عناصر الخطبة
1/حقيقة النفس اللوامة وأقوال العلماء فيها 2/الدور الأخلاقي للنفس اللوامة 3/أقسام اللوم المحمود 4/مظاهر اللوم المحمود 5/وجوب لوم النفس ومحاسبتها قبل العمل وبعده.اقتباس
إن النفس اللوامة هي الضمير الحي الذي يَحُول بينَكَ وبين الذنوب، وهي السوط القوي الذي يُوقِظُكَ حتى لا تلج في خِضَمِّ الشهوات، وهي الجرس الذي يُنبهك عند الاقتراب من حِمَى الشبهات، ومراتع السيئات، وهي السبيل الأوحد للوصول إلى النفس المطمئنة، التي لا تكون النجاة إلا بها، ولا يكون الفوز إلا بالتلبس بِزِيِّها...
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70-71]، أما بعدُ:
عبادَ اللهِ: إن من أهم الموضوعات التي تطرَّق إليها القرآنُ الكريمُ، وتحدَّث عنها حديثًا مستفيضًا موضوع النفس الإنسانيةِ؛ فقد تحدث عن خصائصها بدقة يعجز عنها علماء النفس، ويخفى عليهم الكثيرُ من التفصيلات الدقيقة التي تناولها، ولا غرابةَ في ذلك أليس مَنْ تحدَّث بذلك هو خالقها وفاطرها؟! وصدق الله حيث قال: (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)[الملك: 14].
لقد تحدَّث القرآن عن صعودها وهبوطها، وعن جنوحها واعتدالها، وعمَّا يعتريها من الضَّعْف والعجز، والتقوى والفجور، والزكاة والطهارة، كما تحدَّث عن تمردها ومكابرتها، وعن حرصها وشحها.
ومما نبَّه عليه القرآنُ كذلك التفكرُ في النفس، وهو سبيل إلى معرفة كنهها، والوقوف على حقيقتها، وأحدُ وسائلِ إدراكِ الحقِّ والاعتبارِ، فقال -تعالى-: (وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ)[الذاريات: 21]، وقال: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ)[فصلت: 53].
وكيف لا يهتم القرآن بالنفس وهي أسُّ التغيير، ومحور الانتقال إلى الأفضل أو الأسوأ؟ قال -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)[الأنفال: 53].
وقد تحدَّث القرآن عن النفس بأنواعها، ومما تناوَلَه النفس اللوامة، التي أقسم اللهُ بها في مُحْكَم تنزيله، فما هي النفس اللوامة؟ وما هي حقيقتها؟
اعلموا -عبادَ اللهِ- أن النفس اللوامة التي أقسم بها -سبحانه- في قوله: (وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ)[القيامة: 2]، قد اختُلف فيها، فقيل: هي التي لا تَثْبُت على حال واحدة، وأخذوا اللفظةَ من التلوُّم وهو التردد؛ فهي كثيرة التقلب والتلون، وهي من أعظم آيات الله؛ فإنها مخلوق من مخلوقاته، تتقلَّب وتتلوَّن في الساعة الواحدة فضلًا عن اليوم، والشهر، والعام، والعمر ألوانًا متلونة، فتَذْكُر وتَغْفُل، وتُقبل وتُعرض، وتُحب وتُبغض، وتفرح وتحزن، وترضى وتغضب، وتُطيع وتعصي، وتتقي وتفجر، إلى أضعاف أضعاف ذلك من حالاتها وتلونها، فهي تتلون كلَّ وقت ألوانًا كثيرة.
وقال بعضهم في تعريفها: هي نفس المؤمن، قال الحسن البصري: "إن المؤمن لا تراه إلا يلوم نفسَه دائمًا يقول: ما أردت هذا؟ لِمَ فعلت هذا؟ كان هذا أَوْلَى من هذا؟" أو نحو هذا الكلام. وقال آخرون: اللوم يوم القيامة؛ فإن كلَّ أحد يلوم نفسَه، إن كان مسيئًا على إساءته، وإن كان محسنًا على تقصيره.
قال ابن الإمام ابن القيّم -رحمه الله- معلِّقًا على جميع هذه الأقوال: "وهذا كله حق".
فالنفس اللوامة إذن نفس أبية كريمة، تلوم صاحبَها على الخير والشرّ معًا، تلوم صاحبَها على الخير لماذا لم تُكثر منه؟ لماذا لم تداوم على فعل الخيرات؟ وتلوم صاحبَها على الشرِّ والمعاصي: لماذا فعلتَ الشرَّ؟ لماذا ارتكبتَ المعصيةَ؟ لماذا وقعتَ في الذنب؟ فهي نفس كريمة، أقسم الله -عز وجل- بها في قرآنه، قال -سبحانه-: (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ)[القيامة: 1-2], قال ميمون بن مهران: "لا يبلغ المؤمن درجة التقى إلا إذا حاسب نفسَه محاسَبَةَ الشريك الشحيح".
وقد ذكر ابن القيم -رحمه الله- أن: "اللوامة نوعان: لوامة ملومة، ولوامة غير ملومة؛ أما اللوامة الملومة: هي النفس الجاهلة الظالمة، التي يلومها الله وملائكته, وأما اللوامة غير الملومة: وهي التي لا تزال تلوم صاحبَها على تقصيره في طاعة الله -مع بذله جهده- فهذه غير ملومة.
وَأَشْرَفُ النفوسِ مَنْ لامت نفسَها في طاعة الله، واحتملت ملامَ اللُّوَّام في مرضاته، فلا تأخذها في الله لومة لائم، فهذه قد تخلصت من لوم الله، وأما مَنْ رضيت بأعمالها ولم تَلُمْ نفسَها، ولم تحتمل في الله ملام اللوام، فهي التي يلومها الله -عز وجلّ-".
النفسُ الثانيةُ هي اللوامة، وقد أقسم الله بها في قوله: (ولا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ)[القيامة: 2].
اعلموا –أيها الأفاضلُ- أن اتباع هوى النفس الأمارة بالسوء يؤدي حتمًا إلى الفشل والتشاؤم، وأما اتباع النفس المطمئنة فإنه يؤدي إلى النجاح والتفاؤل، والسبيل إلى الموازَنَة والتصحيح، وإعادة الإنسان إلى طبيعته الخيِّرة من الأدوار التي تقوم بها النفس اللوامة، إذ أنها تُشَكِّل صمامًا للوقاية، وميزانًا للتقويم.
النفس اللوامة تتزكى عن طريق المجاهدة، والمحاسبة، والمراقَبَة، وهنا يعود صاحبها إلى الطاعة والخير بالتوبة، والذكر والاستعاذة، وغير ذلك؛ فحينما يذكر الإنسانُ اللهَ -عز وجل- مستعينًا ومستعيذًا به من الوسوسة يخنس الشيطانُ ويهرب، وهنا يجد المرءُ نفسَه عائدًا إلى الله، وفارًّا إليه من هوى النفس والشيطان، فيفعل المأمورات، ويجتنب المنهيات، ويعود عضوًا صالحًا في المجتمع.
عباد الله: واللوم المحمود نوعان:
الأول: لوم مؤقَّت غير مثمِر: وهو اللوم العابر الذي لا أثرَ له؛ كَأَنْ يلومَ الإنسانُ نفسَه على التقصير إذا استمع موعظة، أو قرع قلبه قارعُ الذِّكْر، أو مرت به مصيبةٌ وشدةٌ، أو رأى مُبْتَلًى.
غيرَ أن هذا التذكر هو لفترة محدودة لا تستمر، ولا يعزم صاحبُها على التَّرْك، أو الفعل بمقتضى اللوم، فيكون كل ما مَرَّ به ما هو إلا حديث نفس، ولذلك اشترط العلماء في التوبة المقبولة شرطين غيرَ الندم كدليلٍ على صدق الوبة هما: الإقلاع عن الذنب، والعزم على عدم العودة.
والثاني: لوم دائم وهو المثمر، وهو الذي يستمر أثرُه في النفس، وله صورتانِ:
لوم وتأنيب على ارتكاب العمل المحرَّم؛ كلوم النفس على الزنا، وشرب الخمر، والغشّ، والخيانة، وتعاطي الربا ونحو ذلك.
ولوم وتأنيب على التقصير في العمل الصالح، كلومِ النفس على التقصير في أصلِ العمل الصالح؛ كترك الصلاة، وترك التصدق على المسكين، أو لوم النفس على التقصير في الاستكثار من العمل الصالح؛ كلومها على التصدق بمبلغ صغير، ولومها على عدم المواظَبَة على الوِرْد القرآنيّ، وعلى قيام الليل وقتًا قصيرًا ونحوه.
أيها المؤمنون: إن النفس اللوامة هي الضمير الحيّ الذي يَحُول بينَكَ وبين الذنوب، وهي السوط القوي الذي يُوقِظُكَ حتى لا تلج في خِضَمِّ الشهوات، وهي الجرس الذي يُنبهك عند الاقتراب من حِمَى الشبهات، ومراتع السيئات، وهي السبيل الأوحد للوصول إلى النفس المطمئنة، التي لا تكون النجاة إلا بها، ولا يكون الفوز إلا بالتلبس بِزِيِّها.
هذا أبو الدرداء كان شديدَ اللومِ لنفسه وحاله كان يقول: "إن أشد ما أخاف على نفسي يومَ القيامةِ أن يقال لي: يا أبا الدرداء، قد علمتَ، فكيف عملتَ فيما علمتَ؟", وكان يقول: "لو تعلمون ما أنتم لاقونَ بعد الموت لما أكلتُم طعامًا على شهوة، ولا شربتُم شرابًا على شهوة، ولا دخلتُم بيتًا تستظلون فيه، ولخرجتُم إلى الصُّعُدات تضربون صدورَكم، وتبكون على أنفسكم، ولوددتُ أني شجرةٌ تعضد ثم تؤكل".
كان الربيعُ بنُ خيثم إذا قِيل لَهُ: كَيفَ أَصبحتَ؟ قال: "ضَعِيفًا مُذْنِبًا, أَسْتَوفي رزْقِي, وأنتظُر أَجَلي".
أقول ما سمعتُم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه...
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسَّلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أمَّا بعدُ:
أيها الناسُ: اتقوا الله -تعالى-، واعلموا أن لِلَّوْمِ المحمودِ علاماتٍ تدلّ عليه، وسمات يُعرف بها، فإذا ظهرت هذه العلاماتُ كان اللوم نافعًا ومثمرًا، وما لم يكن كذلك فما هو إلا تمثيل وادعاء، وهذه العلامات هي:
أولها: المبادرةُ إلى التَّرْك أو الفعل, وتركُ التسويف.
ثانيها: اتخاذُ الأسباب والوسائلِ الْمُعِينَة على التَّرْك أو الفعل؛ فيهجر رفقاءَ السوء الذين يذكِّرونه بالمعصية، أو ينام في وقت مبكر ليصحو لصلاة الفجر.
أما بدون المبادرة والسعي بالأسباب فإن اللوم يغدو تمثيلًا وكذبًا لا يُسْمِنُ ولا يُغني من جوع, قال -تعالى-: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ)[النساء: 123]؛ أي: ليس ما وعد الله من الثواب يحصل بأمانيكم أيها المسلمون، ولا بأماني أهل الكتاب، وإنما يحصل بالإيمان والعمل الصالح, وقد عدَّ القرآنُ الكريم المنافقين كاذبين في ندمهم على عدم الخروج في غزوة تبوك فقال -تعالى-: (وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً)[التوبة: 46].
أيها المؤمنون: إن اللوم والتأنيب الصادق يمكن أن يكون حاميًا للإنسان من التفريط والتقصير، بل يمكن أن يكوِّن مناعةً دائمةً للنفس حتى تصبحَ نفسًا مطمئنة، وهذا لا يكون إلا إذا تعوَّد الإنسانُ على محاسَبَة نفسه قبل أيّ فِعْل وبعدَه, يقول الحسن -رحمه الله-: "إن المؤمن ما تراه إلا يلوم نفسَه: ماذا أردتُ بكلامي؟ وماذا أردتُ بعملي؟ وإن الكافر يمضي ولا يحاسِب نفسَه ولا يعاتبها"، ويقول ابن القيم -رحمه الله-: "المحاسبة قبل العمل وبعده؛ فأما قبل العمل فبأن يقف عند أول همه وإرادته، ولا يبادر بالعمل حتى يتبين له رُجحَانُه على تركه"، وقال الحسن -رحمه الله-: "رَحِمَ اللهُ عبدًا وقَف عند همِّه، فإن كان لله مضى، وإن كان لغيره تأخَّر، هذا قبل العمل، وأما بعدَ العمل فبمحاسَبَتُها على طاعة قصَّرت فيها، فلم توقعها على الوجه الذي ينبغي"، فإن كان مما يُستدرك استدركه، وإلا عاد على نفسه باللوم، والندم، والتوبة، والاستغفار، وجدَّد العزمَ، وسأل اللهَ العفوَ، والصفحَ، والغفرانَ.
عبادَ اللهِ: ينبغي على كل واحد منَّا قبل إقدامِه على عمل ما أن يسأل نفسَه ثلاثةَ أسئلةٍ: هل هذا العملُ سبيلٌ إلى مرضاة الله أم سخطه؟ وهل هذا العمل يحقِّق الغايةَ من وجودي أم لا؟ وهل هذا العمل يقوِّي الإسلامَ وأهلَه أم يكون سببًا في ضَعْفه؟ فإن كان الجواب بالنفي فلا ينبغي أن يَقْدُمَ عليه، ولو أجابته نفسُه فإنه من الشيطان، ومن النفس الأمارة بالسوء.
واعلموا أن الانطلاق إلى مراقي الإيمان وذروته يبدأ من مكاشَفَة النفس بذنوبها، ومصارحتها بأخطائها، لذا وجب على العبد أن يخصص من عمره وقتًا يخلو فيه إلى نفسه ويحاكمها، حتى يشعر وهو يحاسبها وكـأنه يحاور شخصًا خارجًا عنه، بعيدًا منه، ويكون طرف المحاورة هو فطرته النقية، وعقله الصافي، ونفسه اللوامة التي تذكِّره بما ارتكبه من ذنوب وموبقات حتى يحقق منزلة التوبة، ويصل بذلك إلى الاطمئنان الروحي, (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)[الرعد: 28]؛ فالنفس التي تلوم صاحبَها من أعظم الوسائل التي تساعده على اكتشاف أخطائه، والسعي للبُعْد عنها، والتوبة منها، والإنابة إلى الله؛ إِذِ الذنوبُ كالسموم داخلَ الجسمِ، ولن يجد المسلمُ طعمًا للراحة ما لم يطردها من داخله.
هذا وصلُّوا وسلِّموا على مَنْ أُمرتم بالصلاة والسلام عليه..
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم