المبادرون

الشيخ عبدالعزيز بن محمد النغيمشي

2024-08-23 - 1446/02/19 2024-08-27 - 1446/02/23
عناصر الخطبة
1/المبادرة معناها وصورها ومظاهرها

اقتباس

تَمَنّى أَنْ يُقْلِعَ عَنْ عادَةٍ رَدِيئَةٍ، أَو أَنْ يَتَخَلَّصَ مِنْ رِفْقَةٍ سَيّئَةٍ، أَو أَنْ يَتَطَهَّرَ ويَتُوبَ مِنْ عَمَلٍ مَشِيْن، أَو تَمَنَّى أَنْ يَبْلُغَ عِلْماً، أَو أَنْ يُحَقِقَ حُلْماً، أَو أَنْ يَكُونَ من الحافِظِين، تَمَنَّى ما تَمَنَّى، فَلَنْ يُدْرِكَ الأُمْنِياتِ إِلا مَنْ وَثَبْ، مُبادِرٌ يَسْتَبِقُ...

الخطبة الأولى:

 

إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أَمَّا بَعْدُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا* يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا

 

أيها المسلمون: مُتَطَلِّعٌ لِكُلِّ مَكْرُمَةٍ، مُتأهِبٌ لِكُلِّ فَضِيْلَةٍ، مُتَشَوِّفٌ لِكُلِّ سانِحَةٍ، مُبادِرٌ لِكُلِّ جَلِيْلَة، هِمَّةٌ مُتَوَقِّدَةٌ وَنَفْسٌ تَوَّاقَة، غايَةٌ مُشْرِقَةٌ ورايَةٌ خَفَّاقَة.

 

مُتَيَقِّظٌ مُتَطَلِّعٌ فَطِنْ، كُلَّما لاحَتْ لَهُ في سَماءِ المَكْرُماتِ مَنْزِلَةٌ طَارَ إِليْها، وكُلَّما أَبْصَرَ في فَضاءِ الفَضِيْلَةِ شَرَفاً حَلَّقَ إِليه، لَهُ خَيْلٌ في صُفُوفِ المُتَسَابِقِيْنَ مُسْرَجَة، ولَهُ سَهْمٌ في مَرَامِيْ المبادِرِيْنَ مُصِيْب، مُبادِرٌ، والمُبادِرُونَ لَهُمْ هِمَمٌ لا مُنتْهِى لِكِبارِها.

 

لهُ هِمَمٌ لا مُنتهى لكِبارِها *** وهمّتُهُ الصُّغْرَى أَجَلُّ مِنَ الدَّهْرِ

 

مُبادِرٌ، وَكَمْ فَازَ بِالمَكْرُمَاتِ المُبَادِر، مُبادِرٌ لِيَلْحَقَ بِرَكْبِ السَّابِقِيْنَ، مُسارِعٌ في الخَيْراتِ لِيَرْتَقِيَ في مَرَاقِي المُقَرَّبِيْن؛ (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا* ذَٰلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ عَلِيمًا).

 

مُبادِرٌ، وَكَمْ فَازَ بِالمَكْرُمَاتِ المُبَادِر، يَغْتَنِمُ أَوقاتَ فَراغِه، يُبادِرُ أَيامَ شَبابه، يَتدارَكُ لحظاتِ عُمُرِهِ، يَسْتَثْمِرُ فُرَصَ الحَياةِ لِيُحَقِّقَ شَرَفاً لَهُ في الدُّنْيا، وسَعادَةً لَهُ في الآخِرَة، يَسْتِبِقُ الخَيْراتِ لا يَتَوانَى، يُسارِعُ في الصَّالحَاتِ لا يَتَباطَأ، يَبْتَدِرُ بَابَ التَوْبَةِ قَبْلَ أَن يُغْلَقْ، ويَسْتَبِقُ طَوْقَ السَّلامَةِ قَبْلَ أَنْ يَغْرَق.

 

مُبادِرٌ، ما دُعِيَ لِمَعْرُوفٍ إِلا لَبَّى، وما أَبْصَرَ فَضِيْلَةً إِلا أَقْبَل، ومَا نُودِيَ لِكَرِيْمَةٍ إِلا أَجَابْ، مُبادِرٌ إِلى الخَيْرِ مُسابِقٌ إِليه، مُتَجافٍ عَنْ الشَّرِ لا يَدْنُو إِليه، سَرِيْعُ الإِفاقَةِ سَرِيْعُ التَوْبَة، سَرِيْعُ النَّدَمِ سَرِيْعُ الأَوبَة، مُبادِرٌ، يَخْشَى فَواتَ المَطلَبِ، يَخْشَى حُلُولَ الحَسْرَةِ، يَخْشَى ذهابَ العُمْرِ في الكَسْبِ الرَديْء.

 

مُبادِرٌ، ولا يَتَخَلَّقُ بأَخلاقِ المُبادِرِينَ إِلا ذُو العَقْلِ السَّوِي، وَالعَزْمِ القَوِي، وَالخُلُقِ الوَفِيّ، يَقْتَنِصُ الفُرَصَ ويُفَعِّلُها، ويَسْتَغِلُّ المَواقِفَ ويَسْتَثْمِرُها، ويَرْتَقِبُ المَغانِمَ ويَبْتَدِرُها، مُبادِرٌ، والغافِلُ السَّاهِيْ أَضاعَ المَغْنَمَ.

 

مُبادِرٌ، أَدْرَكَ بِمُبادَرَتِهِ مَكاسِبَ لَمْ يَنَلْهَا القَاعِدُون، وما تَرَجَّلَ عَنْ جَوادِ السَّبْقِ مُبادِر، وَكَمْ فَازَ بِالمَكْرُمَاتِ المُبَادِر؛ في القُرآنِ قالَ رَبُنا: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ) اغْتَنِمُوها، ابْتَدِرُوها، سارِعُوا إِليها، تَنافَسُوا فيها، اسْتَبِقُوا الخَيْراتِ قَبْلَ فَواتِ الفُرَصِ؛ فَما للفُرَصِ بَقاءٌ يَطُول؛ (اسْتَبِقُوا الخَيْرات)، اعْمَلُوا الخَيرَ عَلى أَكْمَلِ وَجْهٍ، فما سَبَقَ مَنْ لَمْ يُتْقِنْ ما صَنَع، ابْتَدِرُوا الخَيْراتِ، فَمَنْ سَبَقَ في الدُّنْيَا إِلى الخَيْرَاتِ فَهُوَ السَّابِقُ في الآخِرَةِ إِلى الجَنَّاتِ؛ (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ).

 

مُبادِرٌ، لَهُ هِمَّةٌ وعَزِيْمَةٌ وسَبْقُ، لَهُ فِطْنَةٌ ونَباهَةٌ وصِدْقُ، يَسْتَطِلِعُ الفُرَصَ ويَرْتَقِبُها، ويتَحَرَّى النَّفَحاتِ ويَسْتَبِقُها، حَدَّثَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أَصْحابَهُ يَوماً فَقالَ: «عُرِضَتْ عَلَيَّ الأُمَمُ، فَرَأيْتُ النَّبيَّ ومَعَهُ الرُّهَيطُ، والنبِيَّ وَمَعَهُ الرَّجُلُ وَالرَّجُلانِ، والنبيَّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ، إِذْ رُفِعَ لي سَوَادٌ عَظيمٌ، فَظَنَنْتُ أَنَّهُمْ أُمَّتِي، فقيلَ لِي: هَذَا مُوسَى وَقَومُهُ، ولكنِ انْظُرْ إِلَى الأُفُقِ، فَنَظَرتُ فَإِذا سَوادٌ عَظِيمٌ، فقيلَ لي: انْظُرْ إِلَى الأفُقِ الآخَرِ، فَإِذَا سَوَادٌ عَظيمٌ، فقيلَ لِي: هذِهِ أُمَّتُكَ، وَمَعَهُمْ سَبْعُونَ ألفًا يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ بِغَيرِ حِسَابٍ ولا عَذَابٍ»، الحديث، فقامَ عُكَّاشَةُ بنُ مِحْصَنٍ رضي الله عنه مُبادِراً، يَسْتَبِقُ الفُرْصَةَ قَبْلَ فَواتِها، فَقالَ: يا رَسُولَ اللهِ، ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلني مِنْهُمْ، قَالَ: «أنْتَ مِنْهُمْ» ثُمَّ قَامَ رَجُلٌ آخَرُ، فَقَالَ: يا رَسُولَ اللهِ، ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلنِي مِنْهُمْ، فَقَالَ: «سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ»(مُتَّفَقٌ عَلَيهِ)، فازَ مَنْ بادَرْ، وَكَمْ فَازَ بِالمَكْرُمَاتِ المُبَادِرْ.

 

مُبادِرٌ، لا يُرْجِي عَمَلاً حَانَ وَقْتُهُ، ولا يُسَوِّفُ في أَمْرٍ تَحْسُنُ المُبادَرَةُ إِليه، إِذا رَغِبَ في أَمْرٍ امْتَطَى ظَهْرَ العَزِيْمَة، وإِذا أَعْجَبَهُ خُلُقٌ جَدَّ في السَّيْرِ إِليه.

 

إذا كُنْتَ ذَا رأَيٍ فَكُنْ ذا عَزِيْمَةٍ *** فَإِنَّ فَسَادَ الرأَيِ أَنْ تَتَرَدَّدَا

 

مُبادِرٌ، يُنْجِزُ مَطالِبَهُ بِجِدٍّ، ويُؤَدِيْها بِحِرْصٍ، ويُتِمُّها بِعَزِيْمَة، ومَطالِبُ الحَياةِ لا يُجِيْدُ أَدَاءَهَا إِلا المُبادِرُون، ومَشاغِلُها لا يَقْضِيْها إِلا الوَثَّابُون، وعَلى قَدْرِ المُبادَرَةِ تُقضَى الحَوائِجُ، وكَمْ عَضَّ أَصَابِعَ النَّدَمِ مُسَوِّف، وكَمْ تَجَرَّعَ مَرارَةَ الحَسْرَةِ مُتَباطِئ، وأَعالِيْ الأُمُورِ لا يَعْلُو إِلَيْها إِلا مَنْ وَثَب، ومُبادِرُ الخُطُواتِ أَدْرَكَ ما طَلَبْ.

 

تَمَنّى أَنْ يُقْلِعَ عَنْ عادَةٍ رَدِيئَةٍ، أَو أَنْ يَتَخَلَّصَ مِنْ رِفْقَةٍ سَيّئَةٍ، أَو أَنْ يَتَطَهَّرَ ويَتُوبَ مِنْ عَمَلٍ مَشِيْن، أَو تَمَنَّى أَنْ يَبْلُغَ عِلْماً، أَو أَنْ يُحَقِقَ حُلْماً، أَو أَنْ يَكُونَ من الحافِظِين، تَمَنَّى ما تَمَنَّى، فَلَنْ يُدْرِكَ الأُمْنِياتِ إِلا مَنْ وَثَبْ، مُبادِرٌ يَسْتَبِقُ الخُطُواتِ إِليها، وأَمْنِياتٌ تُحْبَسُ بِقُيُودِ العَجْزِ، مَوْءُودَةٌ في مَهْدِها.

 

وعَاجِزُ الرأَيْ مِضْياعٌ لِفُرْصَتِهِ *** حَتَى إِذا فاتَ أَمْرٌ عاتَبَ القَدَرَا

 

مُبادِرٌ، سَمِعَ المُنادِيْ يُنادِيْ: (حَيَّ عَلَى الفَلاحِ) هَلُمُّوا أَقْبِلُوا أَجِيْبُوا دَعْوَةَ رَبِكْم لِتُدْرِكُوا نَيْلَ الفَلاح، فَهَبَّ المُبادِرُ مُسْتَجِيْباً مُسْرِعاً، لَبَيْكَ رَبِيْ لا أَتَأَخَرُ، أَقْبَلَ إِلى الصَلاةِ مُبادِراً والقَلْبُ للهِ أَقْرَبُ، أَدْرَكَ بِمُبادَرَتِهِ ما لَمْ يُدْرِكْهُ المُتَأخِرُون؛ عَنْ أَبِيْ هُرَيْرَةَ -رضيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَال: "لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِيْ النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأوَّلِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا عليه لَاسْتَهَمُوا، وَلَوْ يَعْلَمُونَ ما في التَّهْجِيرِ -أَي التَبْكِيْرِ والمُبادَرَةِ إِلى الصَلاةِ- لَاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ"(مُتَفَقٌ عليه).

 

جَدَّ المُبادِرُ، والسَّاهُونَ قَدْ رَقَدُوا، جَدَّ المُشَمِرُ لا يَلْوِي ولا يَقِفُ؛ (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ).

 

بارك الله لي ولكم،

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله رب العالمين، يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ، وأَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ ولِيُّ الصالحِين، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحمداً رَسُولُ رَبِ العالَمِين، صَلَّى اللهُ وسَلَمَ وباركَ عليه وعلى آلِهِ وأَصْحابِهِ أَجْمَعِين، أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوْا اللهَ -عِبَادَ اللهِ- لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون.

 

أيها المسلمون: المُبادَرَةُ إِلى الخَيْراتِ، مِنْ أَخلاقِ النَّبِيين، وهِيَ مِن أَسْبَابِ رِضَا رَبِّ العالَمِيْن؛ قَالَ مُوْسَى -عليه السلامُ-: (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى)، ولا يُبادِرُ إِلى مَراضِيْ اللهِ، إِلا مَنْ يَرْجُو لِقاءَ رَبِّه، وعَلى قَدْرِ إِيْمانِ العَبْدِ بِلقاءِ اللهِ تَقْوى إِلى الخَيْرِ مُبادَرَتُه، وكُلُّ عَمَلٍ مَحْمُودٍ؛ فَالمُبادَرَةُ إِليهِ مَحْمُودَة، وكُلُّ عَمَلٍ مَذْمُومٍ، ذُمَّ فيها المُبادِر.

 

إَذَا هَـبَّتْ رياحُكَ فَاغْتَنِمْهَا *** فَعُقْبَى كُلِّ خَاِفَقـةٍ سُكُوْنُ

ولا تَزْهَدْ عَنِ الإِحْسَانِ فِيْهَا *** فَمَا تَدْرِيْ السُّكُوْنُ مَتَى يَكُوْنُ

 

إِذا عَزَمْتَ عَلى عَمَلِ خَيْرٍ فَبادِرْ إِليه، فَإِنَّ الصَّوارِفَ قَيْدٌ مَتِيْن، كَمْ عَزَمَ عَازِمٌ عَلى بَذْلِ مالٍ، أَو عَلى إِمْضاءِ وَقْفٍ، أَو عَلى إِثباتِ وَصِيَّةٍ، أَو علَى فِعْلِ خَيْرٍ، فَما زَالَ يُقَدِّمُ في الأَمرِ ويُؤَخِر، وما زالَ يُسَوِّفُ فيهِ ويُؤَجِل، حَتَى تَلاشَتِ هِمَّتُهُ، وانْقَطَعَ عَزْمُهُ، وانْقَضَتْ لَحَظاتُه، فَضاعَتِ فُرْصَةٌ كانَ يُقَلِّبُها بَيْنَ يَدَيْه؛ جاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-؛ فَقَالَ: يَا رسولَ الله، أيُّ الصَّدَقَةِ أعْظَمُ أَجْرًا؟ قَالَ: «أنْ تَصَدَّقَ وَأَنتَ صَحيحٌ شَحيحٌ، تَخشَى الفَقرَ وتَأمُلُ الغِنَى، وَلاَ تُمهِلْ -أَي لا تُؤَجِلْ- حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الحُلقُومَ قُلْتَ لِفُلانٍ كَذَا وَلِفُلانٍ كَذا، وقَدْ كَانَ لِفُلانٍ»(مُتَّفَقٌ عَلَيهِ).

 

مُبادِرٌ، والمُبادِرُ في الفَضْلِ أَسْبَقُ، يُبادِرُ إِلى العَفْوِ، ويُسابِقُ إِلى الصَّفْحِ، ويُسارِعُ إِلى الإِصْلاح، يَكْسِرُ هَوَى النَّفْسِ لِيُكْسِبَها الفَضْلَ، يُبادِرُ بالسَّلامِ عَلى مَنْ يَجْفُو إِذا حَضَرَ، يُبادِرُ بالسَّلامِ، والنَّفْسُ تَأَبى وتَنْفِرُ، ولِكِنَّ مَنْ يَرْجو الجَزاءَ يُعانُ، في الحَدِيْثِ: "يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلامِ"(مُتَّفَقُ عليه)، خَيْرُ المُتُهَاجِرَيْنِ أَبْدَؤُهُما وأَبْدَرُهُما بالسَّلام.

 

مُبادِرٌ، يَتَخَلَّصُ مِنْ أَسْبابِ المَعْصِيَةِ ويَتَوَقَّى بَواعِثَها، مُبادِرٌ إِلى نَبْذِ عَوالِقِ الجاهِلِيَةِ، مُبادِرٌ إِلى طَمْسِ آثارِ مَعْصِيًةٍ قَد تابَ مِنْها، مُبادِرٌ إِلى إِخمادِ شَرارَةٍ قَدْ تُضْرِمُ في النَّفْسِ نِيرانَ الهَوى؛ بَيْنَما كَعْبُ ابنُ مالكٍ -رَضي الله عَنهُ- يُقاسِيْ مَرَارَةَ الهَجْرِ التي فُرِضَتْ عَليهِ، لِتَخَلُّفِهِ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكٍ مَعَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قالَ كَعْبٌ: "فَبيْنَا أَنَا أَمْشِي بِسُوقِ المَدِينَةِ، إذَا نَبَطِيٌّ مِنْ أَنْباطِ الشَّامِ، مِمَّنْ قَدِمَ بِطَعامٍ يَبِيعُهُ بالمَدِينَةِ، يقولُ: مَن يَدُلُّ علَى كَعْبِ بنِ مَالِكٍ؟ قالَ: فَطَفِقَ النَّاسُ يُشِيرُونَ له إلَيَّ، حتَّى جَاءَنِي فَدَفَعَ إلَيَّ كِتَابًا مِن مَلِكِ غَسَّانَ، فَقَرَأْتُهُ فَإِذَا فِيهِ: "أَمَّا بَعْدُ، فإنَّه قدْ بَلَغَنَا أنَّ صَاحِبَكَ قدْ جَفَاكَ، وَلَمْ يَجْعَلْكَ اللَّهُ بدَارِ هَوَانٍ وَلَا مَضْيَعَةٍ، فَالْحَقْ بنَا نُوَاسِكَ، قالَ: فَقُلتُ: حِينَ قَرَأْتُهَا: وَهذِا أَيْضَا مِنَ البَلَاءِ فَتَيَامَمْتُ بهَا التَّنُّورَ فَسَجَرْتُهَا بهَا"، بَادَرِ إِلى إِتلافِ رِسالَةٍ تَحْمِلُ في طَيَّاتِها الفِتْنَةَ والبَلاءَ، والمُبادَرَةُ بإِتْلافِ دَواعِي الفِتْنَةِ أَسْلَمْ.

 

مُبادِرٌ، والمُبادَرَةُ إِلى كُلِّ فَضِيْلَةٍ فَضَيْلَة، والمُسابَقَةُ إِلى عَمَلِ الخَيْرِ اصْطِفاء ومِنَّةٌ وكَرامَة، «بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا» رواه مسلم والمُبادَرَةُ بالأَعْمالِ الصَالحاتِ أَمانٌ وضَمانٌ وَوِقايَة.

 

اللهُم قَوِّ إِيماننا، وثَبْت قُلُوبنا.

 

المرفقات

المبادرون.doc

المبادرون.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات