النزاهة والرشوة

الشيخ د عبدالرحمن السديس

2022-10-05 - 1444/03/09
التصنيفات: قضايا اجتماعية
عناصر الخطبة
1/ النزاهة والشفافية وقيمتها في المجتمع 2/ تفشي الرشوة في الأمة 3/ زجر الشريعة عن الرشوة وأكل مالها 4/ أثر الرشوة وتفشيها في المجتمع 5/ عوامل انتشار الرشوة في المجتمع 6/ سبل تعزيز النزاهة ونشرها في المجتمع

اقتباس

الرِّشوةُ خيانةٌ للأمة، وبلاءٌ على المُجتمع، هي فخُّ الشهامة، وشِباكُ المُروءة، وشِراكُ الأمانة وقلَّة الديانَة، تُصيبُ مصالِحَ الأمة بالإرباك والفشَل، ومشروعاتِها بالعِثار والشَّلَل، وجهودَ المُخلِصين بالفُتُور والخَوَر، وأعمالَهم بالجُحود والضَّرر. فكم من مظالِمَ انتُهِكَت، وحُقوقٍ ضُيِّعَت بسببها؟! وكم فُقِدت ثروات، وهُدِّمَت أُسرٌ وبُيوتات، وأُهدِرَت كفاءات، وضُيِّعَت طاقات من جرَّائِها وأهلِها –لا...

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله، نحمدُك ربَّنا ونستعينُك ونستغفرُك ونتوبُ إليك، ونُثني عليك الخيرَ كلَّه، سبحانك وبحمدك لا نُحصِي ثناءً عليك أنت كما أثنيتَ على نفسك.

 

إليك وإلا لا تُشدُّ الرَّكائِبُ *** وفيك وإلا فالمُؤمِّلُ خائِبُ

ومنك وإلا لا تُنالُ الرغائِبُ *** وعنك وإلا فالمُحدِّثُ كاذِبُ

 

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أولَى النُّزَهاءَ سموًّا ورفعةً وإحسانًا، وأعقبَ المُتخوِّضين في زهرة الدنيا سُوءًا وخُسرانًا، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه من دامَ بالطُّهر مُصانًا وبالنقاء مُزدانًا، اللهم فصلِّ عليه وعلى آله الطيبين خِلالاً، الزَّاكِين جلالاً، وصحبِه الأُلَى نشروا النزاهةَ في العالمين أفنانًا، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ، وسلَّم تسليمًا مُبارَكًا مُؤرَّجًا ريَّانًا.

 

أما بعد:

 

فيا عباد الله: من رامَ بلوغ الذُّرَى، والفوزَ بين الورَى، والعزَّ والسموَّ بلا مِرَا؛ فليستمسِك من التقوى بأوثقِ العُرى: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) [النور: 52].

 

من يتَّقِ الله في الأعماق مُتَّجهًا *** إلى الإلهِ سيرقَى عالِيَ الرُّتَبِ

وينهـلَ الحـقَّ شلاَّلاً بخافِقِه *** ويُلجِمَ النفسَ إذعانًا لمُجتنَبِ

 

أيها المسلمون: في هذا الزمان المُضطرِم بتباريح الماديات، الزخَّار بمَشُوب المقاصِد والنيَّات، المُشتغِل بصُنوف المبادئ والخِلال، والمناقِب والخِصال، تأتلِقُ بين ذيَّاك الاحتِدام قيمةٌ عزيزةٌ كريمةٌ، أناخَت في نبيل النفوس ركائِبها، فحازَت بالصدق منها شريفَ مآربِها، قيمةٌ أشرقَت بالصَّفاء والجمال، والطُّهر الأخَّاذ المُنثال، فغدَت في العالمين كتِبرِ الأمثال، وما أمر بها الكتابُ العظيمُ والسنَّة إلا لأنها النورُ الهادِي في الدُّجُنَّة.

 

تلكم -يا رعاكم الله- هي قيمةُ الشفافية والنَّزاهة، وما أدراكم ما النَّزاهة؟! إنها صفةٌ وخُلَّة؛ بل تاجٌ وحُلَّة، جمعَت من الخير أكملَه، ومن العفافِ أجملَه، ومن المروءة أرفعَها، ومن شِيَم النُّبْل أنفعَها.

 

ومن براهين النَّزاهة ودلالاتها، وعظيم حُجَجها وآياتها: قولُ الحق -تبارك وتعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) [البقرة: 168]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) [البقرة: 172].

 

ويقول -عليه الصلاة والسلام- فيما أخرجه البخاري: "ليس الغِنَى عن كثرة العَرَض، ولكنَّ الغِنَى غِنَى النفس"، ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "دَعْ ما يَرِيبُك إلى ما لا يَرِيبُك"، ويقول -عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم- كما في حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-: "ومن يستعفِف يُعِفّه الله، ومن يستغنِ يُغنِه الله".

 

الله أكبر! إنها السَّجايا العِذاب، كالسِّحر المُذاب. الله أكبر! إنه البيانُ المُوجزُ الباهِرُ، السنِيُّ الطاهر لمعالم الشفافية والنَّزاهة، وملامِح العفاف والنَّباهة.

 

فيا لله! ما أكرمَها من شِيمةٍ محمودة، وخَصلةٍ ألوِيتُها بالفوز معقودة، لا تظهر إلا من نَدبٍ شهمٍ كريمٍ، ذي قلبٍ رؤومٍ سليمٍ.

 

يقول الإمام الماوَرديُّ -رحمه الله-: "العفَّةُ والنَّزاهةُ والصيانةُ من شروط المُروءة والدِّيانة".

 

إذا قِيل: هذا منهَلٌ قلتُ: قد أرَى*** ولكنَّ نفس الحُرِّ تحتمِلُ الظَّمَا

أُنهنِهُها عن بعـض مـا يَشـينُها ** مخافةَ أقـوال العِدا فيمَ أو لِمَ

 

أيها الأحبة الأكارِم: ويُقابِلُ النَّزاهةَ ويُضادُّها: فَعلةٌ وبيلةٌ رديئة، وخَصلةٌ شنيعةٌ قمِيئة، ما أمَرَّ أمرَها، وأضرَّ درَّها، ما تفشَّت في أمةٍ إلا آذنَت بهلاكِها، وأوقعَتها في الورَطات وأشراكِها، إنها "الرِّشوة" -يا عباد الله-. بُرهانُ دناءة النفس ولُؤم الطِّباع، وحيلةُ المَكر والخِداع، وهي من كبائِر الذُّنُوب بالإجماع.

 

الرِّشوةُ خيانةٌ للأمة، وبلاءٌ على المُجتمع، هي فخُّ الشهامة، وشِباكُ المُروءة، وشِراكُ الأمانة وقلَّة الديانَة، تُصيبُ مصالِحَ الأمة بالإرباك والفشَل، ومشروعاتِها بالعِثار والشَّلَل، وجهودَ المُخلِصين بالفُتُور والخَوَر، وأعمالَهم بالجُحود والضَّرر.

 

فكم من مظالِمَ انتُهِكَت، وحُقوقٍ ضُيِّعَت بسببها؟! وكم فُقِدت ثروات، وهُدِّمَت أُسرٌ وبُيوتات، وأُهدِرَت كفاءات، وضُيِّعَت طاقات من جرَّائِها وأهلِها -لا كثَّرَهم الله-، وهو -سبحانه- حسبُنا وحسيبُهم، (فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) [البقرة: 79].

 

يقول تعالى: (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة: 188].

 

يقول الإمام القرطبي -رحمه الله-: "أي: لا تجمَعوا بين أكل المال بالباطِل وبين الإدلاء إلى الحُكَّام بالحُجَج الباطِلة".

 

وفي زجرٍ آخر شنيعٍ، ووصفٍ للرَّاشِين مُريع، يقول -عزَّ اسمُه-: (وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [المائدة: 62].

 

فحرَّم -جلَّ شأنُه- سُحتَ الأموال، وأوجبَ على مُنتهِكِها بِئسَ العقوبة والنَّكال.

 

فكم من أقوامٍ -وا أسفاه- عفَّروا وجوهَهم بالرِّشوة في الرِّغام، وارتكَسُوا بجمرةٍ من الحرام، من الذِّروة والسَّنام؟!

 

وحسبُكم منها تخويفًا وتهديدًا، وتهويلاً لجُرمها ووعيدًا: ما رواه عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: "لعنَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- الرَّاشِيَ والمُرتَشي". أخرجه الترمذي وصحَّحه. وزاد ابن حبان والحاكم بسندٍ صحيحٍ: "والرَّائِش". وهو الذي يسعى بينهما يستزِيدُ وينقُص.

 

واستحقَّ الثلاثةُ اللَّعنَ والإبعادَ؛ لأنهم أتَوا فسادًا وأيَّ فسادٍ، فأيُّ خيرٍ يُرجَى من هؤلاء للبلاد والعباد؟!

 

إن لـواءَ الخِزيِ والمفاسِد *** وما يدُكُّ معقِلَ الأماجِدِ

في الرِّشوة المأفونة المطرودِ *** صاحِبُها من رحمة المعبُودِ

 

لأن الرِّشوة -يا عباد الله- تجعل الباطِلَ هو الأحقّ، والحقّ مرامَه لا شك، بها ترُوجُ سوقُ الفساد، ومسالِكُ الباطل، وأساليبُ السُّحت، وتستمرِئُ الأمةُ أبوابَ الحرام، وطُرقَ الإجرام، والجُرأة على الآثام، فتُشتِّتُ كل مجموع، وتُكدِّرُ كل يَنبوع، وتُزهِقُ كلَّ مشروعٍ، وتُبيحُ كلَّ ممنوع، وتعتاقُ كلَّ إبداعٍ يلُوحُ، وتغتالُ كلَّ نبوغٍ وطموحٍ، مُروَّجةً بعباراتٍ خلاَّبة، ومعانِي مُموَّهةً كذَّابة: هديةً تارة، ومُكافأةً أخرى، وإكراميَّةً وتشجيعًا، وتقديرًا للجُهد تارةً أخرى.

 

ولكنَّ الرِّشوة رِشوة، وإن زُخرِفَت مناظِرها، وتلوَّنَت مظاهِرها، واختلفَت أسماؤُها، وتعدَّدت مُسمَّياتها.

 

عن أبي حُميد الساعديِّ -رضي الله عنه- قال: استعملَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- رجلاً من الأزْد يُقال له (ابنُ اللُّتبيَّة) على صدقة، فلما قدِم قال: هذا لكم، وهذا أُهدِيَ إليَّ. فقام النبي -صلى الله عليه وسلم- فصعِدَ المنبَرَ، فحمِدَ الله وأثنَى عليه، ثم قال: "ما بالُ العامِل نبعثُه فيأتي فيقول: هذا لكم، وهذا أُهدِيَ إليَّ، أفلا جلسّ في بيت أبيهِ وأُمِّهِ فينظر هل يُهدَى إليه أم لا؟! والذي نفسي بيدِه؛ لا يأتي بشيءٍ إلا جاء به يوم القيامة يحمِلُه على رقبته...". الحديث. أخرجه البخاري في صحيحه.

 

أمة الإسلام: وقد عمَّ هذا البلاءُ واستشرَى لدَى فِئامٍ من الناس في أعقابِ الزمن، الذين شُوِّهَ منهم الباطن دون العلَن، فلم يرقُبُوا في المُؤمنين إلاًّ ولا ذمَّةً، ولم يجِلوا من أحكام الشريعة وما تقتضِيه النَّزاهةُ وعلوُّ الهمَّة، فدنَّسُوا ذواتَهم وأقواتَهم بخبيثِ الرِّشوة والمهانَة، والسُّحْت والخِيانة، وظنُّوا أن قد أخصبَ مرعاهم وتحقَّق مُناهم، ولكن أنَّى وهيهات؟! فلهم الخِزيُ في الدنيا، وإن لم يتوبوا فالنارُ مثواهم -عياذًا بالله-.

 

اعتبر (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ) *** تلقَه حقًّا (وَبِالحَقِّ نَزَلَ)

فـاترُك الحِيلةَ فيها واتِّكِل *** إنما الحيلةُ في ترك الحِيَل

 

وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من شفَعَ لأخيه بشفاعةٍ فأهدَى له هديَّةً عليها فقبِلَها فقد أتَى بابًا عظيمًا من أبواب الرِّبا".

 

فسُبحان الله -عباد الله-، وعجبًا -إخوتي في الله-؛ رِشوةٌ في الوظائف والترقِيات، ورِشوةٌ في المُؤهِّلات والشهادات، ورِشوةٌ في المُعاملات والمُقاولات والمُناقَصات، والإخلال بالعقود والمُواصَفات، رِشوةٌ لتمزيق الصفِّ الجميع، رِشوةٌ في الإعمار والمشاريع.

 

بل غدَا هذا المنكرُ الشَّنيعُ عند ضِعاف النفوسِ أمرًا واجبًا، وحتمًا لازِبًا، وتلك الفواقِرُ والجنايات مُنذِرةٌ بفناءٍ قِيَميٍّ ذريعٍ، يُرعِبُ المُجتمعات ويُهدِّدُها، ويفتِكُ بمُقدَّراتها ويُبدِّدُها؛ إذ الأمجادُ والحضارات لا تُبنَى إلا على دعائِم القِيَم المُثلَى والمُثُل العُليا.

 

وحينما تُبتلَى الأُمم بالأمراض المعنويَّة والأدواء الاجتماعيَّة يضعُفُ شأنُها وتُقوَّضُ دعائمُها، وإن من شرِّ ما تُصابُ به المُجتمعات أن يخوضَ فِئامٌ من ذوي المسؤوليات في أموال الأمة العامة بغير حقٍّ، وأن تُعطَّل الحقوق وتتعثَّر المشروعات تطلُّعًا إلى ابتِزاز الجُيوب دون عناءٍ أو لُغوب.

 

فيا مَن رشوتَ بشَرر السَّعير لتنالَ العرَضَ الحقير! لقد أتيتَ على دينك بالتَّتبير. ويا مَن ارتشيتَ: لقد بُؤتَ بالخُسران والثُّبور، بفعلٍ لئيمٍ وعملٍ يبُور.

 

لا يُلفِيَنَّك ذو الجلال مُحاوِلاً *** تبيينَ مطموسٍ وطمسَ مُبينِ

ماذا تقولُ إذا سُئِلتَ مُحاسَبًا *** والمُرتَشُون على شفا سِجِّينِ

 

إخوة الإيمان: ومن أهم عوامل الإيغال في هذا السُّلوك السَّخيف: تنصُّل فِئامٍ في الأمة عن مسؤولية النَّزاهة والإرشاد، والتولِّي عن شرف الزَّجر عن مُستنقعات الارتِشاء والفساد، والمُداهنَةُ فيها دون تمعُّرٍ ونُكران؛ بل لربُّما رُمِق المُفسِد بعينٍ مكحولةٍ بتبسُّمٍ واستِحسانٍ، ووُصِف بكِياسةٍ ودهاءٍ واستِرهان. فاللهُ المُستعان.

 

فحقيقٌ بذوي الحزم والنَّزاهة الأعلام الأخذُ على أيدي المُرتَشين الفِدام، ومن يقومون بإهدار المال العام، واستِغلال المناصِب والوظائف الرسمية في المصالح الذاتية، والمكاسِب الشخصية.

 

فما شُرِعت الزواجِر ووُضِعَت النُّظُم إلا لتحقيق أعلى المقاصِد، ودفع الشُّرور والمفاسِد، وأطرِ كل من هو من وكاسِد، (وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) [القصص: 77]، (إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) [يونس: 81]، (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ) [البقرة: 205].

 

لا تلطُفنَّ على الرَّاشِي فتُطرِيَه *** واغلُظ له يأتِ مِطواعًا ومِعوانًا

إن الحديـدَ تُريدُ النارُ قسوتَه *** ولو صببتَ عليه البحرَ ما لانَا

 

أمة الإسلام: وهذا الواقعُ الأليمُ المُثخَن بالمثالِب والمزَالِّ ليستصرِخُ المُجتمعات جمعاء لتعزيز قِيَم الشفافية والمُراقبَة والنَّزاهة والمُحاسَبة، وتحصين الأمة بوازِع الدين، وقوة اليقين، والخوف من الجليل ذي القوة المتين، وأن تتآلَف الجهود وتتوارَد الأُمم على تمزيق مفاسِد الرُّشَى ودحضِها، ونبذِها ورحضِها، وبذلك تزكُو الأُمم وتسُود، وتُحقِّقُ أسمَى الأمانِي والقُصود، وتبلغُ مجدَها المعقود -بإذن الله الواحد المعبود-.

 

تلك الرجاءات والآمال، ومن الله نستلهِمُ صالحَ الأقوال والأعمال، وبلوغَ الفلاح في الحال والمآل، وما ذلك على الله بعزيز المَنال، فهو -سبحانه- وليُّ الفضل والنَّوال.

 

اللهم اكفِنا بحلالِك عن حرامِك، اللهم اكفِنا بحلالِك عن حرامِك، وبطاعتِك عن معصيتِك، وأغنِنا اللهم بفضلِك عمَّن سِواك، وهبْ لنا غِنًى لا يُطغِينا، وصحةً لا تُلهِينا، وأغنِنا الله بفضلِك عمَّن أغنَيتَه عنَّا، يا جوادُ يا كريمُ.

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [القصص: 83].

 

باركَ الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعَنا ورفعَنا بما فيهما من الآيات البيِّنات والحِكمة، أقول قولي هذا، وأستغفرُ الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائر المُسلمين من كل خطيئةٍ وإثمٍ؛ فاستغفِروه وتوبوا إليه، إن ربي لغفورٌ رحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

حمدًا لله، وصلاةً وسلامًا على رسولِه ومُصطفاه.

 

أما بعد:

 

فاتقوا الله -عباد الله-، واعلموا أن في الحلال غُنيةً عن الحرام، وفي الطيِّبات كفايةً عن الخبائِث والمُشتبِهات.

 

إخوة الإيمان: ومِلاكُ تعزيز النَّزاهة ودرء الفساد: إحقاقُ الحقِّ الخفيِّ والجليِّ، والتمسُّك بالعفاف السَّنِيّ، الذي هو قوةُ الأمين وأمانةُ القويّ، وأن تُربَّى الأمة كافَّةً على أكرم الأخلاق والسَّجايا، وأنبَل الخِلال والمزايا، وأن يتنزَّه ذوو المسؤوليات والأمانات عما وضُح من شُبهات المال وكمَن، ويخِفُّوا لقضاء مُعاملات المُراجِعين دون تلاعُبٍ بالمواعيد، أو تلكُّؤٍ أو تعقيد، أو تسويفٍ أو مَنٍّ، أو تعثيرٍ في المشاريع بكل عُذرٍ شنيعٍ، يعود بالضَّرر على الجميع، أو استِشرافٍ لاستِرشاء، أو رُنُوٍّ لاستِهداء.

 

وحينئذٍ يا بُشرى للمُوظّف الضَّمين، والمسؤول الأمين الذي اتَّخذ النَّزاهة شِعارَه، والأمانة دِثارَه، وإحقاقَ الحقوق بِدارَه، وسمَا عن دنيءِ الأعراض، وسفاسِف الأغراض، وجدَّ وسعَى في نزاهة رُوحِه ونفسِه، ونظافَة يدِه ومسِّه، وشفافية مشاعِره وحِسِّه، واعتبَرَ بغدِه وأمسِه، وتزوَّد بخير الزاد لسُؤال رمْثِه؛ فكان بذلك في مُجتمعه أوسع إصلاحًا، وأسرع نجاحًا.

 

وفي مأثور الحِكَم: "من استشرفَ اللُّهَا وهَى قدرُه، ومن لزِمَ النَّزاهةَ زها بدرُه".

 

هذا؛ وإنا لنحمدُ الله -عز وجل- في هذه البلاد المُبارَكة أن خُصَّت للنَّزاهة ومُكافَحة الفساد الهيئات والمُؤسَّسات، وجُسِّدَت أجهزةُ الرَّقابة والمسؤوليات بذوي الكفاءة والقُدرات، وعُزِّزَت النَّزاهةُ بخِيرَةٍ أماثِل أماجِد أفاضِل.

 

فواجِبُ الجميع أفرادًا ومُؤسَّسات: التعاوُن معهم في تعزيز قِيَم النَّزاهة، ومُكافَحة جميع ألوان وضُروب الفساد؛ لنبلُغ بالمُجتمع مراقِيَ الفلاح والرَّشاد.

 

ألا وصلُّوا وسلِّموا -رحمكم الله- على سيد المُرسَلين والأنبياء، وقُدوة الأتقياء الأنقِياء، وأُسوة النُّزَهاء الأصفِياء، كما أمرَكم المولَى -جل وعلا-، فقال تعالى قولاً كريمًا: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56]، وقال -عليه الصلاة والسلام-: "من صلَّى عليَّ صلاةً صلَّى الله عليه بها عشرًا".

 

صلَّى عليـه إلهُ العرش ما طلعَت *** شمسٌ وما فاحَ زهرُ الرَّوضِ في الأُنُفِ

والآل والصَّحب والأزواجِ أجمعِهم *** السَّاكِنين لدى الفردَوس في الغُرَفِ

 

اللهم ارضَ عن الخُلفاء الراشدين، والأئمة المهديين، الذين قضَوا بالحق وبه كانوا يعدِلون، ذوي الشَّرف الجلِيِّ والقدر العلِيِّ: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن سائر الصحابة والتابعين، ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

 

اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداءَ الدين، واجعل هذا البلدَ آمنًا مُطمئنًّا، وسائرَ بلاد المُسلمين.

 

 

 

المرفقات

والرشوة

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات