المسجد الأقصى بين مورث يهودي وموروث إسلامي - خطب مختارة

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2022-10-11 - 1444/03/15
التصنيفات:

اقتباس

وإليه أُسري بنينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، وفيه صلى بالأنبياء: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ)، ثم فتح عمر بن الخطاب القدس، وصلى في المسجد الأقصى، ثم أعاد صلاح الدين الأيوبي فتحه وتحريره، ودام المسجد الأقصى بأيدي المسلمين قرونًا من الزمان...

بينما زيد في داره، يحيا آمنًا معافى هو وزوجه وأولاده، وبينما هو قد آواه الليل بسكونه، وقد خلد إلى النوم الهانئ، إذا بأصوات وجلبة وضجيج على بابه! وإذا ببابه يُكسر! وإذا بقوم يقتحمون عليه مسكنه!... قام زيد في فزع، من أنتم؟ كيف تقتحمون داري؟! لقد روعتموني وعيالي! فأجابوه: إن هذا بيتنا وليس بيتك؟ وعندها بهت الرجل وانطلق صائحًا: كيف يكون بيتكم وقد ورثت هذا البيت عن أبي وورثه أبي عن جدي.. وما زال الآباء يتوارثونه حتى وصل إلي؟! فأجابوه: إن لنا ها هنا حقًا أصيلًا لأن أبًا من آبائنا مر يومًا من هنا، فاستضافه جد من أجدادك فسقاه ها هنا ماء!

 

وعندها صرخ زيد: ما أنتم إلا مدَّعون كاذبون سارقون... فما كان منهم إلا أن امتدت أيديهم إلى الرجل يلطمونه ويضربونه، وعندها لم يستطع ولده صبرًا؛ وهو يرى أباه يُضرب، فأمسك بكوب كان بجانبه فقذفهم به، وصرخ فيهم: دعوا أبي أيها الظالمون الغاصبون المعتدون... فإذا بأحدهم يُخرج من ثيابه خنجرًا ويغرزه في قلب الصبي، ثم يحز به رأسه ويلقيها في حجر أمه! فصاحت الأم في لوعة وحسرة وأسى: انتقم الله منكم أيها الظالمون! فتغشاها أحدهم فهتك عفتها أمام زوجها المكبل وأولادها!

 

وأصبح عليهم الصباح متشحًا بسواد وآهة وجراح؛ أصبح الصباح على أب مكلوم قعيد، وأم ثكلى منتهكة، وفتيات مروَعات خائفات، وأبناء عاجزين تحت وطأة الخنجر مهددين... أصبح الصباح وقد طرد الأغراب الأسرة من فسيح بيتها، واضطروهم إلى ركن ضيق منه وحصروهم فيه، ورتعوا هم في البيت آمرين ناهين مختالين.

 

وتدخل الجيرانُ للحل، وبعد مشاورات ومداولات، واجتماعات ومؤتمرات، وجلسات ومباحثات... توصلوا إلى حل رأوه عظيمًا! وهو "حل التقسيم"؛ أن يتركوا لأصحاب البيت دورة المياه لتكون نصيبهم من بيتهم، ثم يجعلوا بقية البيت للغرباء الغاصبين! فبدلًا من أن يرفعوا الظلم عن المظلومين، بدلًا من أن يردوا الحق المغتصب إلى أصحابه، بدلًا من أن يأخذوا على يد الباغي المعتدي، بدلًا من أن ينصروا الضعيف ويغيثوا الملهوف ويجيروا المستجير المكروب... إذا بهم يزيدونه إلى همه همًا، إذا بهم يخذلونه ويسلمونه إلى ظلم الظالمين! بل وينصرون عليه عدوه.

***

وهذا -مع فارق التمثيل- ما تفعله إسرائيل بأهل فلسطين؛ قالوا: إن لنا هيكلًا مكان المسجد الأقصى، فلابد أن نهدم مسجدكم لنقيم هيكلنا! قلنا لهم: فأتونا بأمارة أو دليل من تاريخ أو منطق أو تبرير، فما جاؤوا إلا بالترهات والأعاجيب والأساطير!... ثم فرضوا واقعهم بالمدفع والدبابة والطائرة، وتخاذل المسلمون عن تحرير أرضهم وصيانة عرضهم وإغاثة إخوانهم! كأنهم ما سمعوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يقول: "المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة، فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة"(متفق عليه)، وفي رواية لمسلم: "المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله".

"وقوله: (ولا يسلمه) أي: لا يتركه مع من يؤذيه، ولا فيما يؤذيه، بل ينصره ويدفع عنه... (ولا يخذله)، الخذل: ترك الإعانة والنصر، ومعناه: إذا استعان به في دفع ظالم ونحوه لزمه إعانته إذا أمكنه ولم يكن له عذر شرعي"(شرح النووي لصحيح مسلم).

وكأنه لم يبلغهم إجماع العلماء أنه: "إذا اعتدى معتدٍ على شبر من أرض المسلمين، وجب على جميع المسلمين القيام لنجدته".

***

وإن لم يكن عندهم من دليل ولا برهان على أن لهم في مكان المسجد الأقصى حق، فإن لنا ألف دليل ودليل وألف برهان وحجة، فلو سألتم التاريخ من بناه؟ لأجابكم: بناه آدم -عليه السلام- بعد بنائه للمسجد الحرام بأربعين عامًا، ثم هُدِم فشرع في تجديده نبي الله داود ثم أتمه بعد موته ولده سليمان -عليهما السلام-، كما رفع إبراهيم وولده إسماعيل -عليها السلام- البيت الحرام بعدما هُدِم: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ)[البقرة: 127]، فعن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قلت يا رسول الله: أي مسجد وضع في الأرض أول؟ قال: "المسجد الحرام"، قلت: ثم أي؟ قال: "المسجد الأقصى"، قلت: كم بينهما؟ قال: "أربعون سنة"(متفق عليه).

 

فقد بنى داود وسليمان -عليهما السلام- "مسجدًا" وليس: "هيكلًا"، فعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن "سليمان بن داود لما بنى مسجد بيت المقدس، سأل الله خلالًا ثلاثة..."(رواه النسائي، وصححه الألباني).

***

ولقد كان لأجدادهم فرصة من قديم في زمان موسى -عليه السلام-؛ أن تكون لهم القدس، فضيعوها ولم يغتنموها: (يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ)[المائدة: 21]، فكان جوابهم: (يَامُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ)[المائدة: 22]، فراجعهم الصالحون، فأجابوا: (إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ)[المائدة: 24] فكان القرار النهائي من الرب العلي -سبحانه وتعالى-: (فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ)[المائدة: 26].

ولو كانت القدس لهم، ثم كفروا كحالهم الآن، لكان المسلمون هم الأحق بها؛ لأن الله -تعالى- قضى قائلًا: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ)[الأنبياء: 105].

***

والمسجد الأقصى أول قبلة صلى إليها المسلمون قرابة العام ونصف العام، إلى أن حولت القبلة، فعن البراء بن عازب -رضي الله عنهما- قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلى نحو بيت المقدس، ستة عشر أو سبعة عشر شهرًا، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحب أن يوجه إلى الكعبة، فأنزل الله: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ...)[البقرة: 144]، فتوجه نحو الكعبة "(متفق عليه).

 

وهو في ديننا أحد المساجد التي يجوز إليها السفر والترحال، فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى"(متفق عليه).

 

وإليه أُسري بنينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، وفيه صلى بالأنبياء: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ)[الإسراء: 1]... ثم فتح عمر بن الخطاب القدس، وصلى في المسجد الأقصى... ثم أعاد صلاح الدين الأيوبي فتحه وتحريره، ودام المسجد الأقصى بأيدي المسلمين قرونًا من الزمان، يصونونه ويطهرونه ويتعبدون فيه، لم يخرجهم من إلا كل آثم حقود ظلوم جهول.

 

وها هو الآن يئن ويشتكي تحت وطأة اليهود أحفاد القردة والخنازير، وينادي على المسلمين: ألا حرروني، ألا أغيثوني، ألا اطردوا مني أذل خلق الله وأجبن خلق الله وأحقر خلق الله، ألا لا تتركوني للمتخاذلين والمتآمرين والغافلين منكم:

سألت عن الصمود رجال قومي *** فخاطبني مـن الإعـلام بـوق:

"أتنسى أن إسرائيل أخـتٌ *** لها في المسجد الأقصى حقوق"!

كـأن رجـال أمتنـا قطـيـعٌ *** وإسرائيل في صلـفٍ تسـوق

وأمتنـا تنـام علـى سريـر *** تهدهدها المفاتـن والفسـوق

كتـاب الله يدعوهـا ولـكـن *** أراهـا لا تحـسُّ ولا تفـيـق

أقـول لأمتـي واللـيـل داجٍ *** بكفـك لـو تأملـت الشـروق

 

أجل يا أمتنا؛ "بكفـك لـو تأملـت الشـروق"؛ فلو عادت الأمة إلى دينها، فتمسكت بقرآنها وسنة نبيها -صلى الله عليه وسلم-، ووحدت كلمتها، لعاد إلينا مسجدنا، ولدانت لنا الدنيا كلها، ولتحققت بشرى النبي -صلى الله عليه وسلم: "ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزًا يعز الله به الإسلام، وذلًا يذل الله به الكفر"(رواه أحمد، وصححه الألباني)، وعند مسلم: "إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها". 

 

وفيما يلي خطب منتقاة تفصِّل الأمر وتؤصل له، وتبين الحق وتستدل عليه، وتكبت الباطل وتفند شبهه، فإليك:

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات