المخرج من الفتن

صالح بن عبد الرحمن الخضيري

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/ مكمن الخطر على المسلمين 2/ أسباب الفتن النازلة بالمسلمين 3/ المخرج منها

اقتباس

إن من العقل تدبر الذات وإصلاح النفس، ومن أسباب رفع البلاء أن يحدث أهل الإسلام توبة لكل عقوبة، ولكل ذنب استغفارا، ولكل بلية وبأس رجوعا إلى الله وتضرعا، (فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ) [الأنعام:43].

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

 

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وخلفائه الراشدين، وزوجاته وصحابته الأكرمين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

 

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

 

أيها المسلمون: أخرج الإمام أحمد والترمذي من حديث خباب بن الأرت -رضي الله عنه- قال: وافيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ليلة صلاها كلها حتى كان مع الفجر، فسلم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من صلاته، فقلت: يَا رَسُولَ اللَّهِ, بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي! لَقَدْ صَلَّيْتَ اللَّيْلَةَ صَلَاةً مَا رَأَيْتُكَ صَلَّيْتَ نَحْوَهَا! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أَجَلْ، إِنَّهَا صَلَاةُ رَغَبٍ وَرَهَبٍ، سَأَلْتُ رَبِّي -عز وجل- فِيهَا ثَلَاثَ خِصَالٍ، فَأَعْطَانِي اثْنَتَيْنِ وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً، سَأَلْتُ رَبِّي -عز وجل- أَنْ لَا يُهْلِكَنَا بِمَا أَهْلَكَ بِهِ الْأُمَمَ قَبْلَنَا فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُ رَبِّي -عز وجل- أَنْ لَا يُظْهِرَ عَلَيْنَا عَدُوًّا مِنْ غَيْرِنَا فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُ رَبِّي أَنْ لَا يَلْبِسَنَا شِيَعًا فَمَنَعَنِيهَا".

 

أيها المسلمون: إن هذا الحديث وأمثاله من مشكاة النبوة، يحدد مكمن الخطر على هذه الأمة، فهي لن تهلك بسنة عامة، كما أخذت الأمم السابقة المكذبة، ولن تهلك وتجتث من عدو خارجي، مهما كانت قوة هذا العدو، حتى وإن ظفر عليها هذا العدو فترة وانتصر عليها حقبة من الزمن، وإنما تؤتى الأمة المسلمة من قبل ذاتها، ومن داخل صفوفها.

 

ومن هنا؛ فلا بد للأمة أن تتقي الله في ذات نفسها، وتصلح ذات بينها، قال العالمون: إن هذه العقوبات التي تنزل بالمسلمين، وهذه الفتن التي تحل بهم، إنما هي من أنفسهم وبذنبهم، والله يقول: (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ) [الشورى:30]، ويقول -جل وعلا-: (مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ) [النساء:79].

 

أيها المسلمون: كم نغفل عن هذا الداء! وكم نقع فيه من أخطاء! ولربما أحال كل واحد منا المسؤولية على غيره، والتفت إلى كل أحد ولم يلتفت إلى نفسه، والخطأ وارد، والتقصير حاصل، لا في العوام، بل وفي الخاصة والعلماء، وليس في الأشرار فقط، بل وفي الأخيار، وكلّ بحسبه.

 

نعم، خطأ وتقصير وغفلة على مستوى الرجال والنساء، والأمراء والمأمورين، وفي الصغار وفي الكبار، وفي الأغنياء وفي الفقراء، وفي البر والبحر، ولا بد لرفع العقوبة ودفعها من توبتنا جميعا، ومن إنابتنا جميعا: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم:41].

 

إن من الخطأ البين أن تعزل المصائب الواقعة والفتن النازلة بالمسلمين اليوم، سواء كانت أمنية أو سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، إلى أسباب مادية بحتة، وننسى أن وراءها أسبابا شرعية هي أقوى وأمضى وأكثر أثرا، وكما يكون العباد يولى عليهم.

 

إن من العقل تدبر الذات وإصلاح النفس، ومن أسباب رفع البلاء أن يحدث أهل الإسلام توبة لكل عقوبة، ولكل ذنب استغفارا، ولكل بلية وبأس رجوعا إلى الله وتضرعا، (فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ) [الأنعام:43].

 

ومن السفه أن يتمادى المرء -أيا كان- في معصية الله والله يمده بالنعم ويجزل له العطايا، وإن من مكر الله -جل وعلا- بالعبد أن يستدرج وهو لا يعلم، قال بعض السلف: "إذا رأيت الله ينعم على شخص ورأيت هذا الشخص متماديا في معصية الله فاعلم أن هذا من مكر الله -عز وجل- به وأنه دخل في قوله -تعالى-: (سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) [الأعراف:182-183].

 

إن الملاحظ أن المعاصي والمخالفات تتزايد، وحلم الله -عز وجل- حاصل للعباد، لقد قصر المسلمون في محاسبة أنفسهم وفي تعظيم شعائر ربهم، جاوزوا الحلال إلى الحرام، وغلبتهم الشهوات، وتورطوا في مستنقع الشبهات، إلا من رحم ربكم، فكان تسليط الأعداء عليهم جزءاً من قدر الله في عقوبتهم؛ فهل -يا ترى- يدركون مكمن الخطأ؟ هل يراجعون أنفسهم ويرجعون إلى بارئهم؟.

 

إن الله بحكمته ورحمته لهذه الأمة جعل عقوبتهم على ذنوبهم ومعاصيهم بأن يسلط بعضهم على بعض فيهلك بعضهم بعضا، ويسبي بعضهم بعضا، كما قال -عز وجل-: (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ) [الأنعام:65]، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أعوذ بوجهك"، (أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ)، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أعوذ بوجهك"، (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ)،  قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "هذه أهون وأيسر".

 

أيها المسلمون: إن من يتأمل في واقع المسلمين اليوم ليعجب من الجرأة على محارم الله، وانتهاك حدود الله، والسعي في سبيل الفساد والإفساد، أفلا يعتبر هؤلاء وينظرون إلى الواقع من حولهم؟ أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه؟ والله غفور رحيم.

 

إن الناس كلما أحدثوا ذنبا أحدث الله لهم عقوبة؛ فأين الراغبون في ثواب الله، الخائفون من عقابه؟ فالمرد إليه، والوقوف بين يديه: (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ) [الانشقاق:6]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) [الأنفال:24].

 

اللهم تب علينا أجمعين، اللهم اهدنا سبل الهدى يا ذا الجلال والإكرام، اللهم اعفُ عنا يا عفو. أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسان.

 

أما بعد: فاتقوا الله يا عباد الله، واعلموا أن من رغب الخروج من كل أزمة وبلية فعليه بالإيمان والتقوى والتوكل، (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) [الطلاق:2-3].

 

فالتقوى والتوكل على الله وصيتان من الله، وهما مخرج من الأزمات، لا بد أن نعتقد بأن الإيمان سبب للأمن وأن الشرك سبب للعذاب، تجدون ذلك في كتاب الله: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ) [الأنعام:82]، (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا) [آل عمران:151].

 

والاجتهادات في العبادات سبب لتثبيت العبد، وتوفيق الله له على كل حال، ولاسيما في أوقات الفتن، وقد وصى النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- بذلك فقال: "بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا".

 

ولنصر الله أسباب: فمن نصر دين الله نصره الله، (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ) [الحج:40]... وبالعدل، فالله -جل وعلا- يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة، كما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، ومنها اجتماع الكلمة، وتوحيد الصف: (وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) [الأنفال:46].

 

ولتسليط الأعداء أسباب: منها معاداة أولياء الله، قال الله في الحديث القدسي:"مَن عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب" رواه البخاري.

 

ومنها أكل الربا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ) [البقرة:278-279].

 

والذنوب عموما سبب للبلاء وتسليط الأعداء، والاشتغال بتوافه الأمور، وضعف الهمم عن المعالي سبب لضياع الأمة وتسليط العدو، قال ابن القيم -رحمه الله-: "والذي شاهدناه نحن وغيرنا وعرفناه بالتجارب أنه ما ظهرت المعازف وآلات اللهو في قوم وفشت فيهم واشتغلوا بها إلا سلط الله عليهم العدو، وبلوا بالقحط والجدب وولاة السوء".

 

مؤلم -يا عباد الله- حين يشتغل المسلمون بالكأس والغانية، وما يسمى بالفن والرياضة، ويشتغل غيرهم بتصنيع السلاح، والتدرب على حرب المسلمين بأنواع الأسلحة الفتاكة.

 

لا بد -يا عباد الله- من تقوية شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا بد من تعميق الاحتساب في الأمة، والتجديد في أساليب الدعوة إلى الله، حتى يعم الخير ويتقلص المنكر. ولا بد لكل مسلم ومسلمة أن يقوم بواجبه في هذا الميدان.

 

وأما تعظيم قدر الصلاة وإقامتها كما أمر الله فأمر كبير، وكذا إيتاء الزكاة، فهي قرينة الصلاة: (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) [الحج:41].

 

والدعاء سلاح يصلنا بربنا، ويرهب أعداءنا، وهو سهل الكُلفة، عظيم الأثر؛ بل طريق النصر، "فهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم؟" بدعائهم واستغفارهم.

 

كم نحن بحاجة للدعاء في كل حين، ولا سيما في أوقات الشدائد والأزمات، واشتداد غربة الدين وتسلط الأشرار؛ فالدعاء سلاح عظيم، وربنا -جل وعلا- هو الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض.

 

فاتقوا الله ربكم، وتوبوا إليه، وادعوه خوفا وطمعا، وادعوا إلى سبيله، وعظموا شعائره، وقوموا بما أوجب عليكم، يكفيكم ما أهمكم، ويهديكم الصراط المستقيم.

 

وهل الخير إلا منه -سبحانه-؟ وهل الملك والحمد إلا له؟ وهل العز إلا بطاعته؟ وهل النصر إلا منه وهو العزيز الحكيم؟.

 

اللهم اهدنا صراطك المستقيم، اللهم أصلح قلوبنا وأعمالنا...

 

المرفقات

المخرج من الفتن

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات