عناصر الخطبة
1/ منزلةُ تمنّي الخير للآخرين 2/ أمر الإسلام بحب الخير وفعله وتمنيه للآخرين 3/ الهدي النبوي الكريم في تمني الخير للآخرين 4/ هدي السلف الصالح في ذلك 5/ ثمرات حب الخير للآخريناقتباس
إذا تمنى الإنسان الخير لمن حوله وتمنى أن يكونوا سعداء فستتضاعف سعادته، ولكن إذا وزع الأسى عليهم وتمنى الشر لهم فسيزداد حزنه؛ ذلك أن الناس -في الغالب- ينسون ما تقول وما تفعل، ولكنهم لن ينسوا أبداً الشعور الذي أصابهم من قِبلك، فاجعلهم يشعرون بالسعادة لتسعد وتربح.
الخطبة الأولى:
الحمدُ لله الذي بنعمته اهتدى المهتدون، وبعدله ضل الضَّالون، لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وسبحان الله رب العرش عما يصفون، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله ذو المقام الموهوب، من أطاعه فقد أطاع الله، ومن عصاه ففي النار مكبوب، صاحب الشفاعة العظمى، وله المقام الأسمى، واسمه على أبواب الجنة مكتوب.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه عدد الرمال والحصى، وكلما أطاعه عبد أو عصى، ونوّر بصلاتنا عليه بصائرنا والقلوب.
أما بعد: عبــاد الله، إن من أعظم توجيهات دين الإسلام لحياة الناس وعلاقاتهم مع بعضهم البعض أن دعاهم إلى التعاطف والتراحم والتعاون، والتناصح والتواصي على الحق، وبذل المعروف وكف الأذى، والإيثار وقضاء الحوائج ومساعدة الآخرين، في كل الظروف والأحوال، وحسب القدرة والاستطاعة، ورتب على ذلك الأجر والثواب في الدنيا والآخرة.
وإذا لم يستطع أن يقدم من ذلك شيئا فعليه -على الأقل- أن يتمنى لمن حوله الخير والفلاح والنجاح، وهذه عبادة من عبادات القلوب، وصفة من صفات السعداء، وسجية من سجايا العظماء؛ فقلوب هؤلاء لا تحمل إلا الحب، ولا تتمنى إلا الخير.
قال الله -تعالى- يصف حال طائفة منهم: (وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر:9-10]، وقال -تعالى-: (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) [محمد:19]، وقال -تعالى-: إخبارًا عن إبراهيم -عليه السلام-: (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) [إبراهيم:41].
وكان الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- يوصي أصحابه وأمّته مِن بعده بحب الخير، وتمنيه للآخرين، وجَعَلَ هذه العبادة وهذه الخصلة من خصال الإيمان، وعلامةً لحقيقة الإسلام في النفوس، فقال -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه يوماً: "مَن يأخذ عني هؤلاء الكلمات فيعمل بهن أو يعلم من يعمل بهن؟"، قال أبو هريرة، فقلت: أنا يا رسول الله، فأخذ بيدي فعَدَّ خمسا فقال: "اتق المحارم تكن أعبد الناس، وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس، وأحسن إلى جارك تكن مؤمنا، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مسلما، ولا تكثر الضحك؛ فإن كثرة الضحك تميت القلب" السلسلة الصحيحة.
لقد كان -صلى الله عليه وسلم- قدوة في توجيهات وسلوكياته وأخلاقه، وفي هذه العبادة كان السابق إليها فجسدها سلوكاً في الحياة، وتعامل بها مع من حوله، ورغم ما ناله من الأذى والصد والتكذيب إلا أنه كان يدعوهم، وينصح لهم، ويتمنى لهم الخير.
عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت للنبي -صلى الله عليه وسلم-: هل أتى عليك يوم أشد من يوم أحد؟ قال: "لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال، لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال، فسلم علي، ثم قال: يا محمد، فقال: ذلك فيما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا" رواه البخاري.
وعندما علم -صلى الله عليه وسلم- أن غلاماً يهودياً كان يخدمه على فراش الموت خرج مسرعاً يجر رداءه إلى بيت ذلك الغلام يَعُودُهُ، فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقَالَ لَهُ: "أَسْلِمْ!"، فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَهُ، فَقَالَ لَهُ: "أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ"، فَأَسْلَمَ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ يَقُولُ: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنْ النَّارِ" رواه البخاري.
يا لها من كلمة عظيمة تنبئ عن نفس عظيمة تحب الخير وتتمناه لغيرها، وتحتسب عند الله هذا السلوك، وتترفع عن نوازع الحقد والحسد والبغضاء والانتقام وحب الذات.
أيها المؤمنون عبــاد الله: عندما يضعف الإيمان وتسوء الأخلاق وينعدم الضمير فستجد صورة مغايرة للأفراد والمجتمعات، فتظهر الأنانية وينتشر بين الناس الكثير من الأمراض مثل الحقد والحسد والبغضاء والغيبة والنميمة وتمني الشر والأذى لغيرهم ولمن حولهم بسبب أو بدون سبب، فهذا يتمني المرض أو الفقر أو الخسارة وعدم السداد والتوفيق لجاره أو إخوانه، وهذا يتمنى حصول المشاكل وقيام الحروب وشيوع الخلافات للناس والأسر والمجتمعات من حوله، وغير ذلك، وهذه من أبرز أوصاف المنافقين والمنافقات والتي تتمثل في تمني الضرر والمشقة للمؤمنين، والحزن لما يصيب المسلمين من الخير والفرح لما يسوؤهم.
قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * هَا أَنْتُمْ أُولاَءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) [آلِ عِمْرَانَ:118-120].
وقد بين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأن الإمساك عن الشر صدقة... فعن أبي موسى -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "على كل مسلم صدقة"، قيل: أرأيت إن لم يجد؟ قال: "يعمل بيديه فينفع نفسه ويتصدق"، قيل: أرأيت إن لم يستطع؟ قال: "يعين ذا الحاجة الملهوف"، قيل: أرأيت إن لم يستطع؟ قال: "يأمر بالمعروف أو الخير"، قال: أرأيت إن لم يفعل؟ قال: "يمسك عن الشر؛ فإنها صدقة" متفق عليه. فمجرد إمساكه عن الشر، ومنعه الحسد، يكون صدقة على نفسه. وفي حديث آخر: قال: فإن لم أفعل؟ قال: "فدع الناس من الشر، فإنها صدقة تصدق بها على نفسك"، وفي رواية: "تتصدق بها عن نفسك"، وهذا أيضاً متفق عليه.
عبـاد الله: إذا تمنى الإنسان الخير لمن حوله وتمنى أن يكونوا سعداء فستتضاعف سعادته، ولكن إذا وزع الأسى عليهم وتمنى الشر لهم فسيزداد حزنه؛ ذلك أن الناس -في الغالب- ينسون ما تقول وما تفعل، ولكنهم لن ينسوا أبداً الشعور الذي أصابهم من قِبلك، فاجعلهم يشعرون بالسعادة لتسعد وتربح.
اعتاد أحد المزارعين الحصول على جائزة كلما شارك بمسابقة الذُّرة السنوية، وفي أحد الأيام قابله صحفي وناقشه في أسباب فوزه كل عام. علم الصحفي أن المزارع يتبادل بذور الذرة مع جيرانه, فسأله: كيف تعطي بذرك الجيد لجيرانك وأنت تعلم أنهم ينافسوك بالمسابقة؟ رد المزارع: ألا تعلم -يا سيدي- أن الريح تأخذ بذور اللقاح وتلقي بها من حقل إلى آخر؟ فعندما يزرع جيراني بذورا رديئة, ستنتشر بذور اللقاح المتناثرة على محصولي, فإذا كنت أريد محصولا جيدا فلا بد أن أعطي جيراني أفضل أنواع البذور.
هذا المزارع يدرك جيدا كيف تتفاعل الأشياء مع الحياة، فهو لا يستطيع أن ينتج محصولا جيدا إلا إذا عاون جيرانه على إنتاج محصول جيد، فلا تبخل في تمني الخير للآخرين، فإن غناهم لن ينقصك من رزقك شيئا، وإن صحتهم وعافيتهم لن تأخذ من صحتك شيئا، وتمني طلب البركة لهم في الأهل والولد والعمل لن يقلل من بركة حياتك شيئا؛ لكن، كن على يقين أن طلبك الخير للغير سيزيدك ولن ينقصك، ستكون كبيرا وعظيما في نفسك وأمام الآخرين، كما يكفيك شرفا أنك ستكون عظيما أمام ربك في قناعتك ويقينك به.
اللهم زكِّ نفوسنا أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها. قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخطـبة الثانية:
عبـاد الله: إنَّ سلامةَ الصدورِ مِنَ الأغلالِ نعمةٌ مِنَ اللهِ صاحبِ العظمةِ والجلالِ، ويكفي هذهِ النعمةَ شَرفاً وسُمُوَّ مَنْزِلَةٍ أنَّها مِنْ نعيمِ أهلِ الجَنَّةِ؛ لأنَّ الفشلَ لا يتناسبُ مع دارِ النعيمِ والعزِ والتكريم، يقولُ اللهُ -تعالى-: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ) [الأعراف:42-43]، ويقولُ -جلَّ شأنُه-: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ) [الحجر:47].
كان معروف الكرخي جالسا يوما على نهر دجلة ببغداد، فمر به صبيان في زورق يضربون بالملاهي ويشربون، فقال له أصحابه: أما ترى هؤلاء يعصون الله -تعالى- على هذا الماء؟ ادع عليهم. فرفع يديه إلى السماء وقال: الهي وسيدي، كما فرحتهم في الدنيا أسألك أن تفرحهم في الآخرة. فقال له صاحبه: إنما سألناك أن تدعو عليهم ولم نقل ادع لهم! فقال: إذا فرحهم في الآخرة تاب عليهم في الدنيا، ولم يضركم هذا.
وشتم رجل ابن عباس، فقال له: "إنك لتشتمني وفيّ ثلاث خصال: إني لآتي على الآية في كتاب الله فلوددت أن جميع الناس يعلمون منها ما أعلم، وإني لأسمع بالحاكم من حكام المسلمين يعدل في حكمه فأفرح به، ولعلي لا أقاضي إليه أبداً، وإني لأسمع أن الغيث قد أصاب بلداً من بلدان المسلمين فأفرح به، ومالي به سائمة".
عبـاد الله: لنعمل جميعاً على تقوية الإيمان ونشر الحب والإخاء وتمني الخير لمن حولنا، فإن ذلك لن ينقص من أرزاقنا ولا من آجالنا ولا من فرص نجاحنا، ولكن سيجعلنا سعداء وعظماء، وسنساهم في توجيه مسار هذه الحياة التي تتلاطمها أمواج الفتن والصراعات والخلافات والحروب والحسد والأحقاد مساهمة جادة تصلح من خلالها الأوضاع، وتقوى الروابط والعلاقات، وتتلاشى أمراض القلوب، ونحمى مجتمعاتنا وأوطاننا، ونرضي ربنا.
فانزعوا أحقاد القلوب وشرورها من حولكم بنزعها من قلوبكم، في "نهج البلاغة"، قال الإمام علي-رضي الله عنه-: "احْصُدِ الشَّرَّ مِنْ صَدْرِ غَيْرِكَ بِقَلْعِهِ مِنْ صَدْرِكَ".
فتمنوا الخير، وأحبوا لغيركم ما تحبون لأنفسكم، ولن تعدموا خيرا ولن تخسروا شيئاً، ففضل الله عظيم، ورحمته واسعة، وكل شيء عنده بمقدار، والمسلم لا يتمنى إلا خيراً لمجتمعه وأوطانه وإخوانه في كل الظروف والأحوال.
اللهم ألف بين قلوبنا، وأصلح ما فسد من أحوالنا، وخذ بنواصينا إلى كل خير. اللهم اجعل لنا من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ومن كل عسر يسرا، ومن كل بلاء عافية. اللهم احقن دماءنا، واحفظ بلادنا، وألف بين قلوبنا. ومن أرادنا أو أراد بلادنا بسوء أو مكروه فرد كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميراً عليه.
هذا، وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، والحمد لله رب العالمين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم