المداومة على الطاعة سبيل السلامة

بندر بليلة

2022-05-06 - 1443/10/05 2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/الاتعاظ من مرور الأيام ورحيل الأزمان 2/انتكاس حال بعض المسلمين بعد رمضان 3/علامات قبول الطاعة أو ردها 4/الوصية بالمداومة على الطاعة بعد رمضان 5/فضائل تلاوة القرآن وتدبره 6/العمل المقبول ما كان خالصا صوابا

اقتباس

لله أنتَ يا شهرَ الصيام والقيام، وتنزُّل الملائكة والروح بالسلام، حللتَ فينا فأبهجتَ، ومنحتَنا مِنَحًا وأتحفتَ، ثم استدبرتَنا ورحلتَ، اللهم فلكَ الحمدُ على شهوده وبلوغ تمامه، اللهم وتقبَّل منا ما كان من صيامه وقيامه، وبلِّغْناه من قابلٍ وسلِّمْه لنا، وسلِّمْنا له...

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله، الحمد لله أعلى لأهل طاعته في مقام حضرته قدرًا، ورفع لهم في أرضه وسمائه حمدًا وذِكرًا، وفتح لهم أبواب فضله فأعقب النعمة مَنًّا وشُكرًا، أشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، تفرَّد بالملك والتدبير خلقًا وأمرًا، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، تقصر الهِمَم عن وصفه نظما ونثرًا، صلى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان، صلاةً وسلامًا لا ينقضيان عدًّا وحصرًا.

 

أما بعدُ: فأوصيكم -أيها الناسُ- ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله -رحمكم الله-، اتقوه يكفر عنكم سيئاتكم، ويعظكم لكم أجرًا.

 

أيها المؤمنون: حياة الإنسان محدودة، وأيامه محصاة معدودة، ما أقربَ الأمسَ وأهناه، حين كنا نُبشَّر بدخول رمضان، واليوم وقد صار تاريخ وأثرا، ودرسا وعبرًا.

 

لله أنتَ يا شهرَ الصيام والقيام، وتنزُّل الملائكة والروح بالسلام، حللتَ فينا فأبهجتَ، ومنحتَنا مِنَحًا وأتحفتَ، ثم استدبرتَنا ورحلتَ، اللهم فلكَ الحمدُ على شهوده وبلوغ تمامه، اللهم وتقبَّل منا ما كان من صيامه وقيامه، وبلِّغْناه من قابلٍ وسلِّمْه لنا، وسلِّمْنا له، ألَا وإن فئامًا من الناس قد ذاقوا في رمضان حلاوةَ الطاعة، وعُلِّقت قلوبُهم بالمساجد والجماعة، ولكنهم لا يلبثون أن يعودوا بعده إلى الغفلة والإضاعة، ألا وإن من يعبد رمضان فإن رمضان قد فات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت.

 

عبادَ اللهِ: إن علامة القَبول دوام العبادة، وعلامة الرد رجوع المرء لما اعتاده، قال الله -تعالى-: (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا)[النِّسَاءِ: 66-68]، فما كان من خير نالَه في رمضان فتجب المحافظةُ عليه، وما كان من شر اجتنَبَه فلا يعود إليه.

إِذَا ما المرءُ صامَ عن الدنايا *** فكلُّ شهورِه شهرُ الصيامِ

 

أيها المسلمون: إنَّ أبواب الخير مُشرَعة، فأين القاصدون؟ ومناهل البر مُترَعة، فأين الواردون، قال تعالى: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ)[الْمَائِدَةِ: 48]، وقال سبحانه: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)[آلِ عِمْرَانَ: 133]، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "قال الله -تعالى-: وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، ‌فَإِذَا ‌أَحْبَبْتُهُ ‌كُنْتُ ‌سَمْعَهُ ‌الَّذِي ‌يَسْمَعُ ‌بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بها، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بها، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ"، فالصلاة عمود الإسلام، ورأس العبادات، وهي تهذيب وجدان، وطهارة أردان، ورياضة أبدان، قال صلى الله عليه وسلم: "‌الصلواتُ ‌الخمسُ، ‌والجُمُعةُ ‌إلى ‌الجُمُعةِ، ورمضانُ إلى رمضانَ مكفِّرات ما بينهنَّ إذا اجتُنبت الكبائرُ"(أخرجه مسلم)، ومن أتى بنوافلها بني له بيت في الجنة، قال صلى الله عليه وسلم: "‌مَا ‌مِنْ ‌عَبْدٍ ‌مُسْلِمٍ ‌يُصَلِّي ‌لِلهِ ‌كُلَّ ‌يَوْمٍ ‌ثِنْتَيْ ‌عَشْرَةَ رَكْعَةً تَطَوُّعًا غَيْرَ فَرِيضَةٍ، إِلَّا بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ"(أخرجه مسلم).

 

وقيام الليل وإحياؤه بالصلاة مشروع في ليالي السنة كلها، لا في رمضان فحسبُ، قال عليه الصلاة والسلام: "أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل"(أخرجه مسلم)، قال المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه-: "إن كان النبي -صلى الله عليه وسلم- لَيقومُ ليصلِّي حتى ترم قدماه أو ساقاه، فيقال له، فيقول: أفلا أكون عبدًا شكورًا"(أخرجه البخاري ومسلم).

 

والصيام من أجلِّ الأعمالِ قَدرًا، وأجزلها أَجرًا، ففي الحديث القدسي: "كلُّ عملِ ابنِ آدمَ له إلا الصومُ، فإنَّه لي، وأنا أَجزِي به"، وممَّا نُدبتم إليه من الصيام بعد رمضان صيام ستة أيام من شوال، فمن فعَل فكأنما صام الدهرَ كلَّه، بذلكم صحَّ الخبرُ عن نبي الْهُدَى -صلى الله عليه وسلم-، قال ثوبان -رضي الله عنه-: سمعتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "جعَل اللهُ الحسنةَ بعشر، فشهرٌ بعشرةِ أشهُرٍ، وستةُ أيامٍ بعدَ الفطر تمامُ السنةِ"(أخرجه النسائي وابن ماجه).

 

ومن الصيام المُسْتَحَبّ، صيام ثلاثة أيام من كل شهر، والإثنين والخميس، ويوم عرفة، وشهر الله المحرم، وشهر شعبان.

 

أمَّا القرآن فكلام الله أصدق الكلام، وأحسن الحديث، ينبوع الهداية، ومصدر الرحمة، ومبعث النور، مَنْ قرأه وتلاه فكأنما خاطَب الرحمنَ بالكَلِم، وهو موعود بعظيم الثواب، وكريم المآب، قال الله -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ)[فَاطِرٍ: 29-30]، وقال صلى الله عليه وسلم: "اقرؤوا القرآنَ؛ فإنَّه يأتي يومَ القيامة شفيعًا لأصحابه"(أخرجه مسلم)، وقال عليه الصلاة والسلام: "مَثَلُ ‌الْمُؤْمِنِ ‌الَّذِي ‌يَقْرَأُ ‌الْقُرْآنَ ‌كَمَثَلِ ‌الْأُتْرُجَّةِ ‌رِيحُهَا ‌طَيِّبٌ ‌وَطَعْمُهَا طَيِّبٌ، وَمَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ التَّمْرَةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَلَا رِيحَ لَهَا"، وقال عليه الصلاة والسلام: "الماهر بالقرآن مع السَّفَرة الكرام البَرَرة، والذي يقرأ القرآن ويتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران"(أخرجهما البخاري ومسلم).

 

ولا يقتصر الأمر على ما مضى، فالله نوَّع العباداتِ وعدَّدَها، ووسَّع الطاعات وكثرها؛ ليُقبِل العبادُ عليها وتشتدَّ رغبتُهم إليها، فما أغزَر الإنعامَ، وأظهَر الإكرامَ.

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[الْأَحْقَافِ: 13-14].

 

بارَك الله لي ولكم في الكتاب الحكيم، ونفعني وإيَّاكم بهدي النبي الكريم، أقول ما سمعتُم، وأستغفر اللهَ لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفِروه، إنَّه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله، وصَل مَنِ إليه انقطع، وبسَط فضلَه عليه ولدعائه استمع، وأشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه -تعالى- عن الأنداد والأشباه وما في الأذهان وقَع، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، علا به منارُ الدين وارتفع، صلى الله وسلم وبارَك عليه، وعلى آله وأصحابه ومَنْ لهم اتَّبَع.

 

أما بعدُ: فاتقوا الله -عباد الله-، واعلموا أن ما قلَّ مِنَ العمل ودام خيرٌ ممَّا قَصُرَ وانقطع، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أحبُّ الأعمال إلى الله أدومها وإن قلَّ"(أخرجه البخاري ومسلم)، وما كان خالصًا صوابًا فهو المقبول، وما عُرى منهما أو من أحدهما فالعامل محاسَب مسؤول، قال تعالى: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا)[الْكَهْفِ: 110]، والله -سبحانه وتعالى- شكور كريم، يجزي العامل على عمله في الدنيا سعادة قلب، وانشراح صدر، وقوة نفس، وقرة عين، وعصمة من الشيطان، وفي الأخرى الرحمة والعفو والرضوان، والفوز بالجنان؛ (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[النَّحْلِ: 97].

 

هذا وصلُّوا وسلِّموا على محمد بن عبد الله، النبي القرشي الهاشمي، فاللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى الآل والأصحاب، التابعين لهم بإحسان إلى يوم المآب، وعنا معهم بمنك وكرمك يا كريم يا وهاب.

 

اللهم أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، ، واحمِ حوزةَ الدين، وانصر عبادك المؤمنين، اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين، ونَفِّسْ كربَ المكروبين، واقضِ الدَّينَ عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين. 

 

اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِحْ أئمتنا وولاةَ أمورنا، وأيِّد بالحق والتوفيق والتسديد إمامنا وولي أمرنا، اللهم وفِّقْه ووليَّ عهده لما فيه صلاح البلاد والعباد يا ربَّ العالمينَ، اللهم سَدِّدْ جندَنا المرابطينَ على الحدود والثغور، كن لهم معينًا وظهيرًا، ومؤيِّدًا ونصيرًا.

 

اللهم إنا نسألك علمًا نافعًا، ورزقًا واسعًا، وعملًا صالحًا متقبَّلًا، اللهم أَحْسِنْ عاقبتَنا في الأمور كلها، وأَجِرْنا من خزيِ الدنيا وعذابِ الآخرةِ، (رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ)[آلِ عِمْرَانَ: 53]، (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ: 201].

 

عبادَ اللهِ: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ)[النَّحْلِ: 90-91].

المرفقات

المداومة على الطاعة سبيل السلامة.pdf

المداومة على الطاعة سبيل السلامة.doc

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات