الموالاة للمؤمنين وخفض الجناح لهم

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2023-06-16 - 1444/11/27 2023-07-26 - 1445/01/08
عناصر الخطبة
1/مفهوم الولاء للمؤمنين ومنزلته في الإسلام 2/مظاهر الولاء وخفض الجناح للمؤمنين 3/أثر موالاة المؤمنين على الفرد والمجتمع 4/نماذج من موالاة المؤمنين.

اقتباس

كَانَ الْعَرَبُ أَشَدَّ النَّاسِ احْتِفَاءً بِالْعَصَبِيَّةِ الْقَبَلِيَّةِ، وَأَشَدَّ احْتِمَاءً بِالْأَهْلِ وَالْعَشِيرَةِ؛ حَيْثُ تَصِلُهُمْ بِبَعْضِ رَوَابِطَ قَوِيَّةٍ، وَوَشَائِجَ مَتِينَةٍ؛ فَجَاءَ مُحَمَّدٌ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- بِدِينٍ دَخَلَ فِيهِ الِابْنُ دُونَ أَبِيهِ، وَاعْتَنَقَهُ الْوَالِدُ وَابْتَعَدَ عَنْهُ الْوَلَدُ، وَارْتَضَاهُ الْعَبْدُ، وَاسْتَنْكَفَ عَنْهُ السَّيِّدُ، فَقَامَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- بِجُهْدٍ عَظِيمٍ فِي...

الْخُطْبَةُ الْأُولَى:

 

إِنَّ الْحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71]، أَمَّا بَعْدُ:

 

عِبَادَ اللهِ: كَانَ الْعَرَبُ أَشَدَّ النَّاسِ احْتِفَاءً بِالْعَصَبِيَّةِ الْقَبَلِيَّةِ، وَأَشَدَّ احْتِمَاءً بِالْأَهْلِ وَالْعَشِيرَةِ؛ حَيْثُ تَصِلُهُمْ بِبَعْضِ رَوَابِطَ قَوِيَّةٍ، وَوَشَائِجَ مَتِينَةٍ؛ فَجَاءَ مُحَمَّدٌ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- بِدِينٍ دَخَلَ فِيهِ الِابْنُ دُونَ أَبِيهِ، وَاعْتَنَقَهُ الْوَالِدُ وَابْتَعَدَ عَنْهُ الْوَلَدُ، وَارْتَضَاهُ الْعَبْدُ، وَاسْتَنْكَفَ عَنْهُ السَّيِّدُ، فَقَامَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- بِجُهْدٍ عَظِيمٍ فِي تَرْبِيَةِ مَنِ ارْتَضَى دِينَهُ، وَاتَّبَعَ رِسَالَتَهُ؛ فَأَخَذَهُمْ بِالْأَحْدَاثِ وَالْوَقَائِعِ تَارَةً، وَبِالْآيَاتِ وَالْوَحْيِ تَارَةً أُخْرَى؛ كَقَوْلِهِ –تَعَالَى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)[التوبة: 24]، فَرَبَّاهُمْ عَلَى أَصْلٍ عَظِيمٍ مِنْ أُصُولِ هَذَا الدِّينِ، وَرَكِيزَةٍ مُهِمَّةٍ مِنْ رَكَائِزِهِ، وَهِيَ: مُوَالَاةُ الْمُؤْمِنِينَ وَمَحَبَّتُهُمْ، وَجَعْلُ أُخُوَّةِ الدِّينِ أَوْلَى مِنْ أُخُوَّةِ النَّسَبِ، فَاسْتَقَامَتْ لَهُ تِلْكَ الْجَمَاعَةُ الْمُؤْمِنَةُ، وَضَرَبَتْ أَرْوَعَ الْأَمْثِلَةِ فِي الِاسْتِجَابَةِ لِهَذَا الْأَصْلِ الْعَظِيمِ.

 

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: إِنَّ الْوَلَاءَ مَعْنَاهُ: الْمَحَبَّةُ وَالنُّصْرَةُ وَالْإِكْرَامُ لِلْمُؤْمِنِينَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا. وَهُوَ مِنْ أَجَلِّ الْعِبَادَاتِ، بَلْ هُوَ عَقْدٌ صَاغَهُ اللهُ، وَبَيَّنَ بُنُودَهُ وَحَدَّ حُدُودَهُ، فَقَالَ –سُبْحَانَهُ-: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)[المائدة:55]، فَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا تَقِيًّا كَانَ للهِ وَلِيًّا. وَأَصْلُ الْإِيمَانِ الْمُوَالَاةُ وَالْمُعَادَاةُ فِي اللهِ، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ أَرْكَانِ الدِّينِ، وَأَوْثَقِ عُرَى الْإِيمَانِ؛ فَفِي الْحَدِيثِ: "إِنَّ أَوْثَقَ عُرَى الْإِيمَانِ: أَنْ تُحِبَّ فِي اللهِ، وَتُبْغِضَ فِي اللهِ"[رواه أحمد، وحسنه الألباني].

 

وَلَا يَصِلُ الْعَبْدُ إِلَى كَمَالِ الْإِيمَانِ إِلَّا بِهَذَا الْأَمْرِ؛ فَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنْ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ أَحَبَّ لِلَّهِ، وَأَبْغَضَ لِلَّهِ، وَأَعْطَى لِلَّهِ، وَمَنَعَ لِلَّهِ، فَقَدِ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ"[رواه أبو داود، وصححه الألباني].

 

عِبَادَ اللهِ: وَالْوَلَاءُ لِلْمُؤْمِنِينَ لَيْسَ شِعَارًا لَا حَقِيقَةَ لَهُ، وَلَا كَلَامًا لَا وَاقِعَ لَهُ، وَإِنَّمَا لَهُ مَظَاهِرُ يَتَحَلَّى بِهَا، وَعَلَامَاتٌ تَدُلُّ عَلَيْهِ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ جِدًّا، جَمَعَهَا اللهُ -تَعَالَى- فِي قَوْلِهِ: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)[الحجرات:10]، وَلَخَّصَهَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي كَلِمَاتٍ؛ فَقَالَ: "لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ"[متفق عليه].

 

وَمِنْ هَذِهِ الْمَظَاهِرِ: خَفْضُ الْجَنَاحِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَحُسْنُ الْخُلُقِ مَعَهُمْ، فَهُمُ الْمَوْصُوفُونَ بِقَوْلِهِ –تَعَالَى-: (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ)[المائدة: 54]، يَعْطِفُونَ عَلَى ضَعِيفِهِمْ، وَيُعِينُونَ مُحْتَاجَهُمْ، وَيَقِفُونَ مَعَ ذِي الْحَاجَةِ مِنْهُمْ.

 

وَمِنْهَا: التَّنَاصُرُ وَالتَّعَاوُنُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ أَيْنَمَا كَانُوا؛ قَالَ اللهُ –تَعَالَى-: (وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ)[الأنفال: 72]، وَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا"[رواه البخاري]، كَمَا أَنَّ الْمُوَالَاةَ تَقْتَضِي -أَيْضًا- مُعَاوَنَتَهُمْ إِذَا احْتَاجُوا، وَالْوُقُوفَ مَعَهُمْ إِذَا حَاقَ بِهِمُ الضَّيْمُ، وَلَحِقَ بِهِمُ الضَّرَرُ؛ فَلَا يُسْلِمُ الْمُؤْمِنُ أَخَاهُ لِعَدُوٍّ يَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُ، وَلَا يَخْذُلُهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ؛ فَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: أَنَّ رَسُولَ اللهِ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ القِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ"[متفق عليه].

 

وَمِنْ مَظَاهِرِ وِلَايَةِ الْمُؤْمِنِينَ: التَّنَاصُحُ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَأَمْرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيُهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَلَا يَحِقُّ لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَرَى أَخَاهُ يَتَنَكَّبُ الطَّرِيقَ وَلَا يَأْخُذُ بِيَدِهِ، أَوْ يَبْتَعِدُ عَنِ الْحَقِّ وَلَا يُعِيدُهُ إِلَيْهِ، أَوْ يُخْطِئُ وَلَا يُصَوِّبُهُ، وَاللهُ –تَعَالَى- يَقُولُ: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[التوبة:71]، وَكَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُبَايِعُ أَصْحَابَهُ بِقَوْلِهِ: "أُبَايِعُكَ عَلَى أَلَا تُشْرِكَ بِاللَّهِ شَيْئًا، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَنْصَحَ الْمُسْلِمَ، وَتُفَارِقَ الْمُشْرِكَ"[رواه أحمد، وصححه شعيب الأرنؤوط].

 

وَمِنَ الْمَظَاهِرِ: التَّأَلُّمُ لِمَا أَصَابَهُمْ مِنْ أَتْرَاحٍ، وَمُشَارَكَتُهُمْ بِمَا حَصَلَ لَهُمْ مِنْ أَفْرَاحٍ؛ فَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى"[رواه مسلم]. وَقَدْ أَحْسَنَ مَنْ قَالَ:

إِذَا اشْتَكَى مُسْلِمٌ فِي الصِّينِ أَرَّقَنِي***وَإِنْ بَكَى مُسْلِمٌ فِي الْهِنْدِ أَبْكَانِي

شَرِيعَةُ اللهِ لَمَّتْ شَمْلَنا وَبَنَتْ***لَنَا مَعَالِمَ إِحْسَـانٍ وَإِيمَانِ

وَحَيْثُمَا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ فِي بَلَدٍ***عَدَدْتُ أرْجَاءَهُ مِنْ لُبِّ أَوْطَانِي

 

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: لَمَّا نَالَتِ الْمُوَالَاةُ لِلْمُؤْمِنِينَ هَذِهِ الْمَنْزِلَةُ، كَانَ لَا بُدَّ أَنْ تُؤْتِي أُكُلَهَا، وَيَحْصُدُ أَهْلُهَا ثَمَرَتَهَا، وَيَجِدُونَ أَثَرَهَا، وَمِنْ ذَلِكَ:

أَنَّ مَنْ تَوَلَّى اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَقَدْ حَقَّقَ الْإِيمَانَ، وَأَمِنَ مِنَ الْفِتَنِ فِي زَمَنٍ تَمُوجُ فِيهِ بِأَصْحَابِهَا، وَحَصَلَ عَلَى الْمَغْفِرَةِ وَالرِّزْقِ الْكَثِيرِ، كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ مَوْلَانَا بِقَوْلِهِ: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)[الأنفال:73، 74].

 

كَمَا أَنَّ مَنْ يُوَالِي الْمُؤْمِنِينَ: يَنْجُو مِنْ سَخَطِ اللهِ فِي الدُّنْيَا، وَيَأْمَنُ مِنْ عَذَابِهِ فِي الْآخِرَةِ؛ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: (تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ)[المائدة:80]، فَإِذَا كَانَ مَنْ يُوَالِي أَعْدَاءَ اللهِ يَسْخَطُ اللهُ عَلَيْهِ، فَإِنَّ مَنْ يُوَالِي أَوْلِيَاءَهُ يَحْظَى بِرِضَا رَبِّهِ، وَيَحْصُلُ عَلَى النِّعَمِ، وَتَأْتِيهِ الْخَيْرَاتُ فِي الدُّنْيَا، وَالثَّنَاءُ الْحَسَنُ فِي الدَّارَيْنِ، وَلَا أَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ حَالِ الْخَلِيلِ –عَلَيْهِ السَّلَامُ-، حِينَ ارْتَضَى بِوِلَايَةِ اللهِ –تَعَالى-، وَتَبَرَّأَ مِنَ الشِّرْكِ وَأَهْلِهِ، وَاعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ؛ فَعَوَّضَهُ اللهُ بِالْهِبَاتِ وَالْعَطَايَا الْجَزِيلَةِ، قَالَ تَعَالَى: (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا)[مريم:50].

 

وَوَعَدَ اللهُ –تَعَالَى- أَوْلِيَاءَهُ: بِالنَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ، وَالْغَلَبَةِ عَلَى الْعَدُوِّ، فَقَالَ: (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) [المائدة:56].

 

فَمَنْ رَامَ النَّصْرَ وَالْغَلَبَةَ فَلْيَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا؛ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ صَارَ مِنْ حِزْبِ الشَّيْطَانِ، وَقَدْ قَالَ اللهُ عَنِ الشَّيْطَانِ وَحِزْبِهِ: (أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ)[المجادلة:19].

 

بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ..

 

 

الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

 

الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، أَمَّا بَعْدُ:

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: لَقَدْ زَرَعَ النَّبِيُّ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْوَلَاءَ فِي نُفُوسِ الْمُؤْمِنِينَ بِيَدِهِ، وَغَذَّاهُمْ بِهِ فِي سَائِرِ حَيَاتِهِ؛ فَجَعَلَهُ مِنْ أَوْلَوِيَّاتِ دَعْوَتِهِ، فَحِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ كَانَ أَوَّلَ مَا ابْتَدَأَ بِهِ أَنْ بَنَى الْمَسْجِدَ، ثُمَّ عَمِلَ عَلَى الْمُؤَاخَاةِ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَكَانَ الْمُهَاجِرِيُّ يَتْرُكُ دَارَهُ وَمَالَهُ وَأَهْلَهُ، وَيَسْتَقْبِلُهُ الْأَنْصَارِيُّ بِالدَّارِ وَالْمَالِ وَالْأَهْلِ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يَفْقِدْ شَيْئًا؛ فَفَاحَتْ رِيحَةُ هَذِهِ الْأُخُوَّةِ الطَّيِّبَةِ، وَظَهَرَتْ فَائِدَةُ هَذَا الْجُهْدِ الْمُبَارَكِ، فَحِينَ آخَى رَسُولُ اللهِ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَسَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ الْأَنْصَارِيِّ، كَانَ سَعْدٌ ذَا غِنًى، فَقَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ: "قَدْ عَلِمَتِ الأَنْصَارُ أَنِّي مِنْ أَكْثَرِهَا مَالًا، سَأَقْسِمُ مَالِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ شَطْرَيْنِ، وَلِيَ امْرَأَتَانِ فَانْظُرْ أَعْجَبَهُمَا إِلَيْكَ فَأُطَلِّقُهَا، حَتَّى إِذَا حَلَّتْ تَزَوَّجْتَهَا، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ، دُلَّنِي عَلَى السُّوقِ"[رواه البخاري]، أَسَمِعْتُمْ فِي حَيَاتِكُمْ أَخْلَاقًا كَهَذِهِ؟! هَلْ مَرَّتْ بِأَيَّامِكُمْ أُخُوَّةٌ مِثْلُ هَذِهِ؟! إِنَّهَا تَرْبِيَةُ مُحَمَّدٍ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-.

 

وَفِي مَوْقِفٍ آخَرَ: يَحْكِي سَعِيدُ بْنُ عَامِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مَا رَآهُ فِي مَكَّةَ حِينَ كَانَ مُشْرِكًا، فَيَقُولُ: "شَهِدْتُ مَصْرَعَ خُبَيْبٍ الْأَنْصَارِيِّ بِمَكَّةَ وَقَدْ بَضَّعَتْ قُرَيْشٌ لَحْمَهُ، ثُمَّ حَمَلُوهُ عَلَى جَذَعَةٍ، فَقَالُوا: أَتُحِبُّ أَنَّ مُحَمَّدًا مَكَانَكَ؟ فَقَالَ: وَاللهِ مَا أُحِبُّ أَنِّي فِي أَهْلِي وَوَلَدِي وَأَنَّ مُحَمَّدًا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شِيكَ بِشَوْكَةٍ، ثُمَّ نَادَى: يَا مُحَمَّدُ!" يَقُولُ سَعِيدُ: "فَمَا ذَكَرْتُ ذَلِكَ، وَتَرْكِي نُصْرَتَهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ، وَأَنَا مُشْرِكٌ لَا أُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ إِلَّا ظَنَنْتُ أَنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ لِي بِذَلِكَ الذَّنْبِ أَبَدًا"[حلية الأولياء]، فَلَا أَدْرِي أَنَعْجَبُ مِنْ وَلَاءِ خُبَيْبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لِرَسُولِ اللهِ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، أَمْ نَعْجَبُ مِنْ وَلَاءِ سَعِيدِ بْنِ عَامِرٍ لِخُبَيْبٍ، وَتَحَسُّرِهِ عَلَى عَدَمِ نُصْرَتِهِ؟!

 

بَلْ وَصَلَ الْحَالُ بِهِمْ إِلَى مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ؛ فَقَدْ كَانَتْ وِلَايَةُ الْمُؤْمِنِينَ لِبَعْضِهِمْ تَفُوقُ وِلَايَةَ النَّسَبِ وَالْقَرَابَةِ؛ فَحِينَ قَالَ رَأْسُ الْمُنَافِقِينَ ابْنُ أُبَيٍّ فِي رَسُولِ اللهِ: أَمَا وَاللهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ. فَدَعَا –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِابْنِهِ عَبْدِ اللهِ وَكَانَ مُؤْمِنًا، فَقَالَ لَهُ: أَلَا تَرَى مَا يَقُولُ أَبُوكَ؟ قَالَ: وَمَا يَقُولُ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي؟ فَأَخْبَرَهُ بِمَا قَالَ، فَقَالَ: قَدْ صَدَقَ وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، أَنْتَ وَاللهِ الْأَعَزُّ وَهُوَ الْأَذَلُّ، أَمَا وَاللهِ لَقَدْ قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ وَإِنَّ أَهْلَهَا لَيَعْلَمُونَ مَا فِيهَا أَحَدٌ أَبَرَّ لِأَبِيهِ مِنِّي، وَلَئِنْ كَانَ يُرْضِي اللهَ وَرَسُولَهُ أَنْ آتِيَهُمَا بِرَأْسِهِ لَآتَيْتُهُمَا بِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لَا. فَلَمَّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ، قَامَ الِابْنُ عَلَى بَابِهَا بِالسَّيْفِ، وَقَالَ لِأَبِيهِ: أَنْتَ الْقَائِلُ: لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ؟ أَمَا –وَاللهِ- لَتَعْرِفَنَّ: الْعِزَّةُ لَكَ أَوْ لِرَسُولِ اللهِ، وَاللهِ لَا يَأْوِيكَ ظِلُّ الْمَدِينَةِ إِلَّا بِإِذْنٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ؛ فَقَالَ الْأَبُ: يَا لَلْخَزْرَجِ! ابْنِي يَمْنَعُنِي بَيْتِي، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ رِجَالٌ فَكَلَّمُوهُ، فَقَالَ: وَاللهِ لَا يَدْخُلُهَا إِلَّا بِإِذْنٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ، فَأَتَوُا النَّبِيَّ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَخْبَرُوهُ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُخْلِيَ سَبِيلَهُ، فَقَالَ: أَمَّا إِذَا جَاءَ أَمْرُ النَّبِيِّ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَنَعَمْ، لَكِنْ –وَاللهِ- لَا تَنْقَلِبُ حَتَّى تُقِرَّ أَنَّكَ الذَّلِيلُ، وَرَسُولَ اللهِ هُوَ الْعَزِيزُ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَأَذِنَ لَهُ.

 

هَكَذَا صَاغَ الْوَلَاءُ شَخْصِيَّاتِهِمْ، فَكَانُوا شَامَةً فِي جَبِينِ التَّارِيخِ، وَغُرَّةً فِي هَامَةِ الْأَيَّامِ، وَاسْتَحَقُّوا تَخْلِيدَ ذِكْرِهِمْ، وَتَسْطِيرَ مَوَاقِفِهِمْ.

 

اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْ أَوْلِيَائِكِ وَخَاصَّتِكَ، وَاجْعَلْ مَحَبَّتَنَا فِيكَ وَلِأَجْلِكَ، وَاحْشُرْنَا فِي زُمْرَةِ أَحْبَابِكَ وَأَهْلِ مَوَدَّتِكَ، يَا أَكْرَمَ الْأَكْرَمِينَ.

 

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى مَنْ أُمِرْتُمْ بِالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ.

المرفقات

الموالاة للمؤمنين وخفض الجناح لهم.doc

الموالاة للمؤمنين وخفض الجناح لهم.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات