المساجد مفخرة الإسلام

راكان المغربي

2024-11-15 - 1446/05/13 2024-12-02 - 1446/05/30
عناصر الخطبة
1/اهتمام النبي ببناء المساجد 2/مكانة المسجد في الإسلام 3/فضل عمارة المساجد والعناية بها 4/من الممارساتِ التي تنافي احترام المساجد

اقتباس

ومن الممارساتِ الخاطئةِ في المساجدِ الخصامُ على أماكنَ محددةٍ في الصفِّ الأول، فالبعضُ يوطِّن لنفسِه مكاناً في المسجدِ ويظنُّ أنه قد امتلكه لنفسِه، ولا يسمحُ لأحد سواه أن يجلسَ فيه، فهذا أمر لا ينبغي لأن المسجد بيت الله، ولا أحد يملكه أو يملك شبرا منه...

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

أما بعد: مفخرةٌ من مفاخرِ الإسلام، ومنجزٌ من أعظمِ منجزاتِه على مرِّ العصور، تاريخُه بدأ منذ فجر الإسلام، ولا زال إلى اليومِ يحققُ أعلى النتائجِ، وأرفعَ الدرجات، اعتنى به العلماءُ والأمراءُ، وارتبطت به المجتمعاتُ، وعم نفعُه على البشرية جمعاء.

 

حديثُنا اليوم -يا عبادَ الله- عن المساجد، المسجدُ في الإسلام له دورٌ كبيرٌ، ومكانةٌ جليلةٌ؛ فهو مركزٌ إيمانيٌ، ومأوىً اجتماعيٌ، ومؤسسةٌ تعليميةٌ، ووقفٌ خيريٌ، يفرُّ إليه المسلمُ بعيداً عن صخبِ الحياةِ وهمومِها ونصبِها؛ ليجدَ فيه المسلمُ راحةَ البالِ، وطُمأنينةَ القلبِ، وسعادةَ الروح.

 

لذلك لم يكن غريباً أن كانت أولُ أعمالِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- بعد هجرتِه إلى المدينة هو بناءُ المسجد، فحين قدمَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- على قباءٍ ومكثَ عند بني عمرِو بن عوفٍ بضعةَ عشرَ يوماً، لم يغادرْ من عندِهم حتى أسسَّ مسجدَ قباء، وحين قدمَ إلى موطنِه في المدينةِ كان أولُ مشاريعِه -عليه الصلاة والسلام- أن أسّسَ مسجدَه الشريف.

 

في المساجدِ تُؤدى الصلاةُ التي هي العماد الذي يقومُ عليه الإسلام، يقول -سبحانه- معظماً شأنَ المساجدِ ومبيناً مكانتها؛ (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ)[النور: 36 - 39].

 

في المساجدِ يُتعلم العلمُ، ويَشِعُّ نورُه على المجتمعِ المسلمِ، ففيه تُقامُ مجالسُ الذكرِ، وخطبُ الجمعة، وحلقاتُ القرآنِ، ورياضُ العلم، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ، لَا يُرِيدُ إِلَّا لِيَتَعَلَّمَ خَيْرًا أَوْ يَعْلَمَهُ؛ كَانَ لَهُ أَجْرُ مُعْتَمِرٍ تَامِّ الْعُمْرَةِ".

 

وبهذا أصبحَ المسجدُ جامعةً متكاملةً تجودُ على الجميعِ، وتُعطي الكلَّ، ولا تبخلُ على أحدٍ دون أحد، واسأل التاريخَ عن جامعاتِ العلومِ في الحرمينِ بالجزيرةِ، والجامعِ الأُموّيِّ بالشامِ، وجامعِ الكوفةِ بالعراقِ، وجامعِ القيروانِ بالمغربِ، والجامعِ الأزهرِ بمصر، وجامعِ قرطبةَ بالأندلس، وغيرِ ذلك من المساجدِ التي كانت مناراتِ العلمِ، وأعمدةِ الحضارةِ.

 

والمسجدُ -يا عبادَ الله- مؤسسةٌ اجتماعيةٌ، تحتضنُ في أروقتِها الكبارَ والصغارَ، والرجالَ والنساءَ، والأغنياءَ والفقراءَ، والمواطنينَ والغرباءَ، كلهم يجتمعون تحت سقفٍ واحدٍ، ويقفون في صفٍ واحدٍ؛ ليتذكرَ الناسُ أن أصلَهم واحد، وأن ربَّهم واحدٌ، وأن أباهم واحدٌ، وبذلك تظهرُ رابطةُ الإسلامِ العميقةُ التي وحّدت الناسَ على مختلفِ مستوياتِهم وأعراقِهم وأجناسِهم.

 

ومن المساجدِ كانت تنطلقُ كثيرٌ من مشاريعِ الخيرِ في المجتمعِ المسلمِ، فكان القراءُ من الأنصار "يَجِيئُونَ بالمَاءِ فَيَضَعُونَهُ في المَسْجِدِ، وَيَحْتَطِبُونَ فَيَبِيعُونَهُ، وَيَشْتَرُونَ به الطَّعَامَ لأَهْلِ الصُّفَّةِ وَلِلْفُقَرَاءِ"، وحين قدم قوم حفاةٌ عراةٌ من مُضَر، قام النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- في المسجدِ فخطبَ بأصحابِه، وحثهم على الصدقةِ عليهم، يقول الراوي: "فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ بصُرَّةٍ كَادَتْ كَفُّهُ تَعْجِزُ عَنْهَا، بَلْ قدْ عَجَزَتْ، قالَ: ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ، حتَّى رَأَيْتُ كَوْمَيْنِ مِن طَعَامٍ وَثِيَابٍ، حتَّى رَأَيْتُ وَجْهَ رَسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَتَهَلَّلُ كَأنَّهُ مُذْهَبَةٌ".

 

هكذا هي مكانةُ المسجدِ في الإسلامِ؛ ولذا فقد وردت الكثيرُ من النصوصِ الشرعيةِ في الحثِّ على عمارتِها الحسيّةِ، بتشييدِ بنائِها وإقامةِ أركانِها، وجاءت بالحثِّ على عمارتِها المعنويةِ بإقامةِ الصلاة وإعلاء ِذكر الله فيها.

 

فممَّا جاء في فضلِ بنائِها قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من بنى مسجدًا كمِفْحَصِ قَطَاةٍ أو أصغرَ، بنى اللهُ له بيتًا في الجنَّةِ"، والقَطاةُ: هو نَوعٌ من الحمام، والمقصودُ بِمِفحَصِ القَطاةِ: المَوضِعُ التي تَبيضُ فيه، وهذا مَحْمولٌ على المُبالَغَةِ في حَجْمِ المسجِدِ، ولو كان صغيرًا، ومَن كان هذا فِعلَه، كان جَزاؤُه أنْ يَبْنيَ اللهُ -سُبْحانَه وتَعالى- له بيتًا في الجَنَّةِ.

 

وذهب بعض العلماء إلى أن المراد بذلك ما لو اشترك جماعة في بناء مسجد، بحيث كان نصيب كل واحد منهم مفحص قطاة، بنى الله له بيتاً في الجنة، وفضل الله -تعالى- واسع.

 

ومن عمارةِ المساجدِ الحسية بذلُ الجهدِ في تطييبها وتنظيفها وصيانتها، فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "أمرَنا رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- ببناءِ المساجدِ في الدُّورِ، وأن تُنظَّفَ وتُطيَّبَ"، وقال الله -سبحانه- لإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام: (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)[البقرة: 125].

 

وأما ما يتعلقُ بعمارتِها المعنوية فالأحاديثُ في ذلك كثيرةٌ جدا، تحث المسلمَ على التعلقِ بالمساجدِ لنيلِ فضائلِ اللهِ العظيمة، يقول المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "مَن خرجَ من بيتِه متطَهرًا إلى صلاةٍ مَكتوبةٍ فأجرُه كأجرِ الحاجِّ المحرمِ" الله أكبر! أيُّ فضلٍ من الله هذا؟! كلُّ يومٍ خمسَ مراتٍ تخرجُ من بيتِك إلى المسجدِ فتصيبُ أجرَ الحاجِّ المحرم.

 

ويقول النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يحثُّ الناسَ على السيرِ إلى المساجد والمكوثِ فيها: "أَلا أدُلُّكُمْ علَى ما يَمْحُو اللَّهُ به الخَطايا، ويَرْفَعُ به الدَّرَجاتِ؟"، قالُوا بَلَى يا رَسولَ اللهِ، قالَ: "إسْباغُ الوُضُوءِ علَى المَكارِهِ، وكَثْرَةُ الخُطا إلى المَساجِدِ، وانْتِظارُ الصَّلاةِ بَعْدَ الصَّلاةِ، فَذَلِكُمُ الرِّباطُ، فَذَلِكُمُ الرِّباطُ، فَذَلِكُمُ الرِّباطُ".

 

ولا يظنُّ أحدٌ أن كثرةَ الخطا إلى المسجدِ هي من أسبابِ محوِ الخطايا ورفعِ الدرجات عند الذهابِ إلى المسجدِ فحسب، بل هي كذلك عند العودةِ منه، قال -صلى الله عليه وسلم-: "مَن راحَ إلى مَسجِدِ الجَماعةِ، فخُطْوةٌ تَمحو سيِّئةً، وخُطْوةٌ تكتُبُ له حسنةً، ذاهبًا وراجعًا".

 

ويكشفُ لنا النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- شيئاً مما أعدّه اللهُ لضيوفِه فيقول: "مَن غَدَا إلى المَسْجِدِ ورَاحَ، أعَدَّ اللَّهُ له نُزُلَهُ مِنَ الجَنَّةِ كُلَّما غَدَا أوْ رَاحَ"، فإذا دخلتَ المسجدَ، هل تعلمُ من الذي يستقبلُك ويُكرمُك؟ إنه صاحبُ البيتِ، إنه اللهُ -جل وعلا-.

 

وخذْ هذا الحديثَ من فيِّ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- إذ يقول: "لا يتوضَّأُ أحَدُكم فيُحْسِنُ وُضوءَهُ فيُسْبِغُهُ، ثمَّ يأتي المسجِدَ لا يُريدُ إلَّا الصَّلاةَ فيه؛ إلَّا تَبَشْبَشَ اللهُ إليه كما يَتَبَشْبَشُ أهلُ الغائبِ بطَلعَتِهِ".

 

ويسخر اللهُ ملائكتَه للدعاءِ لأهل المسجدِ، فيقولُ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "أَحَدُكُمْ ما قَعَدَ يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ، فهو في صَلَاةٍ ما لَمْ يُحْدِثْ، تَدْعُو له المَلَائِكَةُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ له، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ".

 

وفي يومِ القيامةِ ينالُ أهلُ المساجدِ أجورَهم، وتعلو مكانتُهم، يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللهَ لَيُنادِي يومَ القيامةِ: أين جِيرَانِي؟ أين جِيرَانِي؟ قال: فَتقولُ الملائكةُ: رَبَّنا، ومَنْ يَنبغي أنْ يُجَاوِرَكَ؟! فيقولُ: أين عُمَّارُ المَساجِدِ؟".

 

وحين يشتدُّ الحرُّ، وتدنو الشمسُ، ويغرقُ الناسُ في عرقِهم، يُنادى أولئكَ الذين تعلقتْ قلوبُهم في المساجدِ، أولئك الذين لم يكونوا يفارقون بيوتَ اللهِ في الدنيا، فما نسيهم اللهُ في شدةِ كربِ ذلك اليوم، فكانوا من السبعة الذين يظلهم في ظله، يوم لا ظل إلا ظله؛ "رَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ في المَسَاجِدِ".

 

وحين تشتدُّ الظلمةُ في ذلك اليوم، يُكرَم أهلُ المساجدِ بما يضيءُ طريقَهم، ويسهلُ دربَهم إلى الجنان، فليستبشروا من اليومِ ببشرى رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- إذ قال: "بشِّرِ المشَّائينَ في الظُّلَمِ إلى المساجدِ بالنُّورِ التَّامِّ يَومَ القِيامةِ".

 

أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب، فاستغفروه إنَّه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

أما بعد: هذا المسجدُ الذي يجمعُنا هو أحبُّ مكانِ إلى الرحمن، يقول النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- فيه: "أَحَبُّ البِلَادِ إلى اللهِ مَسَاجِدُهَا"، فعلى المسلمِ أن يقدرَ لهذا المكانِ قدرَه، ويستحضرَ أنه بيتُ الله، وأحبُّ الأماكنِ إليه.

 

ويجدرُ بنا التنبيهُ على بعضِ الممارساتِ التي تنافي احترامَ المساجد:

فمن ذلك ما يحصلُ من البعض من تساهلٍ عجيبٍ في التعدي على المساجدِ باستغلالِها لغيرِ ما خُصصت له في أغراضٍ شخصيةٍ، أو اختلاسِ خدماتِها من الكهرباءِ والمياهِ وغير ذلك، فهذا منكرٌ عظيمٌ، وتعدي على أوقافٍ مصونةٍ صانها الشرعُ وذمَّ من يتعدى عليها، وقد قالَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- متوعدا: "إنَّ رِجَالًا يَتَخَوَّضُونَ في مَالِ اللَّهِ بغيرِ حَقٍّ، فَلَهُمُ النَّارُ يَومَ القِيَامَةِ".

 

ومن الممارساتِ الخاطئةِ في المساجدِ الخصامُ على أماكنَ محددةٍ في الصفِّ الأول، فالبعضُ يوطِّن لنفسِه مكاناً في المسجدِ ويظنُّ أنه قد امتلكه لنفسِه، ولا يسمحُ لأحد سواه أن يجلسَ فيه، فهذا أمر لا ينبغي لأن المسجد بيت الله، ولا أحد يملكه أو يملك شبرا منه، فهو حق للمسلمين جميعا، وقد نهى النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أن يَوَطِّنَ الرَّجُلُ المَكانَ في المَسجِدِ كما يُوطِنُ البَعيرُ".

 

ومن التنبيهات كذلك أن البعضَ لا يتنظفُ عند قدومِه المسجد، فيأتي إليه بثيابٍ متسخةٍ ورائحةٍ كريهةٍ، فيكون سبباً في أذيةِ المصلين، ولا يخفاكم أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- نهى من يأكلُ ثوما أو بصلا أن يأتيَ إلى المسجدِ؛ وذلك لما يحصلُ من إيذائِهم للملائكةِ والمصلين بالروائحِ الكريهةِ، فعلى المسلم أن يتزينَ ويتنظفَ عند قدومِه المسجدِ، فإنه زائر لبيتِ الله القائلِ: (يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ)[الأعراف: 31].

 

اللهم وفقنا لطاعتك، وتعظيم حرماتك، والالتزام بشرعك، ربنا اجعلنا مقيمي الصلاة ومن ذرياتنا ربنا وتقبل دعاء.

المرفقات

المساجد مفخرة الإسلام.doc

المساجد مفخرة الإسلام.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات