النحلة

ناصر بن محمد الأحمد

2014-11-18 - 1436/01/25
عناصر الخطبة
1/بعض أسرار وعجائب بديع صنع الله للنحلة 2/مثل المؤمن كالنحلة 3/أوجه الشبه بين المؤمن والنحلة

اقتباس

إن في أحوال النحل وأعماله من العبر والآيات ما يبهر العقول، النحل مأمور بالأكل من كل الثمرات خلافاً لكثير من الحشرات التي تعيش على نوع معين من الغذاء، وتعجب أنها لا تأكل إلا الطيبات، زودها الله بشعيرات عصبية دقيقة يصل عددها إلى ثلاثين ألفاً تشكل حاسة الشم والسمع واللمس، وتعمل كالكشاف في ظلام الخلية، فـ...

 

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله ...

 

أما بعد:

 

قال الله -تعالى-: (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)[النحل: 68 - 69].

 

النحلة مخلوق عجيب من مخلوقات الله -تعالى-، هذه النحلة الصغيرة فيها من الأسرار ما يحير العقول والأفهام، لقد ألهم الله هذه النحلة وهداها وأرشدها إلى أن تتخذ من الجبال بيوتاً تأوي إليها: (وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ)[النحل: 68].

 

وليس للنحلة بيت غير هذه الثلاثة البتة، ثم أذن لها تعالى إذناً قدرياً تسخيرياً أن تأكل من كل الثمرات، وأن تسلك الطرق التي جعلها اللّه -تعالى- مذللة لها مسهلة عليها حيث شاءت من هذا الفضاء العظيم، والبراري الشاسعة، والأودية والجبال الشاهقة، ثم تُخرج من بطونها هذا العسل اللذيذ مختلف الألوان ما بين أبيض وأصفر وأحمر وأسود وأشقر، وغير ذلك من الألوان الحسنة بحسب اختلاف أرضها ومراعيها، فيه شفاء للناس من أمراض عديدة‏،‏ فسبحان من خلق فسوى، وقدر فهدى، وأخرج المرعى.

 

ومن عجيب شأنها: أن لها أميراً يسمى اليعسوب لا يتم لها رواح ولا إياب ولا عمل ولا مرعى إلا به، فهي مؤتمرة لأمره سامعة له مطيعة، يدبرها كما يدبر الملك أمر رعيته، حتى إنها إذا آوت إلى بيوتها وقف على باب البيت، فلا يدع واحدة تزاحم الأخرى، ولا تتقدم عليها في العبور، بل تدخل بيوتها واحدة بعد واحدة بغير تزاحم ولا تصادم كما يفعل الأمير إذا انتهى بعسكره إلى معبر ضيق لا يجوزه إلا واحداً واحداً.

 

إن من تدبر أحوال هذه النحلة الصغيرة في اجتماع شملها، وسياساتها وانتظام أمرها، وتدبير ملكها، وتفويض كل عمل إلى واحد منها، يتعجب كل العجب ويعلم أن هذا ليس في مقدورها ولا هو من ذاتها، فإن هذه أعمال محكمة متقنة في غاية الإحكام والإتقان: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)[الملك: 14].

 

إن في أحوال النحل وأعماله من العبر والآيات ما يبهر العقول، النحل مأمور بالأكل من كل الثمرات خلافاً لكثير من الحشرات التي تعيش على نوع معين من الغذاء، وتعجب أنها لا تأكل إلا الطيبات، زودها الله بشعيرات عصبية دقيقة يصل عددها إلى ثلاثين ألفاً تشكل حاسة الشم والسمع واللمس، وتعمل كالكشاف في ظلام الخلية، فسبحان من وهبها ذاك وبه زودها!.

 

للنحلة عيون كثيرة، مما جعل لها سعة أفق في النظر، فالنحلة ترى أقصى اليمين وأقصى الشمال والبعيد والقريب في وقت واحد، علماً بأن عيونها لا تتحرك فلا إله إلا الله.

 

أما فم النحلة، فمن أعاجيب خلق الله في خلقه، فهو شديد الحساسية لما هو حلو الطعم طبيعياً، ولا يتحرج من المواد المرة، إذ يحولها إلى حلوة بإذن ربه الذي ألهمه فسبحانه وبحمده لا شريك له.

 

أما سمع النحل، فدقيق جداً، يتأثر بأصوات لا تستطيع أن تنقلها أذن الإنسان، فسبحان من زوده بها.

 

وتحمل النحلة ضعفي وزنها، وتطير به في خفة وحيوية.

 

هناك من النحل مرشدات، عندما تجد مصدراً للغذاء تفرز عليه مادة ترشد إليه بقية النحل للرحيق، وعندما ينضب وينتهي الرحيق تفرز عليه المرشدات مواداً منفرة منه، حتى لا يضيع الوقت في البحث فيه، ثم تنتقل إلى مصدر آخر، فمن علّمها وأرشدها؟

 

إنه الله -جل جلاله-.

 

ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها، فلا إله إلا هو.

 

تستطيع النحلة خارج الخلية الرجوع إلى خليتها والتعرف عليها من بين آلاف الخلايا، بلا عناء ولا تعب، ولو ابتعدت عنها آلاف الأميال: (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ)[النحل: 68].

 

تأمل قدرة الله بخلقه يوم جعل من النحل حرّاساً للخلية يستطيعون أن يميزوا كل غريب ودخيل عليهم من النحل، فيطرحوه خارجاً أو يقتلوه، علماً أن تعداد الخلية يصل إلى ثمانين ألف نحلة، أو أكثر، فسبحان من ألهمه: (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ)[النمل: 88].

 

والنحل من ألطف الحيوان وأنقاه وأنظفه، ولذلك لا تلقي مخلفاتها في خليتها، بل تطير ثم تلقيها بعيداً عنها، وتأبى النتن والروائح الكريهة، تأبى القذارة، ولذلك إذا رجعت إلى الخلية بالعشية، وقف على باب الخلية بواب منها، ومعه أعوان كثر، وكل نحلة تريد الدخول يشمها البواب ويتفقدها، فإن وجد فيها رائحة منكرة، أو رأى بها قَذَراً منعها من الدخول.

 

في عالم النحل ملكة وعاملات، وفيه نظام وانضباط، وفيه تناغم واتساق، وكلها مظاهر من عظمة الخالق المبدع الذي جعل من أمة النحل مثالاً يحتذى به في التعاون والنظام، الكل يعمل حسب سنه ودوره، المهندسات والبناءات يشيدن قرص النحل.

 

والعاملات يقمن برحلات للكشف عن أماكن الرحيق، والكيميائيات يتأكدن من نضوج العسل وحفظه، والخادمات يحافظن على نظافة الشوارع والأماكن العامة في الخلية، والحارسات على باب الخلية يراقبن من دخل إليها ومن خرج، يطردن الدخلاء، أو من أراد العبث بأمن الخلية، فمن علم هؤلاء كل هذا؟ ومن أوحى لهنّ هذه الأدوار؟

 

إنه رب العالمين الذي يقول: (وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم)[الأنعام: 38].

 

وفي حياة النحل أسرار عجيـبة اكتشف الإنسان في العصر الحديث بعضاً منها، وما زال هناك الكثير من تلك الأسرار التي أودعها الله في ذلك الكائن الحي الذي أوحي إليه.

 

هل تعلم -يا أخي الحبيب- بعد بعض هذه الأسرار العجيبة في عالم النحل: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- شبه المؤمن بالنحلة، قال صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمن مثل النحلة إن أكلت أكلت طيباً، وإن وضعت وضعت طيباً، وإن وقعت على عود نخر لم تكسره".

 

إن هذا التشبيه من النبي -صلى الله عليه وسلم- المؤمن بالنحلة من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمن مثل النحلة، إن أكلت أكلت طيباً، وإن وضعت وضعت طيباً، وإن وقعت على عود نخر لم تكسره".

 

من صفات النحلة: أنها قليلة الأذى، منفعتها شاملة، وهي قنوعة، وساعية بالليل، وتتنـزه عن الأقذار، وأكلها طيب، ولا تأكل من أكل غيرها، وهي مطيعة لأميرها.

 

وكذلك المؤمن قليل الأذى، منفعته شاملة له ولغيره، يستفيد من المؤمن كل من يعيش حوله حتى البهائم والجمادات، والمؤمن قنوع، وينـزه عن الأقذار كالنحلة، ولا يأكل إلا من الحلال الطيب، ويتورع المؤمن مما فيه شبهه، وهو مطيع لأميره بالمعروف: (أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ)[النساء: 59].

 

وإن للنحل آفات ينقطع بها العمل مثل: الظلمة والريح والدخان، والماء والنار، وكذلك المؤمن له آفات تفقده من عمله؛ كظلمة الغفلة، وريح الفتنة، ودخان الحرام، ونار الهوى.

 

المؤمن كالنحلة لا يأكل إلا طيباً، شبهه النبي -صلى الله عليه وسلم- بالنحلة؛ لأن المؤمن أكله طيب لا يأكل من الحرام، المؤمن أكله من الحلال المحض يتحرى الحلال، فلا يقع على حرام ولا شبهة، وإنما حلال خالص كما يقع النحل على الحلال الخالص، فيمص من رحيق الأزهار المتنوعة.

 

وكذلك المؤمن يأخذ من العلم المفيد والمسائل النافعة، بجميع أنواعها، ينوع مصادر العلم، ويتلقى عن أهل العلم الطيبين، فيتفاعل هذا العلم في نفسه، وهذا الإيمان فينتجان العمل الصالح المتنوع الشافي لنفسه الذي يدرك به الدرجات العلى عند ربه.

 

كما أن النحلة يتفاعل في بطونها هذا الرحيق الذي امتصته، فتخرج به عسلاً مختلفاً ألوانه فيه شفاء للناس.

 

وكذلك أعمال المؤمن فيه شفاء له ولغيره، وفيه منافع للناس، النحلة مؤونتها قليلة ونفعها كثير، والمؤمن كذلك مؤونته قليلة، وهو قنوع ليس بثقيل ظلٍ، ونفعه كثير.

 

وهذه النحلة، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن وقعت على عود نخرٍ لم تكسره".

 

وكذلك المؤمن خفيف الظل ليس بثقيل: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا)[الفرقان: 63].

 

يمشون بتواضع وتأدب لا مشية المتغطرس المتكبر الذي يظن أنه سيخرق الأرض، أو سيبلغ الجبال طولاً.

 

قَالَ عَلِيٌّ -رضي الله عنه-: "كُونُوا فِي النَّاسِ كَالنَّحْلَةِ فِي الطَّيْرِ، إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ الطَّيْرِ شَيْءٌ إِلَّا وَهُوَ يَسْتَضْعِفُهَا، وَلَوْ يَعْلَمُ الطَّيْرُ مَا فِي أَجْوَافِهَا مِنْ الْبَرَكَةِ لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ بِهَا، خَالِطُوا النَّاسَ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَأَجْسَادِكُمْ، وَزَايِلُوهُمْ بِأَعْمَالِكُمْ وَقُلُوبِكُمْ، فَإِنَّ لِلْمَرْءِ مَا اكْتَسَبَ وَهُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ مَنْ أَحَبَّ"[رواه الدارمي].

 

وهكذا المؤمن قد يُحتقر ويُنظر إليه بتواضع، ويُنظر إليه بعين الذلة، ولكنه يشتمل في أثوابه على نفس أسد هصور بشجاعته وجرأته وقوله بالحق، وعمله به، وأمره بالمعروف، ونهيه عن المنكر، وهو كذلك فيه نفع عظيم، لكنه لا يظهر أعماله الصالحة، لا رياء عنده، ولا تصنع ولا سمعة، بل عنده إخلاص، يحسبه الناس ضعيفاً، وهو عند الله عظيم.

 

النحلة لا تأكل بمرادها وبشهوة منها، بمقدار ما تأكل بأمر ربها لها؛ كما قال تعالى: (ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ)[النحل: 69].

 

فتأكل من الحلو والمر لا تتعداه إلى غيره من غير تخليط، ولذلك طاب عسلها لذةً وحلاوةً وشفاءً، وكذلك المؤمن لا يأكل إلا طيباً ولو صبر على مر العيش، فإن أكله حلال، فيكون بعيد الوقوع في الحرام والشبهات لا تهوى نفسه هذا الحرام، ولو كان له جمال في الظاهر، فإنه في الباطن مرٌ كالعلقم، فإن الحرام أمرّ من العلقم، وكذلك المؤمن صلح باطنه وظاهره، أفعاله طيبة، وأخلاقه طيبة، وأعماله صالحة، ولا يمكن أن تكون الأعمال الصالحة إلا بعد طيب الغذاء، وبقدر حِلّ الغذاء تنمو أعماله وتزكو، كما أن النحلة يعذب عسلها، ويحلو فكذلك عمل المؤمن نابع من كسبه الحلال.

 

النحلة مطيعة لأميرها في كل شيء بنظام، ودقة عجيبة، ولذلك كان من نتاج هذه الطاعة، هذا الطعام الحلو اللذيذ النافع، والمؤمن في تعاونه مع المؤمنين وبانقياده بالمعروف، والطاعة لأميره، فإنه يثمر حسن النتاج، وهو يدافع عن عرين الإسلام ضد الأعداء كما تدافع النحلة عن عرينها وعن خليتها أشد المدافعة، وكذلك المؤمن يدافع عن عرين الدين، ويلسع كل من أراد أن يُقْدِم على هدم الإسلام بشبهة، أو بقوة، فيدفعه المؤمن بقوة إيمانه، وقوة جسده، ويستعمل أنواع القوى في دفع الأذى عن الدين وأهله.

 

إن النحلة، وهي تدافع عن خليتها تلسع من يحاول الاقتراب منه، وهي في لسعها تشعر بالألم، وقد تفقد حياتها في سبيل الحفاظ على عرينها.

 

والمؤمن في هذه الحياة، وهو يدافع عن دينه ضد خصوم الشريعة، وأعداء الملة، يشعر بالألم، وقد يفقد حياته في سبيل دينه: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ)[البلد: 4].

 

(يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ)[الإنشقاق: 6].

 

فيا أيها المؤمن: لا بد لك من الألم في هذه الحياة، ولا يمكن أن تستمر الحياة بدون ألم، والله بحكمته وعدله ركب الألم في الإنسان، وهو العليم الخبير، ليسعى العباد في تحصيل منافعهم الدنيوية والأخروية، فالألم ليس مذموماً دائماً فقد يكون هذا الألم خيراً للعبد من عدمه. فالدعاء الحار المستجاب -بإذن الله- يأتي مع الألم، والتسبيح الصادق يصاحبه الألم، وحمل النفس على طاعة الله، والصبر على أدوائها، يكون معه ألم، والصبر عن ارتكاب المعاصي واجتنابها، والصبر على الأقدار أن لا يتسخطها، كل ذلك يكون مع الألم.

 

وتأمل الطالب حال التحصيل، فحمله لأعباء الطلب يثمر عالماً فذاً؛ لأنه احترق في البداية، فأشرق في النهاية، أما الطالب الذي عاش حياة الراحة والدعة، ولم تنضجه الأزمات، ولم تكوه الملمات، فهذا الطالب يبقى كسولاً مترهلاً فاتراً، فكمال النهايات يكون بألم ومشقة في البدايات.

 

وأسمى من ذلك وأرفع، حياة المؤمنين الأولين الذين عاشوا فجر الرسالة ومولد الملة، فإنهم أعظم إيماناً، وأبر قلوباً، وأصدق لهجة، وأعمق علماً؛ لأنهم عاشوا الألم والمعاناة، ألم الجوع والفقر والتشريد، وألم الأذى والطرد والإبعاد، وألم فراق المألوفات، وهجر المرغوبات، وألم الجراح والقتل والتعذيب، كل ذلك في سبيل الله، فكانوا بحق، الصفوة الصافية والفرقة الناجية، آيات في الطهر، وأعلاماً في النبل، ورموزاً في التضحية، قال الله -تعالى-: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)[التوبة: 120].

 

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ خَافَ أَدْلَجَ، وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ الْمَنْزِلَ، أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ، أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ"[رواه الترمذي].

 

فأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الخائف المسرع في مرضاة الله هو المحصّل لجنة الله الغالية، خلافاً لغيره.

 

وجاء رجل إلى الإمام أحمد -رحمه الله- فقال له: "متى الراحة؟ قال: عند أول قدم نضعها في الجنة".

 

كيف هُدمت قلاع الشرك؟ وكيف قُوضت دولة الكفر في فجر الدعوة؟ كيف انتشر الإسلام وعمت ربوعه على نواحٍ كثيرة من الأرض في فترة وجيزة من عمر التاريخ؟

 

كل ذلك وغيره لم يحصل إلا بشيء من التضحية والمعاناة والألم، لذلك كان الألم نعمة من نعم الله على العباد، وحافزاً لهم لابتغاء مرضاته، والعبد إن يعش مشبوب الفؤاد، ملذوع النفس، أرق له وأصفى من أن يعيش بارد المشاعر، فاتر الهمة، خامل النفس، كما قال الله تعالى عن المنافقين: (وَلَكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ)[التوبة: 46].

 

إنك -يا عبد الله- مخير بين أن تسلك أسباب التوفيق، أو أن تسلك أسباب الخذلان، وكلاهما من خلق الله، فأسباب التوفيق منه، ومن فضله، وهو الخالق لهذه وهذه، كما خلق أجزاء الأرض، هذه قابلة للنبات، وهذه غير قابلة له، وخلق جل وتعالى الشجر، هذه تقبل الثمرة، وهذه لا تقبلها.

 

وخلق النحلة قابلة؛ لئن يَخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه، وخلق الزنبور غير قابل لذلك.

 

وخلق الأرواح الطيبة قابلة لذكره وشكره وإجلاله وتعظيمه وتوحيده، ونصيحة عباده، وخلق الأرواح الخبيثة غير قابلة لذلك، بل لضده، وهو الحكيم العليم.

 

فاختر -يا عبد الله- لنفسك ما تشاء.

 

نسأل الله –تعالى- أن نكون مفاتيح للخير، مغاليق للشر.

 

بارك الله لي ولكم ...

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله على إحسانه ...

 

أما بعد:

 

من أعظم نتاج النحل هذا العسل، ومن أعظم نتاج المؤمن العمل الصالح، فكن -يا عبد الله- كالنحلة تلقُط خيرًا، وتلقي شهدًا، قال الله -تعالى- عن نتاج النحل: (يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ)[النحل: 69].

 

وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن رجلاً جاء إلى رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا رسول الله إن أخي استطلق بطنه؟ فقال: "اسقه عسلاً" فذهب فسقاه عسلاً، ثم جاء، فقال: يا رسول اللّه سقيته عسلاً فما زاده إلا استطلاقاً؟ قال: "اذهب فاسقه عسلاً" فذهب فسقاه عسلاً، ثم جاء، فقال: يا رسول اللّه ما زاده إلا استطلاقاً، فقال رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم-: "صدق اللّه، وكذب بطن أخيك، اذهب فاسقه عسلاً، فذهب فسقاه عسلاً فبرئ" [أخرجه البخاري ومسلم].

 

وفي الصحيحين عن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم- كان يعجبه الحلواء والعسل.

 

وفي صحيح البخاري عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم-: "الشفاء في ثلاثة: في شرطة محجم، أو شربة عسل، أو كية بنار، وأنهى أمتي عن الكي".

 

إن الشفاء الحاصل من العسل حُرمه كثير من الناس، ولا ريب أن العسل شفاء كما أن القرآن شفاء، ولم يصف الله في كتابه بالشفاء إلا القرآن والعسل، فهما الشفاءان، هذا شفاء القلوب من أمراض غيها وضلالها وأدواء شبهاتها وشهواتها، وهذا شفاء للأبدان من كثير من أسقامها وأخلاطها وآفاتها.

 

والمحروم من حرمه الله، فهذا كتاب الله هو الشفاء النافع، وهو أعظم الشفاء، لكن ما أقل المستشفين به، بل لا يزيد الطبائع الرديئة إلا رداءة، ولا يزيد الظالمين إلا خساراً، وفي المقابل كم عوفي به من مريض، وكم قام مقام كثير من الأدوية التي لا تبلغ قريباً من مبلغه في الشفاء، ونحن نرى كثيراً من الناس، بل أكثرهم، لا نصيب لهم من الشفاء بذلك أصلاً، قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ)[يونس: 57].

 

فكثير من الناس يُحرم خير منافع كثيرة تكون حوله، وقريبة منه، والسبب أنه لا يهيأ نفسه للاستفادة من هذا الخير، فكما أن العسل شفاء، وقد نص الله على ذلك، لكن يَحرم نفسه من هذا الشفاء كثير من الناس، فكذلك كثير من المنافع تكون مبثوثة حول الإنسان ويَحرم نفسه خيرها ونفعها، وإلا فهذه الدروس والمحاضرات، كم عدد المستفيدين منها؟ وهذه الدعوة تسير قافلتها فكم عدد الملتحقين بها؟ وهذه أبواب مساعدة الفقراء والأيتام، وبذل الصدقات للمحتاجين، كم نسبة المشاركين فيها؟

 

نسمع يومياً بعشرات المنكرات حولنا، فيما نرى ونسمع ونقرأ، فأين هم المنكرين لها؟

 

أبواب الخير من تفقد الجيران، وصلة الأرحام، والسؤال عن الأقارب والأصحاب، كم من المسلمين يتفاعل معها؟

 

وهذه مآسي الأمة وجراحاتها تحتاج إلى بذل المسلمين من أجلها، فكم عدد المتألمين لواقع أمتهم؟ وكم هم الذين نالوا أجر المساهمة في تضميد جرح من جراحاتها؟

 

فيا عبد الله: لقد شبهك النبي -صلى الله عليه وسلم- بالنحلة، فلا تحرم نفسك خير هذا التشبيه، وكن عنصراً فعالاً تفيد وتستفيد.

 

اللهم ...

 

 

المرفقات
إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات