حرفة لا ترضي الله، كسبها حرام، إلى حرفة دخلها حلال، أريد أن أوسع معنى الهجرة، ترك شيء يبعدك عن الله إلى شيء يقربك منه، قد تترك الحي إلى حي آخر، من عمل إلى عمل، من أصدقاء إلى أصدقاء.

 

أيها الأخوة: أولاً من الدلائل والعِبَر التي تؤخذ و تستفاد من الهجرة، بالمناسبة النبي -عليه الصلاة والسلام- له سنة قولية تُحدّث، أحاديثه منهج، وله سنة عملية، أفعاله منهج، وله سنة إقرارية، إذا فعل أمامه شيء وسكت؛ فهو صحيح، هذا للنبي وحده، سنة قولية، وسنة عملية، وسنة إقرارية، لذلك الهجرة عمل؛ فالهجرة منهج، الهجرة تشريع، بين مبادئ الحق وأوهام الباطل، بين عناصر الخير وقوى الشر، بين رسل الهداية وشياطين الغواية، تناقض كبير وصراع مستمر وحرب ضروس، قال تعالى: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)[الأنفال: 30]؛ ماذا فعل النبي -عليه الصلاة والسلام- حتى مكر به هؤلاء؟ إنهم يعرفونه قبل غيرهم، يعرفون صدقه، وأمانته، وعفافه، ونسبه، وأنه ما زاد عن أن دعاهم إلى الله ليوحدوه ويعبدوه، وأنه أمرهم بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، وأنه نهاهم عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، إنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، إنه رحمة مهداة ونعمة مزجاة.

 

أيها الأخوة الكرام: في السيرة النبوية المطهرة، وفي معركة الخندق بالذات، جاءت قبيلة غطفان لتحارب النبي -عليه الصلاة والسلام-، زعيم هذه القبيلة رجل من وجهاء العرب، هذا الزعيم وهو في خيمته في الطرف الآخر من معسكر النبي -عليه الصلاة والسلام- وفي ليلة ليلاء قال لنفسه:- اسمه نعيم- ما الذي جاء بك يا نعيم؟ لماذا أنت هنا؟ تابع حديثه لنفسه، أجئت لتحارب هذا الرجل الصالح؟ ماذا فعل حتى تقاتله؟ هل سفك دماً؟ هل أخذ مالاً؟ هل انتهك عرضاً؟ أين عقلك يا نعيم؟ فكر، تحارب من؟ تحارب قاتلاً؟ تحارب مغتصباً؟ تحارب منحرفاً؟ تحارب إنساناً صالحاً؟ أين عقلك؟ وقف وتوجه إلى معسكر النبي -عليه الصلاة والسلام- ودخل على النبي -عليه الصلاة والسلام- فدهش، قال له: نعيم! قال: نعيم، قال له النبي: ما الذي جاء بك إلينا؟ قال له: جئت مسلماً.

 

ولو أردنا أن نعرف التطبيقات العملية للهجرة؟ أنت في مكان الفتن كثيرة جداً، واحتمال أن تضعف أمامها احتمال قائم، فالهجرة تقتضي أن تترك هذا المكان إلى مكان آخر، وقد يكون المكان الآخر أقل دخلاً، لكن أكثر أمناً مع الله؛  فالعبرة أن تتحرك إلى مكان يكون أقرب إلى الله من المكان الأول، أن تخالط أناساً يقربونك من الله، أن تبتعد عن أناس يبعدونك عن الله -عز وجل-، هذه مفاهيم للهجرة صغيرة نعيشها كل يوم، لذلك -أيها الأخوة- شتان بين من يعارض الحق وبين من يؤيده، شتان بين من يصدق النبي وبين من يكذبه، بين من يخرجه وبين من يؤيده، بين من يقاتله و بين من ينصره، شتان بين المؤمن وغير المؤمن، أنا أرى أنه ما من إنسان على وجه الأرض أشقى ممن وقف في خندق مضاد للحق، كن مع الحق، كن مع أهل الإيمان ولو كانوا ضعفاء وفقراء، ولا تكن مع أهل العدوان والطغيان ولو كانوا أقوياء وأغنياء، (أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ) [السجدة: 18]، (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) [الجاثية: 21].

 

أيها الأخوة: هناك درس من الهجرة المسلمون يحتاجونه من أقاصي بلادهم إلى أقاصيها هو التوكل؛ فالتوكل بالمفهوم الصحيح أن تأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء، وأن تتوكل على الله وكأنها ليست بشيء، سهل جداً أن تأخذ بالأسباب وأن تعتمد عليها كالعالم الغربي، بل أن تؤلهها، بل أن تنسى الله إذا أخذت بها، هذا سهل، وسهل جداً أيضاً كحال أهل الشرق لا يأخذون بها إطلاقاً، يتواكلون على الله تواكلاً لا يرضي الله، الحالتان مرضيتان، أن تأخذ بالأسباب وأن تعتمد عليها وأن تنسى الله، أو ألا تأخذ بها كسلاً وأن تدعي أنك متوكل على الله، الموقف الكامل الذي كان عليه النبي وأصحابه، تأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء، وأن تتوكل على الله وكأنها ليست بشيء، النبي انتقل من بيته في وقت قلّما يتحرك به الناس، وتوجه إلى غار ثور، وقبع فيه أياماً ثلاثة، واستأجر دليلاً، ومعه الصديق، ومعه خبير بالطريق، أخذ بالأسباب كلها وكأن هذه الأسباب كل شيء، لما وصلوا إليه أي إلى الغار قال سيدنا الصديق: يا رسول الله لو نظر أحدهم إلى موطئ قدمه لرآنا، قال: يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟

 

ولم يكن النبي الكريم في تلك اللحظة معتمداً على الأسباب التي أخذ بها، لكنه كان معتمداً على الله -عز وجل-، هذه بطولتك، الدراسة، العمل التجاري، الطب، الهندسة، بكل شيء المؤمن الصادق يقتدي بالنبي، يأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء، ويتوكل على الله وكأنها ليست بشيء، فكل الأسباب أخذ بها النبي ومع ذلك لما تبعه سراقة، كان واثقاً من الله، قال له: يا سراقة كيف بك إذا لبست سواري كسرى؟ إنسان ملاحق، مهدور دمه، مئة ناقة لمن يأتي به حياً أو ميتاً، يقول له: يا سراقة كيف بك إذا لبست سواري كسرى؟ أي أنا سأصل يا سراقة إلى المدينة، وسأنشئ دولة، وسأؤسس جيشاً، وسأحارب أكبر دولتين في العالم، وسأنتصر عليهما، وسوف تأتيني الغنائم إلى هنا، ولك يا سراقة سواري كسرى، والذي حصل في عهد عمر جاءت كنوز كسرى، وسأل عن هذا الصحابي -سراقة- وألبسه سواري كسرى، وقال: بخ بخ أُعيرابي من بني مدلج يلبس سواري كسرى؟!

 

أيها الأخوة الكرام: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا، الكيّس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني، والحمد لله رب العالمين.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً صاحب الخلق العظيم، أما بعد:

 

أيها الأخوة: جاء في الحديث الصحيح الذي ورد في البخاري: "المسلمُ من سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده، والْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ على دمائهم وأموالهم، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه"، أي كل واحد منكم وأنا معكم بإمكانه أن يهاجر، هناك مجموعة أصدقاء لا ترضي الله تركهم هجرة، هناك لقاءات مختلطة تركها هجرة، هناك عمل فيه رزق وفير لكن فيه شبهات كثيرة تركه هجرة، هناك أشخاص البعد عنهم هجرة، دائماً وأبداً الهجرة لها معنى ضيقاً أن تنتقل من مكة إلى المدينة، أو إلى أية مدينتين حتى نهاية الحياة يشبهان مكة والمدينة، أما بالمعنى الواسع ترك ما نهى الله عنه، الآن هناك بشارة لهؤلاء الذين يعبدون الله في زمن الفتن، قال النبي في الحديث الصحيح القدسي: "العِبادَةَ في الهَرْج كهجرة إلي" (أخرجه الترمذي عن أبي هريرة).

 

اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضنا وارض عنا، أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، مولانا رب العالمين.

 

اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك، اللهمّ لا تؤمنَّا مكرك، ولا تهتِك عنَّا سترَك، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين.

 

اللهم وفق ولاة أمور المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها لما تحب وترضى، اجمع بينهم على خير إنك على ما تشاء قدير وبالإجابة جدير.

 

اللهم صلِّ على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.

 

 

المرفقات

الهجرة؛ التضحية بالدنيا من أجل الآخرة والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات