المال الطيب والمال الخبيث: مقارَنات وتوضيحات

عبدالمحسن بن محمد القاسم

2022-11-04 - 1444/04/10 2022-11-04 - 1444/04/10
التصنيفات: المعاملات
عناصر الخطبة
1/محامد المال وفوائده الحسنة 2/الأمر بالأكل من الطيبات وكسب الحلال 3/إضاءات على التعامل بالمال حِلًّا وحُرمةً 4/بركة الحلال وفضائله 5/المال الحرام ممحوق البركة قليل النفع

اقتباس

المالُ الحرامُ وإن كَثُرَ فهو ممحوقُ البركة، جالبٌ للشؤم والمصائب، مانعٌ للسعادة، مُغضِبٌ للرب، وإن رفَع العبدُ يديه إلى السماء لا يُستجاب دعاؤه، والعاقلُ مَنْ وضَع المالَ في يده ولم يَجعَلْه في قلبه، واتقى اللهَ فيه...

الخطبة الأولى:

 

إنَّ الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنَّ نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

 

أما بعدُ: فاتقوا الله -عباد الله- حق التقوى، ورَاقِبُوه في السِّرِّ والنَّجْوَى.

 

أيها المسلمون: المالُ نعمةٌ من الله عظيمةٌ، به تُعمَر الأرضُ، وتُفرَّج الكروبُ، وتُقضى الحاجاتُ، وتُؤتَى المروءاتُ، وتُكتَسب المحامدُ، قال عليه الصلاة والسلام: "نِعْمَ المالُ الصالحُ للمرءِ الصالحِ"(رواه البخاري) في الأدب المفرد، ولا يقوم عيشُ الناس إلا بالمال؛ ولذلك زُيِّنَ لهم وحُبِّبَ إلى نفوسهم، قال -جل شأنه-: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ)[آلِ عِمْرَانَ: 14].

 

وكلُّ ما في الأرض من الطَّيِبات الأصلُ فيه الإباحةُ للخَلْق؛ ليستعينوا به على طاعة الله، قال تعالى: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ)[الْجَاثِيَةِ: 13]،، وسُنَّةُ المرسلينَ وأتباعهم أخذُ الحلال والأكلُ من الطيبات؛ (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا)[الْمُؤْمِنَونَ: 51]، وجميع الأمم السالفة امتحنها الله بفتن وفتنة هذه الأمة المال، قال عليه الصلاة والسلام: "إن لكل أمة فتنة، وفتنة أمتي المال"(رواه أحمد)، والعبد مسؤول عن ماله فيما اكتسبه وفي وجوه إنفاقه، قال الرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تزولُ قدَمَا عبدٍ يومَ القيامةِ حتى يُسألَ عن عُمُرِه فيما أفناه، وعن عِلْمِه فيمَا فعل، وعن ماله من أين اكتسبه وفيمَا أنفقه، وعن جسمه فيما أبلاه"(رواه الترمذي).

 

ومعامَلةُ الناس بالمال ميزان الأخلاق، ومَيدانُ المروءاتِ؛ فمَنْ عامَل الناسَ بالمال وشَهِدُوا له بالصدق والأمانة؛ فذلك دليلٌ على وُفُورِ عَقلِه، وكمال ديانته، وحقوق العباد فيما بينَهم مبنيةٌ على المشاحَّة؛ لذا نهى اللهُ عبادَه أن يأكل بعضُهم أموالَ بعض؛ لِمَا في ذلك من إذكاء الشحناء والعداوات والبغضاء، قال سبحانه: (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ)[الْبَقَرَةِ: 188]، وحرمة المال كحرمة الدماء والأعراض، خطب النبي -صلى الله عليه وسلم- الناس يوم النحر بمنى فقال: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا"(مُتَّفَق عليه).

 

والمعامَلةُ بين الناس بالمال من أصول المباحات التي لا غنى للناس عنها في حياتهم، ولا يتمُّ انتفاعُهم واستمتاعُهم بذلك إلَّا مع الصدق والأمانة، وللشيطان مداخلُ عديدةٌ في معامَلات الناس المالية؛ ليُوقِعَهم فيما حُرِّمَ عليهم، وقد جاءت النصوصُ بالوعيد الشديد لِمَنْ وقَع في شَرَكِ الشيطانِ فأكَل أموالَ الناس بالباطل بأيِّ نوعٍ من الأنواع.

 

والصدقُ والبيانُ أصلٌ في المعامَلات بين الناس، قال عليه الصلاة والسلام: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما"(متفق عليه)، ومَنْ خالَفَهما فباع لأخيه عينًا مُحرمةً، أو باعَه ما ليس مِلكًا له، أو لا قدرة له على تسليمه والانتفاع به؛ فقد وقَع فيما نُهي عنه.

 

وبيع ما فيه غررٌ أو جهالةٌ أو الغش في المبيع ممَّا جاء فيه الوعيدُ، قال أبو هريرة -رضي الله عنه-: "مر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على صبرة طعام فأدخل يده فيها، فنالت أصابعه بللا، فقال: ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال: أصابته السماء يا رسول الله. أي: المطر. قال: أفلا جعلتَه فوق الطعام كي يراه الناس؟ مَنْ غَشَّ فليس مني"، والمؤمنون لُحمَةٌ واحدةٌ، وممَّا يفرقهم التنافسُ المذمومُ في المال، فمَن باع على بيع أخيه أو سام على سومه أو زاد عليه في ثمن سلعة وهو غير راغب فيها فَقَدِ ارتكَب مُحرَّمًا، قال صلى الله عليه وسلم: "لا تحاسَدُوا، ولا تناجَشُوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يَبِعْ بعضُكم على بيع بعض"(رواه مسلم)، والله -سبحانه- عظيم لا يُحلَف باسمه إلا في أمر عظيم، والمؤمن يتنزَّه عن الحَلِف في المعامَلات، فمَنْ حلَف صادقًا على سلعة ليُرغِّبَ الناسَ في شرائها نُزعت بركة ماله، قال عليه الصلاة والسلام: "الحلف منفقة للسلعة -أي: مظنة لرواجها- ممحقة للبركة؛ أي: سبب لنزع بركته" مُتَّفَق عليه.

 

ومَنْ حلَف بالله كاذبًا على سلعة لترُوج في الناس فقد جمَع بين قبائح ثلاث: الكذبِ والتهاونِ بالله وغَرَرِ المشتري، قال أبو ذر -رضي الله عنه-: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ثلاثة لا يكلمهم الله يومَ القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكِّيهم ولهم عذابٌ أليمٌ، قال: فقرأها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثلاثَ مرار، قال أبو ذر: خابُوا وخَسِرُوا. مَنْ هم يا رسول الله؟ قال: المسبل والمنَّان والْمُنفِقُ سلعتَه بالحَلِف الكاذب"(رواه مسلم).

 

والوفاء بالعقود وحفظ العهود وأداء ما تشارَط الناس عليه من محاسن الدِّين التي أمَر بها، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)[الْمَائِدَةِ: 1]، وقال عليه الصلاة والسلام: "المسلمون على شروطهم إلا شرطًا حرَّم حلالًا أو أحلَّ حرامًا"(رواه الترمذي).

 

والمشتري يستحِقُّ كاملَ ما عاوَض عليه من العين، والمطفِّف بنقص ما يستحقه المشتري وعده الله بالخسار والهلاك، قال تعالى: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ)[الْمُطَفِّفِينَ: 1-3].

 

وآكل الربا يأخذ أكثر مما يستحقه، ولَمَّا كان مُظهِرًا قوتَه للضعيف حارَبَه اللهُ القويُّ؛ قال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ)[الْبَقَرَةِ: 278-279]، وهو مع خسرانه في الحرب متوعَّد باللعن، قال جابر -رضي الله عنه-: "لعَن رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- آكِلَ الربا ومُؤكِلَه وكاتِبَه وشاهِدَيْه، وقال: هُمْ سواءٌ"(رواه مسلم).

 

والشرطُ في الأجير القوةُ والأمانةُ، قال تعالى: (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ)[الْقَصَصِ: 26]، ومَنِ ادَّعى معرفةَ عمل وهو لا يعرفه وأخَذ من الناس أموالَهم بسبب ذلك فقد زوَّر عليهم بما ليس عندَه، قال عليه الصلاة والسلام: "المتشبِّعُ بما لم يُعطَ كلابِسِ ثوبَي زُورٍ"(متفق عليه)؛ أي المتكثِّر بما ليس عندَه؛ بأن يُظهِر أن عندَه ما ليس عنده يتكثَّر بذلك عند الناس ويتزيَّن بالباطل فهو مذموم كما يُذَمّ مَنْ لَبِسَ ثوبَي زُورٍ.

 

والله -سبحانه- خصمٌ للظالمينَ، وصرَّح بأنَّه خصمٌ لثلاثة؛ لفظاعة أمرهم، ومن أولئك مَنْ مَنَعَ الخدمَ والأجراءَ حقوقَهم أو ماطَل في أدائها، قال عليه الصلاة والسلام: "قال الله -تعالى-: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدَر، ورجل باع حُرًّا فأكَل ثمنَه، ورجل استأجَر أجيرًا فاستوفى منه ولم يُعطِه أَجرَه"(رواه البخاري).

 

ومَنْ أحسَن إلى غيره وأقرضَه فحقُّه الشكرُ والامتنانُ، والمدينُ القادرُ على وفاء دَينه ولا يوفيه لصاحبه أو يماطل في ذلك ظالم للدائن، جاحد لإحسانه، آكل لأموال الناس بالباطل، قال عليه الصلاة والسلام: "مَطْلُ الغنيِّ ظلمٌ"(متفق عليه)، وحقوق الخلق مبنيَّة على إعطاء ذي الحق حقَّه، وعلى منع مَنْ لا يستحق ما يطلبه، ودَافِعُ الرشوةِ وآخِذُها متعرِّضٌ لِلَعْنَةِ اللهِ، قال عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-: "لعَن رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- الراشيَ والمرتشيَ"(رواه الترمذي).

 

ومن توَّلى أمرًا، أو تقلَّد منصبًا، فَقبِل هدايا الناس فهو آخِذ لها بغير حق، وسيَلقى الله وهو حامل لها، قال أبو حميد الساعدي -رضي الله عنه-: "استعمَل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلًا على صدقات بني سُليم يدعى ابن اللُّتِّبِيَّةِ، فلما جاء حاسَبَه، فقال: هذا ما لكم وهذا هدية، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: فهلا جلست في بيت أبيك وأمك حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقا؟ ثم قال: إني أستعمل الرجل منكم على العمل ممَّا ولَّاني الله، فيأتي فيقول: هذا ما لكم، وهذا هدية أُهديت لي، أفلا جلَس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديتُه؟! واللهِ لا يأخذ أحدٌ منكم شيئًا بغير حقِّه إلا لقي اللهَ يحمله يوم القيامة، ثم رفَع يدَه حتى رُئي بياض إبطه يقول: اللهم هل بلغتُ؟"(رواه البخاري).

 

والأمانة ممَّا أمَر به النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- في مَطلَعِ بَعثتِه، قال هرقل لأبي سفيان: فماذا يأْمركم به -أيُّ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- قال: يأمرنا أن نعبدَ اللهَ وحدَه ولا نشركَ به شيئًا، وينهانا عمَّا كان يَعبُدُ آباؤنا، ويأمُرُنا بالصلاة والصدقة والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة"(رواه البخاري)، وهي ممَّا يُحاسَب عليها العبدُ يومَ القيامةِ في أشدِّ المواقفِ؛ ولعِظَمِ شأنِها ورعايةِ حقِّها تُمَثَّلُ عندَ الصراطِ، قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "ترسل الأمانة والرحم فتقومان جنبتي الصراط يمينًا وشمالًا"(رواه مسلم).

 

والناظر على أوقاف المسلمين إذا لم يتحرَّ الأنفع لهم أو أكَل منها فوق ما جُعِلَ له أو حَرَمَ مستحِقًّا أو خالَف شرط الواقفين فقد ضيَّع ما استؤمن عليه، وربُّكَ له بالمرصاد، ولم يُنفِّذ وصيةَ ميْته أو أبطأَ في إنفاذها أو خالَف مقتضاها أو أخفى منها ما ينقص حظه فقد ظلم الميت، واللهُ رقيبٌ عليه.

 

والوصي على اليتيم والضعفاء، إذا حافَ عليهم، أو منَعَهم حقوقَهم فهو ظالمٌ لهم، قال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا)[النِّسَاءِ: 10]، ومَنْ كانت في يده أمانةٌ أو عاريَّةٌ فجَحَدَها، أو فرَّط في حفظها فأتلَفَها، أو استأجَر عَينًا فأفسَدَها، أو استأمَنَه الناسُ في معامَلة فخانَهم؛ فقد أكل ما لا بالباطل، والجاحد كالسارق، قالت عائشة -رضي الله عنها-: "كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده، فأمَر النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أن تُقطَع يدَها"(رواه مسلم)، ومَنْ حَرَمَ وارثًا نصيبَه من التركة أو نقص منه أو أخفاه فقد أكل حرامًا، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أَلحِقُوا الفرائضَ بأهلها"(متفق عليه)، ومن استطال على ضعيف من والدة أو زوجة أو بنت بقُوَّته وولايته وقوته، وأخَذ مالَهم، فليتذكَّرْ قوةَ الله عليه، قال عليه الصلاة والسلام: "لا يَحِلُّ مالُ امرئٍ إلا بِطِيبِ نفسٍ منه"(رواه أحمد).

 

ومَنْ غصَب أرضًا أو غيَّر أعلامها جُوزِيَ بجنسِ ما ظلَم، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ ظَلَمَ قِيدَ شِبرٍ من الأرض طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَاضِينَ"(متفق عليه)؛ أي: تصير البقعة المغصوبة منها في عنقه كالطوق إلى السافلين.

 

ومن اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه ولو كان شيئًا يسيرًا أوجب الله له النار، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة، فقال له رجل: وإن كان شيئًا يسيرًا يا رسول الله؟ قال: وإن قضيبا من أراك"(رواه مسلم).

 

والذي يسأل الناس أموالهم من غير فاقة ولا جائحة مهلكة فإنما يسأل جمرا، قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "من سأل الناس أموالهم تكثرا فإنما يسأل جمرا، فليستقل أو ليستكثر"(رواه مسلم).

 

وكل معاملة بين الناس اشتملت على ظلم أو ضرر أو حيلة أو على منع ما أوجب الله أو فِعْل ما حرَّمَه فهي من أكل المال الباطل، وللحرام حمى من المشتبهات، ومن جاوز الحمى خيف عليه الوقوع في الحرام، ومن اتقى الأمور المشتبهة واجتنبها فقد حصن عرضه وبرأ دينه، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، وخرج من الدنيا وليس بينه وبين أحد من المسلمين خصومة في نفس أو مال، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة في دم ولا مال"(رواه أحمد).

 

وبعد أيها المسلمون: فالمال الحرام وإن كَثُرَ فهو ممحوقُ البركة، جالبٌ للشؤم والمصائب، مانعٌ للسعادة، مُغضِبٌ للرب، وإن رفَع العبدُ يديه إلى السماء لا يُستجاب دعاؤه، والعاقلُ مَنْ وضَع المالَ في يده ولم يَجعَلْه في قلبه، واتقى اللهَ فيه، خرج رفاعة -رضي الله عنه- مع النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المصلى، فرأى الناس يتبايعون، فقال: "يا معشر التجار"، فاستجابوا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورفعوا أعناقهم وأبصارهم إليه، فقال: "إن التجار يبعثون يوم القيامة فُجَّارًا إلا من اتقى الله وبر وصدق"(رواه الترمذي).

 

والمالُ الحلالُ وإن كان قليلًا فهو كثيرٌ مع القناعة، وهو خيرٌ للعبد من التنافس في المال من غير وَرَع ولا هُدًى من الله، قال عليه الصلاة والسلام: "والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلكم كما أهلكتهم" مُتَّفَق عليه.

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ)[النِّسَاءِ: 29].

 

بارَك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإيَّاكم بما فيه من الآيات والذِّكر الحكيم، أقول قَوْلِي هذا وأستغفِر اللهَ لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ فاستغفِروه، إنَّه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمدُ لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقه وامتنانه، وأشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له تعظيمًا لشأنه، وأشهدُ أنَّ نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا مزيدًا.

 

أيها المسلمون: المال الحلال كثير طيب، والله -تعالى- رب الطيبين، ومن حفظ حدود الله فيما آتاه وأدى حقوقه فيما رزقه تفضل عليه الرب وأكرمه وأجاب دعوته وبارك له في القليل من ماله، ووسع عليه في رزقه، ومن آتاه الله ما لا حلالًا واستعمله في الطاعة وجانب به المعصية فقد أوتي ما يَغبِطُه عليه الصالحون؛ قال عليه الصلاة والسلام: "لا حسدَ إلا على اثنتين: رجل آتاه الله الكتاب وقام به آناء الله، ورجل أعطاه الله ما لا فهو يتصدق به آناء الله والنهار"(مُتَّفَق عليه).

 

والمفلِس مِنَ الخَلق على الحقيقة ليس مَنْ فاتَه الغنى لقلة ماله، لكن المفلس من فاته تحصيل الحسنات وترك السيئات وأكل أموال الناس بالباطل، وخاض بغير حق في أعراضهم ودمائهم.

 

ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيه، فقال في محكم التنزيل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِكْ على نبينا محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعنا معهم بجودك وكرمك يا أكرم الأكرمين.

 

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل اللهم هذا البلد آمِنًا مطمئنًا رخاء وسائر بلاد المسلمين، اللهم وفق إمامنا وولي عهده لما تحب وترضى، وخذ بناصيتهما للبر والتقوى، وانفع بهما الإسلام والمسلمين يا رب العالمين، ووفق جميع ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك وتحكيم شرعك يا ربَّ العالمينَ.

 

(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ: 201]، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء إليك، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا.

 

(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[الْأَعْرَافِ: 23].

 

عبادَ اللهِ: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النَّحْلِ: 90]، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)[الْعَنْكَبُوتِ: 45].

المرفقات

المال الطيب والمال الخبيث مقارَنات وتوضيحات.pdf

المال الطيب والمال الخبيث مقارَنات وتوضيحات.doc

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات
عضو نشط
زائر
28-12-2023

ورد في الخطبة : 

بالمرصاد، ولم يُنفِّذ وصيةَ ميِّتِه أو أبطأَ في إنفاذها أو خالَف مقتضاها

و لعل الصحيح : و من لم ينفذ وصية ميته

 

أحسنت جزيت خيرا

عضو نشط
زائر
29-12-2023

ارجو تصحيح ضبط ما يلي :

يدعى ابن اللُّتِّبِيَّةِ

حيث شدد التاء و حقها السكون