عناصر الخطبة
1/ قصة عجيبة فريدة 2/ آلام أم سلمة وآمالها 3/ الثقة واليقين برب العالمين 4/ كيف نهيئ أنفسنا لاستقبال الأقدار المؤلمة؟ 5/ موقع عجيب لأم مات ابنها 6/ ثمرات الرضا بالقضاء والقدر.اقتباس
ماذا ينتظرُ الإنسانُ في مُستَقبلِه؟ .. هَلْ يَنْتَظِرُ إِلَّا فَقْرًا مُنْسِيًا، أَوْ غِنًى مُطْغِيًا، أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا، أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا، أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا، أَوْ الدَّجَّالَ؛ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ، أَوْ السَّاعَةَ؛ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ؟ فهل هيَّأنا أنفسَنا على استقبالِ الأقدارِ المُؤلمةِ؟.. يا أهلَ الإيمانِ.. امرأةٌ يموتُ ابنُها الصَّغيرُ، فتُغطيهُ في غرفةٍ من غُرفِ البيتِ .. وتأتي إلى زوجِها بالعشاءِ .. وتتزيَّنُ له ويُعاشرُها تلكَ الليلةَ .. ولا يظهرُ عليها شيءٌ من الجَزعِ أو الحُزنِ أو الهَمِّ؟ .. إِنَّ هَ?ذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ .. فلا إلهَ إلا اللهُ .. ما الذي جعلَ أمَّ سُلَيْمٍ تَثبتُ في موقفٍ يتساقطُ فيه الرِّجالُ .. وما الذي جعلها تحملُ حِملاً تتقطَّعُ له أعناقُ الجِمالِ .. إنه الاستسلامُ والإيمانُ بقضاءِ اللهِ –تعالى- وقدرِه ...
الخطبة الأولى:
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 71- 72].
قالت أمُّ سلمةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-: لما عَزَمَ أبو سلَمَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- على الهِجْرَةِ إلى المَدينةِ أعَدَّ لي بعيراً، ثمَّ حَمَلَني عليه، وجعلَ طِفْلَنا سَلَمَةَ في حِجْري، ومضَى يقودُ بِنا البعيرَ وهو لا يَلْوي على شيءٍ، وقبلَ أن نَفْصِلَ عَنْ مَكَّةَ، رآنا رِجالٌ مِنْ قَوْمي بني مَخزومٍ فَتَصَدَّوْا لنا، وقالوا لأبى سَلَمَةَ: إن كنتَ قد غَلبْتَنا على نَفسِك، فما بالُ امْرَأتِكَ هذه؟، وهي بِنْتُنا، فعلامَ نَتْرُكُكَ تأخُذُها مِنَّا وتسيرُ بها في البلادِ، ثم وَثَبوا عليه، وانْتَزَعوني منه انْتِزاعاً.
وما إن رآهم قومُ زوجي بنو عَبْدِ الأسَدِ يأخذونَني أنا وطِفْلي، حَتَّى غَضِبوا أشَدَّ الغَضَبِ، وقالوا: لا واللّهِ لا نتْرُكُ الوَلَدَ عِنْدَ صاحِبَتِكم بعد أن انْتزعتُمُوها من صاحِبِنا انْتِزاعاً.. فهو ابْنُنا ونحن أولى به، ثم طَفِقُوا يتجاذَبون طِفْلي سلمةَ بيْنَهم عَلَى مَشْهَدٍ منِّي حتَّى خَلَعوا يَدَهُ وأخَذوه.
وفي لَحَظَاتٍ وَجَدْتُ نَفْسِي مُمَزَّقَةَ الشَّمْلِ وحيدةً فريدةً، فزوجي اتَّجه إلى المدينةِ؛ فِراراً بدينه ونَفْسِه .. وولدي اخْتَطَفَه بنو عبدِ الأسَدِ من بينِ يَدَيَّ مُحَطَّماً.. أما أنا فقد اسْتَوْلَى علَّي قَوْمي بنو مخزومٍ، وجعلوني عِنْدَهم، فَفُرِّقَ بَيْني وبينَ زَوْجي وَبَيْنَ ابني في ساعةٍ.
ومُنذ ذلك اليومِ جَعَلْتُ أخرُجُ كُلَّ غَداةٍ إلى الأبطَحِ، فأجْلِسُ في المكانِ الذي شَهِدَ مأساتي، وأستعيدُ صورةَ اللَّحظاتِ التي حِيلَ فيها بيني وبينَ وَلدي وزَوْجِي، وأظَلُّ أبكي حتَّى يُخيّمَ عليَّ الليلُ.
وبقيتُ على ذلك سَنةً أو قريباً مِنْ سَنةٍ إلى أنْ مَرَّ بي رَجُلٌ من بني عَمِّي، فَرَقَّ لحالي ورَحِمَني وقالَ لِبني قومي: ألا تُطْلِقونَ هذه المسكينةَ، فَرَّقْتُم بينَها وبينَ زَوْجِها وبينَ ولدِها، وما زالَ بهم يَسْتَلينُ قلوبَهم ويَسْتَدِرُّ عَطْفَهم، حتَّى قالوا لي: اِلحقي بزوجِك إن شِئْتِ.
قالتْ: ولكِنْ كيفَ لي أن ألْحَقَ بِزَوجي في المدينةِ وأترُكَ ولدي وفِلْذَةَ كَبِدي في مكَّةَ عنْدَ بني عبدِ الأسدِ، فَكيفَ يمكنُ أن تَهْدَأ لي لوعَةٌ أو تَرْقأ لعيني عَبْرَةٌ وأنا في دارِ الِهجْرَةِ وولدي الصغيرُ في مكَّةَ لا أعرِفُ عنه شيئاً؟!
ورَأى بعضُ الناسِ ما أعالجُ مِنْ أحْزاني وأشْجاني فرقَّت قلوبُهم لحالي، وكلَّموا بني عبدِ الأسَدِ في شَأني واسْتَعْطفوهم عليَّ فَرَدُّوا لي وَلَدي سَلَمَةَ.
ثُمَّ لم أشأ أنْ أترَيَّثَ في مَكَّةَ حتَّى أجِدَ مَنْ أسافِرُ مَعَه؛ فقد كنتُ أخشى أنْ يَحْدُثَ ما ليس بالحِسْبَانِ فَيعوقَني عَنِ اللَّحاقِ بِزَوجي عائِقٌ، لذلك بادرتُ فأعْدَدْتُ بَعيري، ووضَعْتُ ولدي في حِجْري، وخَرَجْتُ مُتَوَجِّهَةً نحوَ المدينةِ أريدُ زَوْجي، وما مَعي أحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللّهِ.
وما إن بَلَغْتُ التَّنعيمَ حتَّى لقيتُ عُثْمانَ بنَ طلحةَ، فقالَ: إلى أين يا بِنْتَ زادِ الراكِـبِ؟، فقلتُ: أريدُ زَوْجي في المدينةِ، قالَ: أوَما مَعَكِ أحدٌ؟، قلتُ: لا واللّهِ إلا اللّهَ، ثم بُنَيَّ هذا، قال: واللّهِ لا أترُكُكِ أبداً حتَّى تَبْلُغي المدينةَ، ثم أخَذَ بِخطامِ بعيري وانْطَلَقَ يَهْوي بي.
تقولُ: فواللّهِ ما صَحِبْتُ رجلاً من العَرَبِ قَطُّ أكْرمَ مِنْه ولا أشْرَفَ، كانَ إذا بَلَغ منزلاً من المنازِلِ يُنيخُ بَعيري، ثم يَسْتَأخرُ عنِّي، حتَّى إذا نَزَلْتُ عن ظهْرِه واسْتَوَيْتُ على الأرضِ دنا إليه وحَطَّ عَنْه رَحْلَه، واقْتَادَه إلى شَجَرَةٍ وقيَّده فيها، ثم يَتَنَحَّى عَنِّي إلى شَجَرَةٍ أخْرَى فيَضْطَجعُ في ظلِّها، فإذا حانَ الرَّواحُ قامَ إلى بعيري فأعَدَّه، وقدَّمه إليَّ، ثم يَسْتَأخِرُ عَنِّي، ويقول: ارِكَبي، فإذا رَكِبْتُ، واسْتَوَيْتُ على البعيرِ، أتى فأخذَ بِخِطامِه وقادَه.
وما زال يصْنَعُ بي مثلَ ذلك كلَّ يوم حتَّى بَلَغْنا المدينةَ، فلمَّا نَظَرَ إلى قريةٍ بقُبَاء لبني عمرو بنِ عوِف قالَ: زوجُك في هذه القريةِ، فادْخُليها على بَرَكةِ اللّهِ، ثم انصَرَف راجعاً إلى مكَّةَ.
اجْتَمَعَتْ أمُّ سلمةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- بِزوجِها وابْنِها مرةً أخرى، وقَرَّتْ عَينُها بَعدَ ذلكَ البَلاءِ العَظيمِ، ولكن بعدَ وقتٍ قصيرٍ جُرِحَ أبو سلمةَ في غَزوَةِ أُحدٍ جُرْحاً بليغاً، فَظَلَّ أبو سلمةَ على فِراشِ مَرَضِهِ أياماً، وفي ذاتِ صباحٍ جاءَه رسولُ اللّهِ -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- ليَعودَه، فلم يَكَدْ ينتهي من زيارتِه ويجاوزُ بابَ داره، حتَّى فارقَ أبو سلمةَ الحياةَ، فأغْمَضَ النبيُّ -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- بِيَديه الشريفتين عَيْني صاحبِه، ورَفَعَ طَرْفَه إلى السماءِ وقال: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لأبي سَلَمَةَ، وارْفَعْ دَرَجَتَه في المقرَّبين، واخلُفْه في عَقِبهِ في الغابرين، واغْفِرْ لنا وله يا ربَّ العالمين، وافسَحْ له في قَبْرِه، ونوِّرْ له فيه".
فرجعَ الهمُّ إلى أمِّ سلمةَ، وأصْبَحَتْ حَزينةً وَحيدةً إذْ لم يَكُنْ لها في المدينةِ أحدٌ من ذويها غيرَ صِبيَةٍ صِغارٍ، وكَانتْ قَدْ سَمِعْتْ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ فَيَقُولُ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، اللَّهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا، إِلاَّ أَخْلَفَ اللَّهُ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا".
قَالَتْ: فَلَمَّا مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ قُلْتُ: أَيُّ الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ؟، أَوَّلُ بَيْتٍ هَاجَرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ثُمَّ إِنِّي قُلْتُهَا، قَالَتْ: فَخَطَبني أبو بكرٍ ثمَّ عُمرُ، ثمَّ أَرْسَلَ إِلَىَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حَاطِبَ بْنَ أَبِي بَلْتَعَةَ يَخْطُبُنِي لَهُ، ثم تزوّج رسولُ اللّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من أمِّ سَلمةَ فاستجابَ اللّهُ دعاءَها، وأخْلَفَها خيراً من أبى سَلَمَةَ، ومنذ ذلك اليومِ لَمْ تَبْقَ هِنْدُ المَخْزُوميَّةُ أمّاً لِسَلَمَةَ وحدَه، وإنما غَدَتْ أمّاً لجميعِ المؤمنينَ في كُلِّ زمانٍ ومَكانٍ.
عبادَ اللهِ .. كَثيرٌ مِنَّا يعرفُ هذا الحديثَ .. ويحفظُ ذلكَ الدُّعاءَ .. ولكن من مِنَّا يقولُه إذا وقَعتْ المُصيبةُ؟ .. ومن مِنَّا يقولُه وهو مؤمنٌ بوعدِ اللهِ –تعالى- إيماناً صادقاً لا يتخلَّلُه أدنى شكٍ أو ريبٍ؟ .. ونحن نعلمُ علمَ اليَقينِ أننا في دارِ الابتلاءِ والامتحانِ .. كما قالَ سُبحانَه في كتابِه: (الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) [العنكبوت: 1- 3].
ماذا ينتظرُ الإنسانُ في مُستَقبلِه؟ .. هَلْ يَنْتَظِرُ إِلَّا فَقْرًا مُنْسِيًا، أَوْ غِنًى مُطْغِيًا، أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا، أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا، أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا، أَوْ الدَّجَّالَ؛ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ، أَوْ السَّاعَةَ؛ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ؟
فهل هيَّأنا أنفسَنا على استقبالِ الأقدارِ المُؤلمةِ؟ .. لقد وَعَدَ اللهُ –تعالى- ووعدُه الحقُّ: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوف وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ) .. وأخبرَ أن الأجرَ والبُشرى لأهلِ الصَّبرِ والثَّباتِ: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) .. وهم (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ)،فما هو أجرُّهم؟، (أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ) ثناءٌ من المَلكِ العزيزِ في الملأِ الأعلى،(وَرَحْمَةٌ) من العظيمِ الرَّحيمِ، (وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)[البقرة: 155- 156] وهِدايةٌ وتوفيقٌ في الدُّنيا والآخرةِ.
عن عمرَ بنِ الخَطابِ -رضِيَ اللّهُ عَنْهُ- أنه قالَ: "ما أصابتني مُصيبةٌ إلا وَجدتُ فيها ثلاث نِعَمٍ: الأولى: أنها لم تكنْ في ديني، والثانيةُ: أنها لم تكنْ أعظمَ ممَّا كانتْ، والثالثةُ: أن اللهَ يجازي عليها الجزاءَ الكبيرَ، ثمَّ تلا قولَه تعالى: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) [البقرة: 155- 156].. هكذا يُصبِّرُ أهلُ الإيمانِ أنفسَهم .. شكرٌ وحمدٌ .. وانتظارٌ للوَعدِ.
عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ أَبَاهُ وَقَعَتْ فِي رِجْلِهِ الْآكِلَةُ، فَقِيلَ: أَلَا نَدْعُو لَكَ طَبِيبًا؟ قَالَ: إِنْ شِئْتُمْ، فَقَالُوا: نَسْقِيكَ شَرَابًا يَزُولُ فِيهِ عَقْلُكَ؟، فَقَالَ: امْضِ لِشَأْنِكَ، مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ خَلْقًا يَشْرَبُ مَا يُزِيلُ عَقْلَهُ حَتَّى لَا يَعْرِفَ بِهِ رَبَّهُ، فَوُضِعَ الْمِنْشَارُ عَلَى رُكْبَتِهِ الْيُسْرَى، فَمَا سَمِعْنَا لَهُ حِسًّا، وَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ فَعَزَّاهُ فَقَالَ: بِأَيِّ شَيْءٍ تُعَزِّينِي أَبِرِجْلِي؟، قَالَ: لَا وَلَكِنْ بِابْنِكَ قَطَعَتْهُ الدَّوَابُّ بِأَرْجُلِهَا، فَقَالَ عُرْوَةُ: لَئِنْ أَخَذْتَ لَقَدْ أَبْقَيْتَ وَلَئِنِ ابْتَلَيْتَ لَقَدْ عَافَيْتَ، وَمَا تَرَكَ جُزْءَهُ بِالْقُرْآنِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ.
أهؤلاءِ بشرٌ؟ .. عندَهم مشاعرُ وأحاسيسُ أم هم حجرُ؟ .. يموتُ ابنُه وتُقطعُ رِجلُه بالمنشارِ .. ولا يفوتُه تلكَ الليلةَ القيامُ في الأسحارِ .. إنه الإيمانُ بقضاءِ اللهِ -تعالى- وقدرِه .. وما أدراكَ ما الإيمانُ.
واعلموا أن دمعَ العينِ وحُزنَ القلبِ عِندَ المُصيبةِ ليسَ ممنوعاً إذا لم يُصاحبْه سَخطٌ بالقلبِ ونياحةٌ باللِّسانِ .. فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: دَخَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى أَبِي سَيْفٍ الْقَيْنِ وَكَانَ ظِئْرًا لِإِبْرَاهِيمَ فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِبْرَاهِيمَ فَقَبَّلَهُ وَشَمَّهُ، ثُمَّ دَخَلْنَا عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِبْرَاهِيمُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَذْرِفَانِ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: "يَا ابْنَ عَوْفٍ إِنَّهَا رَحْمَةٌ"، ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِأُخْرَى فَقَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ، وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ، وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ".
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ المتفرِّدِ بالدَّوامِ والبَقاءِ، المنزَّهِ عن العَدَمِ والفَناءِ، أحمدُه تعالى على قضائِه وقدرِه، وصفاءِ الأمرِ وكَدَرِه، وأشكرُه على حالِ السَّرَّاءِ والضَّرَّاءِ، والشِّدَّةِ والرَّخاءِ، وأسألُه الصَّبرَ على مُرِّ القَضاءِ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا أَندادَ لهُ ولا شُركاءَ، وأشهدُ أن نبيَّنا وسيِّدَنا محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه إمامَ الحنفاءِ وسيِّدَ الأصفياءِ، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه الأتقياءِ الأنقياءِ، وصَحْبه بُدُورِ الاهتداءِ وأنجمِ الاقتداءِ، ومن تَبعَهم بإحسانٍ ما دامتِ الأرضُ والسَّماءِ، وسلِّم تَسليمًا كثيرًا.
عنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ- قال: كَانَ ابْنٌ لأبي طلْحةَ -رضي اللَّه عنه- يَشْتَكي، فخرج أبُو طَلْحة -رضِيَ اللّهُ عَنْهُ-، فَقُبِضَ الصَّبِيُّ، فَقَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ لأهْلِهَا: لا تُحَدِّثُوا أَبَا طَلْحَةَ بابنِهِ حتَّى أَكُونَ أَنَا أُحَدِّثُهُ، فَلَمَّا رَجَعَ أَبُو طَلْحةَ قال: ما فَعَلَ ابنِي؟ قَالَت أُمُّ سُلَيْم وَهِيَ أُمُّ الصَّبيِّ: هو أَسْكَنُ مَا كَانَ، فَقَرَّبَتْ إِلَيْهِ عَشَاءً فَأَكَلَ وشَرِبَ، ثُمَّ تَصنَّعتْ لهُ أَحْسنَ ما كانتْ تَصَنَّعُ قَبْلَ ذلكَ، فَوقَعَ بِهَا، فَلَمَّا أَنْ رأَتْ أَنَّهُ قَدْ شَبِعِ وأَصَابَ مِنْها قَالتْ: يا أَبَا طلْحةَ، أَرَأيْتَ لَوْ أَنَّ قَوْماً أَعارُوا عارِيتهُمْ أَهْل بيْتٍ فَطَلبوا عاريَتَهُم، ألَهُمْ أَنْ يمْنَعُوهَا؟ قَالَ: لا، فَقَالَتْ: فاحتسِبْ ابْنَكَ، قَالَ: فغَضِبَ، ثُمَّ قَالَ: تركتنِي حتَّى إِذَا تَلطَّخْتُ ثُمَّ أَخْبرتِني بِابْني، فَانْطَلَقَ حتَّى أَتَى رسولَ اللَّه -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم- فأخْبَرهُ بما كَانَ، فَقَالَ رسولُ اللَّه -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم-: "بَاركَ اللَّه لكُما في ليْلتِكُما".
فَولَدتْ غُلاماً فقَالَ لِي أَبُو طَلْحَةَ: احْمِلْهُ حتَّى تَأَتِيَ بِهِ النبيَّ -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم-، وبَعثَ مَعهُ بِتمْرَات، فقال -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم-: "أَمعهُ شْيءٌ؟"، قال: نعمْ، تَمراتٌ فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- فَمضَغَهَا، ثُمَّ أَخذَهَا مِنْ فِيهِ فَجَعَلَهَا فِي في الصَّبيِّ، ثُمَّ حَنَّكَه وسمَّاهُ عبدَ اللَّهِ.
يا أهلَ الإيمانِ .. امرأةٌ يموتُ ابنُها الصَّغيرُ، فتُغطيهُ في غرفةٍ من غُرفِ البيتِ .. وتأتي إلى زوجِها بالعشاءِ .. وتتزيَّنُ له ويُعاشرُها تلكَ الليلةَ .. ولا يظهرُ عليها شيءٌ من الجَزعِ أو الحُزنِ أو الهَمِّ؟ .. إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ .. فكانَ العِوضُ في الدُّنيا كما قالَ راوي القِصَّةِ: فكانَ أَنْ ولِدَ لعبدِ اللهِ هذا عشرةُ ذُكورٍ، كلُّهم يَحفظونَ القرآنَ.
فلا إلهَ إلا اللهُ .. ما الذي جعلَ أمَّ سُلَيْمٍ تَثبتُ في موقفٍ يتساقطُ فيه الرِّجالُ .. وما الذي جعلها تحملُ حِملاً تتقطَّعُ له أعناقُ الجِمالِ .. إنه الاستسلامُ والإيمانُ بقضاءِ اللهِ –تعالى- وقدرِه .. وما أدراكَ ما الإيمانُ؟!
اللّهُمّ إنَّكَ تَرى مكَاننا، وَتَسمَع كَلامَنا، وَتَعلم سِرَّنا وعَلانيتنا، ولا يخفى عَليكَ شيء مِن أمرِنا، نَسألُك مَسألةَ المَساكينِ، ونَبتهِل إليكَ ابتِهَالَ المُذِنب الذَّليلِ، ونَدعُوكَ دُعاءَ الخَائفِ الذي خَضَعتْ لَكَ رَقَبَتُه، وفَاضَت لَكَ عَينَاه.
اللَّهمَّ بعلمِكَ الغيبَ وقُدرتِكَ على الخَلقِ، أحينَا إذا كانتِ الحيَاةُ خَيراً لنا، وتوَفَّنا إذا كانتِ الوَفاةُ خيراً لنا، ونسألُكَ خشيَتَك في الغيبِ والشهادة، ونسألكَ كَلِمة الحَقِّ في الغضبِ والرِّضا، ونَسألكَ القصدَ في الفقرِ والغنى، ونَسألكَ نَعيماً لا ينفدُ، ونسألكَ قُرَّةَ عينٍ لا تنقطِعُ، ونسألك الرِّضا بعدَ القضاءِ، ونسألك بردَ العيشِ بعدَ الموتِ، ونسألكَ لذةَ النَّظرِ إلى وَجهِكَ الكريمِ، ونسألكَ الشَّوقَ إلى لِقائِكَ، في غيرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، ولا فِتنَةٍ مُضِلَّةٍ.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم