المحاسبة الجادة

حسين بن عبدالعزيز آل الشيخ

2022-10-04 - 1444/03/08
التصنيفات: أحوال القلوب
عناصر الخطبة
1/ دعوة للمحاسبة الجادّة 2/ حال السلف مع المحاسبة 3/ كلام بديع لابن القيم 4/ الحث على استغلال أيام العمر 5/ الهجرة المحمدية تحوّل تاريخي 6/ خطاب إلى قادة المسلمين وعلمائهم 7/ دعوة لتصحيح المسار وإصلاح الفساد 8/ التحاكم إلى العقيدة واتخاذها دستورًا 9/ الحث على صيام عاشوراء

اقتباس

في انصرامِ عامٍ وحلول آخَر موعِظةٌ وتذكير بأنَّ هذه الدنيَا لا تبقى على حالٍ، أمانيها كاذِبة، آمالها باطِلة، عيشُها نكد، صَفوُها كدَر، المرء منها على خطَر؛ إمّا نِعمةٌ زائلة، وإمّا بليّة نازلة، نعيمُها ابتلاء، جديدُها يَبلي، مُلكها يَفني، أيّامُها معدودة، آجالها مكتوبَة، هي بمثابةِ ظلٍّ زائل أو سَرابٍ راحل، هي كأحلامِ نائِم أو كظلٍّ زائل ..

 

 

 

 

 

 

أمّا بعد: 

فيا أيّها المسلمون: تتعاقَب الأعوامُ، وتتوالى الشّهور، والأعمارُ تُطوى، والآجال تُقضى، وكلُّ شيءٍ بأجلٍ مسمّى.

وفي استقبالِ عامٍ وتوديع آخَر فُرَص للمتأمِّلين، وموعظةٌ للمتَّعظين، وذكرَى للمتدبِّرين، وعبرةٌ للمعتبرين: (يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ) [النور:44].

فالعاقل البصيرُ، والحاذق القدير، هو من يتَّخِذ من صفَحاتِ الدّهر وانطوائِه وقفاتٍ للمحاسبةِ الجادّة، ولحظاتٍ للمُراجعةِ الصّادقة، ومحطَّاتٍ للنّظَر في الأحوال، والتفطّن في الأوضاع.

إنَّ المؤمنَ حينما يودِّع مرحلةً من عمُره ويستقبِل أخرى، فهو في حاجَةٍ ماسّة لمحاسَبَة نفسِه، وتقييمِ مسارِه، فحقٌّ على الحازِمِ الموقن باللهِ واليومِ الآخر أن لا يغفلَ عن محاسبةِ نفسِه، ومراجعة ميزانِ حرَكَاتها وسكنَاتها، وتقييمِ مسارها في ماضِيها وحاضرِها ومستقبلها؛ يقول ابن القيّم -رحمه الله-: "وهلاكُ القلب من إهمالِ محاسبَتِها -أي: النفس- ومِن موافَقَتِها واتِّباع هواها".

إِخوة الإسلام: مجامِع الخير، ومكامِن السعادةِ في محاسبةِ المؤمن نفسَه، ينهاها عن كلِّ غيٍّ، ويزجُرها عن كلِّ إثم، ويسوقُها إلى مواطِنِ الخير وموارِدِ البرِّ، ويكفُّها عن مواقِع الآثام والشّرورِ. والكيِّس من دان نفسَه، وعمِل لما بعدَ الموت، والعاجز من أتبَع نفسَه هواها، وتمنَّى على الله الأماني؛ وربّنا -جل وعلا- يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر:18].

ذكَر الإمام أحمد عن عمَرَ -رضي الله عنه- أنّه قال: "حاسِبوا أنفسَكم قبل أن تحاسَبوا، وزِنوها قبل أن توزَنوا، فإنّه أهون عليكم في الحسابِ غدًا، أن تحاسِبوا أنفسَكم اليومَ، وتزيَّنوا للعرضِ الأكبر". (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ) [الحاقة:18].

وصايا سَلفِ هذه الأمّةِ تذكِّرنا كثيرًا بالحِرصِ علَى انتهازِ الفرَصِ بمحاسبَةِ النفس، ومعاهَدَتها في كلِّ وقتٍ وحين، يقول الحسن -رحمه الله-: "إنّ العبدَ لا يزال بخيرٍ ما كان له واعظٌ من نفسِه، وكانت المحاسبةُ من هِمَّته". "المؤمِنُ قوّام على نفسه لله، وإنما يخفُّ الحساب يومَ القيامة على قومٍ حاسبوا أنفسَهم في هذه الدنيا".

ويقول ميمون بن مهران -رحمه الله-: "إنّ التّقيَّ أشدُّ محاسبةً لنفسِه من سلطانٍ قاضٍ ومِن شريكٍ شَحيح".

وفي كلامٍ بديع مَتين يقول ابن القيِّم -رحمه الله-: "وقد مثلت النفس مع صاحبها بالشريك في المال، فكما أنه لا يتم مقصود الشركة من الربح إلا بالمشارطة على ما يفعل الشريك أولاً، ثم بمطالعة ما يعمل والإشراف عليه ومراقبته ثانيًا، ثم بمحاسبته ثالثًا، ثم يمنعه من الخيانة إن اطلع عليه رابعًا، فكذلك النفس: يشارطها أولاً على حفظ الجوارح السبعة التي حفظها هو رأس المال والربح بعد ذلك، فمن ليس له رأس مال فكيف يطمع في الربح، وهذه الجوارح السبعة -وهي العين والأذن والفم والفرج واليد والرجل- هي مراكب العطب والنجاة، فمنها عطب من عطب بإهمالها وعدم حفظها، ونجا من نجا بحفظها ومراعاتها، فحفظها أساس كل خير، وإهمالها أساس كل شر...". إلى أن قال: "فإذا شارَطَها على حِفظ هذه الجوارِحِ، انتَقَل من هذه المشارطةِ إلى مطالَعَتها والإشرافِ عليها ومراقَبَتها، فلا يُهملها، فإنه إن أهمَلها لحظةً وقعَت في الخيانةِ ولا بدّ، فإن تمادَى في الإهمالِ، تمادَت في الخيانةِ، حتى يذهَبَ رأسُ المال كلّه، فمتى أحسَّ بالخسران وتيقَّنه، استدرَك منها ما يستدرِكه الشريك من شريكِه من الرّجوع عليه بما مضَى، والقيامِ بالحِفظ والمراقبةِ في المستقبل". انتهى.

أخي المسلم: تذكَّر وأنت تودِّع عامًا وتستقبِل آخَر أنَّ نجاتَك من محاسبة نفسِك وفوزَك في معاهدةِ ذاتِك: هل تجِدُك عاملاً بمقتَضَى أوامِرِ الله وأوامر رسوله –صلى الله عليه وسلم-؟! هل أنت طائعٌ لله في كلِّ شأن، متَّبِع لرسول الله –صلى الله عليه وسلم- في كلِّ لحظةٍ وآن؟! هل كَفَفت النفسَ عن العِصيان وزَجَرتها عن الآثام؟! هل قمتَ بحقوق الخالِقِ كاملةً غيرَ منقوصة؟! هل أدَّيتَ حقوقَ المخلوقِ وافيةً غيرَ مبخوسة؟! هل تفقَّدتَ نفسَك وما فيها من الموبقاتِ وعالجتَها عمّا فيها من المهلكاتِ؟! ألا فليكُن لك من تِلك المحاسبةِ ما يكفُّك عن المناهِي والسيِّئات، ويسوقك إلى فعل الأوامر والطاعات، ولا تكُن ممّن يرجو الآخرةَ بغيرِ عمل ويؤخِّر التوبةَ بطول الأمل: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمْ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) [الحديد:16].

إخوةَ الإسلام: العُمر أعوامٌ وسنَوات، والمؤمِنون الموفَّقون في زيادةٍ من الخير والتقوى، وفي سعيٍ حثيثٍ للفوزِ بالأخرى مهما توالَت عليهم الأعوام. المتَّقون في كلِّ زمنٍ وحين لا يزدادُون بالأعوام إلاّ خيرًا وبِرًّا، ولا تمرّ بهم السّنون إلاّ وهم في مسارعةٍ للخيرات، واغتنامٍ للصّالحات، فربّنا -جل وعلا- يذكِّرنا بوصيّةٍ، ألا وهي قوله: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران:133]، ورسولُنا –صلى الله عليه وسلم- يقول في دعائِه: "اللهمَّ اجعَل الحياةَ زيادةً لي في كلِّ خير"، ويقول: "خيرُكم من طالَ عُمره وحسُن عملُه".

فكن -أيّها المسلم- على حذرٍ من تضييعِ الأعمارِ سُدى، ومن تفوِيتِ السنواتِ غُثا؛ فربُّنا -جلّ وعلا- يقول: (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ) [فاطر:37]، قال النوويّ -رحمه الله-: "قال ابن عبّاس والمحقّقون: معناه: أولَم نعمِّركم ستِّين سنة؟!"، وفي البخاريّ عن النبيِّ –صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "أعذَرَ الله إلى رجلٍ أخَّر أجلَه حتى بلَغَ السّتّين". قال النووي: "معناه: لم يترك له عذرًا؛ إذ أمهَلَه هذه المدّةَ".

معاشرَ المسلمين: في انصرامِ عامٍ وحلول آخَر موعِظةٌ وتذكير بأنَّ هذه الدنيَا لا تبقى على حالٍ، أمانيها كاذِبة، آمالها باطِلة، عيشُها نكد، صَفوُها كدَر، المرء منها على خطَر؛ إمّا نِعمةٌ زائلة، وإمّا بليّة نازلة، نعيمُها ابتلاء، جديدُها يَبلي، مُلكها يَفني، أيّامُها معدودة، آجالها مكتوبَة، هي بمثابةِ ظلٍّ زائل أو سَرابٍ راحل، هي كأحلامِ نائِم أو كظلٍّ زائل، والله المستعان وعليه التّكلان: (يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ) [غافر:39]، (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا) [الكهف:45].

فطوبى لمن لم تَشغَله هذه الدّنيا عن الاستعدادِ للدّار الباقِيَة، وهنيئاً لمن لم يغترَّ ببريقِ هذه الدّنيا وسرابها وزينَتِها وزخارِفها عن الاستعداد ليومِ الرّحيل، والفوزُ والفلاح إنما هو لمن جعَل هذه الدنيا مَعبَرًا للدّار الآخرة، وميدانًا للتّنافُس في الصالحات الباقيَة، روى مسلم عن النبيِّ –صلى الله عليه وسلم- أزهدِ مخلوق وأكرَمِهم عند ربّه أنه يصِف الدنيا بقوله: "إنّ الدنيا حلوةٌ خضِرة، وإن اللهَ مستخلِفُكم فيها فينظُر كيف تَعملون، فاتّقوا الدنيا واتّقوا النساء، فإنَّ أوّلَ فِتنةِ بني إسرائيل في النساء".

وخطب عمر بنُ عبد العزيز في الناس فقال: "أيّها الناس: لكلِّ سَفَرٍ زادٌ، فتزوَّدوا لسفَرِكم من الدّنيا إلى الآخرة بالتّقوى، وكونوا كمَن عايَنَ ما أعدَّ الله له من العَذاب، فترَغَّبوا وترهَّبوا، ولا يطولَنَّ فيكم الأمَد فتقسوَ قلوبكم وتنقادوا لعدوِّكم، فإنّه والله ما بُسِط أمَلُ من لا يدرِي لعلّه لا يمسي بعدَ صباحِه ولا يصبِح بعد مسائه".

فحقٌّ على كلِّ مكلَّف وحَتمٌ على كلّ عاقل -وهو يودِّع عامًا ويستقبل آخرَ- أن يقِف وقفةَ صِدق يحاسِب فيها نفسَه ويسائل ذاتَه؛ ليجعَلَ تقلُّبَ الأزمان من أنصح المؤدِّبين وأفصحِ الواعظين له، لينتبِهَ من غَفلتِه ويعودَ عن غيِّه ويلينَ من قسوتِه، ففي قوارِع الدَّهر عِبَر، وفي حوادثِ الأيّام مزدَجَر، يحاسِب نَفسَه ليعلَمَ أنّ هذه الدارَ متاعٌ، حالُه فيها بين ماضٍ لا يدري ما الله صانِعٌ فيه، وأجَلٍ قد بقي لا يدري ما الله قاضٍ فيه، فيا صاحبَ البَصَر النافذ والعقلِ الشاهد: تزوَّد من نفسِك لنفسِك، ومن حياتك لموتِك، ومن شبابك لهرمك، ومن صحّتِك لمرضك، فالفُرَص تَفوت، والأجل موقوت، والإقامة محدودَة، والأيّام معدودة، والله المستعان.

إخوةَ الإسلام: في استقبالِ عامٍ وتوديعٍ آخر تأمّلاتٌ للمتأمِّلين، ومواطِنُ تدبّر للمتدبِّرين، وإنّ من أهمِّ ما ينبغي لكلِّ مسلمٍ تذكُّره وتدبّره تلك المآسي التي وقعت في بلادِ الحرمَين في العامِ الماضي من الأفعالِ الإرهابيّة والأعمالِ الإجراميّة التي ما صَبَّت إلا في خدمةِ الأعداء، فحريٌّ بمن زلَّت به القدم، وشانَ منه القول والفعلُ، أن يتّقيَ اللهَ -جلّ وعلا-، وأن يعلَمَ أنّ الله -جل وعلا- له بالمرصاد؛ لأنه آذى عبادَه وأضرّ بخلقِه، والله -جلّ وعلا- يقول: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا) [الأحزاب:58].

إخوةَ الإسلام: تمرّ الأعوام والأمّةُ الإسلاميّة حُبلى بالمشكلاتِ وثَكلى بالفِتن والمغرِيات، فلا بدَّ مِن نَفضِ الغُبار ومراجعةِ المسار، وإنَّ بدايةَ كلِّ عامٍ هجريّ يذكِّرنا بحدثٍ عظيم غيَّر مجرَى التاريخ، حدَث غيَّر فسادَ البشريّة إلى صلاح، وشقاءَها إلى سعادة، حدَث سعدت به البشريّةُ كلُّها، وصلحت به الأحوال جميعُها، إنّه حدَث الهجرَة المحمديّة -على مهاجِرِها أفضل الصلاة والسلام-.

حدَثٌ جعله الله طريقًا للنّصر والعِزّة، ورَفعِ رايةِ الإسلام وتشييدِ دولتِه، وإقامة صرحِ حضاراته، فعَسى الأمّة اليومَ أن تعلَمَ أنّ صلاحَها وسَعادتها وعِزَّها مرهونٌ بمِثل هذا الحدَث وما تضمَّنه من مضامينَ خيِّرة ومعالم واضِحة، مَرهونٌ بالتّمسّك بالإسلام والالتزام بحقائِقِ الإيمان والاعتصامِ بحبلِ الرحمن، فلن تُحَقِّقَ الأمّة قوّةً، ولن تحصِّل عِزّة، ولن تبلُغَ مكانة مرموقةً، حتى يتحقَّق في واقعها وفي واقع حياتها العملُ الكامل الشامل بالإسلامِ عقيدةً وشريعة، عِلمًا وعملاً، سلوكًا وتحرُّكًا، حُكمًا وتحاكمًا.

إنَّ أمّةَ الإسلام لن تنجوَ من مصائبها وآلامها، ولن تتغيَّر أحوالها وتحقِّقَ آمالها، ولن تبلغَ مجدَها التليدَ وعِزَّها المستَلَب وديارها المغتَصَبة وحقوقَها المنتَهَكة، حتى يتحقَّق الإسلام في حياتها واقعًا عمليًّا محسوسًا مُشاهدًا مَلموسًا في كلِّ نواحي الحياة: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى) [طه:123].

فيا قادة المسلمين: ويا علماءها، يا دعاةَ الإسلام، يا مفكِّري المسلمين، يا رجالَ التربية والتعليم والإعلام، يا حملةَ الأقلامِ: المسؤوليّةُ عظيمة، المسؤوليّة أمامَ الله -جل وعلا- عظيمة، فليؤدِّ كلٌّ أمانتَه، وليَقُم بواجبه، قبل فوات الأوانِ، وقبل العَرض على الواحد الدّيّان.

أمّةَ الإسلام: مضى عامٌ من حياتنا وقد كثُرت الفِتَن وتلاطَمَت أمواج المِحَن، استحكَمَت الشّهوات، وكثُرت الشبهات، وتعدَّدت المشكِلات والتحدِّيات، فلا خلاص للمسلمينَ مِن هذا كلِّه إلاّ بأن يتَّجِهَ المسلمون جميعًا -حُكّامًا ومحكومين، شبابًا وشيبًا، رجالاً ونساءً، علماءَ وعامّة- اتِّجاهًا صحيحًا بقلوبِهم وقوالبِهم إلى الوحيَين والعملِ بهما والتمسّكِ بهديِهما على منهج سلَفِ هذه الأمة، فبِذلك تحصُل الرِّفعة والقيادة والكرامةُ والرّيادة والعزّة والسيادة.

إنَّ المسلمين قد كثُرت عليهم المغرِيات والمتغيِّرات، وعظُمت بهم الهجماتُ والتحدِّيات، واشتدَّت بهم الكُرُبات والأزمات، إنهم كما هُم في كلِّ وقتٍ وحين في أشدِّ حاجةٍ وأمسِّ ضرورة إلى الدّواء الحقيقيّ الذي الضّرورةُ إليه فوقَ كلِّ ضرورة، والحاجة إليه أعظمُ من كلِّ حاجة، ذلكم هو التحلِّي بالإيمان والتوكّل والاعتماد عليه وحدَه والالتجاء إلى جنابِه، إنّه التسلُّح بسلاح العقيدةِ الربانية التي ليس على وجهِ الأرض قوّةٌ تضاهِي قوّتَها أو حتى تقارِبها، هي الضّمانُ الأوحَد لاستقامةِ الأفراد واستقرارِ المجتمعات.

ألا فلنتَّخِذ العقيدةَ التي جاء بها محمّدٌ –صلى الله عليه وسلم- ميزاننا في العِلم والعَمَل، ميزاننا في الولاءِ والبراء، شعارنا في الغَضَب والرضا، دستورنا في التربيَةِ والإصلاح، ولهذا فلئن واجهتِ الأمّةُ ألوانًا من التّصدِّي السافر والتّحدِّي الماكر والتآمُر الرهيب من قِبَل أعداء الإسلام، فليذكُرِ المسلمون وهم على أبوابِ سنةٍ هجريّة من هِجرةِ المصطفى –صلى الله عليه وسلم- ليتذكَّروا تلك الحقائقَ التي كلُّها معينٌ صافٍ متدفِّق، هي الشّمس الساطعة، السّناءُ المشرِق، المِشعَل الوضّاء، النورُ المتألِّق للمسلِمين حين تغلِب عليهم الظلماتُ من كلِّ جانب، وتتقاذفُ فيهم أمواجُ المِحَن وحلقاتُ الفتن من كلِّ صَوب، ولا يهلِك على اللهِ إلاّ هالِك، فربّنا -جلّ وعلا- يقول: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) [الأنعام:82]، ويقول -جلّ وعلا-: (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا) [الحج:38].

عباد الله: اتَّقوا الله -جلّ وعلا-، والتزِموا بتلكَ الحقائقِ العظيمة.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويَرضَى، وأشهد أن لا إلهَ إلاّ الله وحدَه لا شريكَ له في الآخرة والأولى، وأشهد أنّ سيدنا ونبينا محمّدًا عبده ورسوله النبي المصطفى والرسول المجتبى، اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابِه الأصفيا.

أمّا بعد:

فيا أيّها المسلمون: اتَّقوا الله حقَّ التقوى، والتزموا بطاعته في السرِّ والنجوى.

أيّها المسلمون: إنّ شهرَكم هذا منهلٌ للبرِّ والإحسان، وموسِمٌ للرِّبح والغُفران، فاجعَلوا التقوى خيرَ بضاعةٍ، وكونوا من أهلِ الفَضل والبِرِّ والطاعة.

عبادَ الله: لقد رغَّب نبيّنا –صلى الله عليه وسلم- في صوم هذا الشهر فقال: "أفضل الصّيامِ بعد رمضان شهرُ الله المحرَّم، وأفضل الصلاةِ بعد الفريضة صلاةُ الليل". أخرجه مسلم. ولهذا يقول العلماءُ: أفضل التطوّعاتِ المطلَقَة من الصّوم صومُ المحرم.

كما حثَّ نبيّنا –صلى الله عليه وسلم- على صوم يومِ عاشوراء، وهو اليوم العاشر من هذا الشهر، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "إني أحتسِب على الله أن يكفِّرَ السّنةَ التي قبله". أخرجه مسلم. وفي حديث ابنِ عباس -رضي الله عنهما- أن النبيَّ –صلى الله عليه وسلم- صام يومَ عاشوراء وأمَرَ الناسَ بصيامه.

والسنّةُ صيام يومِ التاسع مع العاشر، فعند مسلم من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبيَّ –صلى الله عليه وسلم- قال: "لئِن بقيتُ إلى قابلٍ لأصومنَّ التاسع"، فمن لم يتمكَّن من صوم التاسع فالأفضل له والمستحَبّ أن يصومَ اليوم الحادي عشر كما جاء ذلك في الخَبر، وقد عدَّ بعضُ أهل العلم أن الأكمَلَ صومُ يومٍ قبله ويومٍ بعده.

هذا ما وَرَد في فضلِ يوم عاشوراء، وما عداه من إحداثِ عباداتٍ ونوافلَ يُزعَم بهتانًا أنها خاصّة بهذا اليوم، فذلك بدعةٌ لم يرد بها حديثٌ عن المعصوم -صلوات الله وسلامه عليه-، فاتَّبعوا ولا تبتدِعوا.

ثم اعلَموا أنَّ من أفضلِ أعمالنا، وأزكاها عند ربِّنا ومليكِنا: الصلاةَ والسلام على النبيِّ –صلى الله عليه وسلم-.

اللهمّ صلّ وسلّم وبارك وأنعم على سيّدنا ونبيّنا محمّد، وارضَ اللهمّ عن الخلفاء الراشدين...
 

 

 

 

 

 

المرفقات

الجادة

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات