اللسان... سبب الرضوان أو الخسران

ماهر بن حمد المعيقلي

2024-07-05 - 1445/12/29 2024-07-07 - 1446/01/01
عناصر الخطبة
1/للكلمة أهمية عظمى في حياة الإنسان 2/من فضائل الكلمة الطيبة 3/التحذير من إطلاق اللسان في الباطل والبهتان 4/وصايا لحفظ اللسان

اقتباس

كَمْ من إنسان تكلَّم بكلمة دون تفكُّر، أو إمعان نظر كانت سببًا للخسران والبوار، هوى بسببها في النار، أبعدَ مما بين المشرق والمغرب، فالعاقل اللبيب، مَنْ جعَل على لسانَه رقيبًا، رقيبًا يكفُّه عن شهادة الزور والنميمة، والبهتان والغيبة، والكذب والازدراء، والسخرية والاستهزاء...

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله الذي مَنَّ علينا بنعمة الإيمان، وأنزل القرآن هدى للناس، وبينات من الْهُدَى والفرقان، أحمده -سبحانه- وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنَّ سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى اللهُ وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وأزواجه، وجميع أصحابه ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ.

 

أما بعدُ، مَعاشِرَ المؤمنينَ: أُوصِي نفسي وإيَّاكم بتقوى الله، وتدبُّر كتابه، واتباع هَدْيِ نبيِّه؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71].

 

أُمَّةَ الإسلامِ: إنَّ كلامَ الإنسانِ مِنْ عمله الذي سيُحاسَب عليه، إِنْ كان خيرًا فخيرٌ، وإن كان شرًّا فشَرٌّ؛ فللكلمة أهميَّةٌ عظيمةٌ، يدخُل بها المرءُ الإسلامَ، ويفرق بينها بين الحلال والحرام، وبها يرفع المرء لأعلى الدرجات، أو يهوي لأسفل الدركات؛ ففي صحيح البخاري، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "‌إِنَّ ‌الْعَبْدَ ‌لَيَتَكَلَّمُ ‌بِالْكَلِمَةِ ‌مِنْ ‌رِضْوَانِ ‌اللَّهِ، ‌لَا ‌يُلْقِي ‌لَهَا ‌بَالًا، يَرْفَعُهُ اللَّهُ بها دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ، لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَهْوِي بها في جَهَنَّمَ".

 

وبيَّن -سبحانه- فضلَ الكلمة الطيبة، فقال: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ)[فَاطِرٍ: 10]، ولا يَصعَدُ إلى الله -تعالى- إلَّا ما يُحِبّ ويَرْضَى؛ فلذا جاءت نصوصُ الكتابِ والسُّنَّةِ بحثِّ المؤمنِ على مراقَبةِ ما يتكلم به، "‌فَمَنْ ‌كَانَ ‌يُؤْمِنُ ‌بِاللَّهِ ‌وَالْيَوْمِ ‌الْآخِرِ ‌فَلْيَقُلْ ‌خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ"؛ فابتغوا -يا عبادَ اللهِ- بكلامِكم رِضَا اللهِ؛ فبالكلمةِ الطيبةِ يُزحزَح المرءُ عن النيران، ويفوز بالجِنان؛ (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)[آلِ عِمْرَانَ: 185].

 

وفي الصحيحين، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "‌مَا ‌مِنْكُمْ ‌أَحَدٌ ‌إِلَّا ‌سَيُكَلِّمُهُ ‌رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ، فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ مِنْ عَمَلِهِ، وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلَا يَرَى إِلَّا النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ".

 

إخوةَ الإيمانِ: إنَّ كفَّ اللسان عن المحرَّمات طريق مُوصِل إلى السلامة، وإلى رضوان الله -تعالى- والجنة؛ ففي سنن الترمذي، قال معاذ -رضي الله عنه-: "يا رسول الله، أخبِرْني بعمل يُدخِلني الجنةَ، ويُباعِدني عن النار"، فذكر له -صلى الله عليه وسلم- أبواب الخير، ثم قال: "ألا أخبرك بملاك ذلك كله، قلتُ: بلى يا نبي الله، فأخذ بلساني، قال: كف عليك هذا، كف عليك هذا، فقلتُ: يا نبي الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟! فقال: ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناسَ في النار على وجوههم، أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم".

 

فكَمْ من إنسان تكلَّم بكلمة دون تفكُّر، أو إمعان نظر كانت سببًا للخسران والبوار، هوى بسببها في النار، أبعدَ مما بين المشرق والمغرب، فالعاقل اللبيب، مَنْ جعَل على لسانَه رقيبًا، رقيبًا يكفُّه عن شهادة الزور والنميمة، والبهتان والغيبة، والكذب والازدراء، والسخرية والاستهزاء.

 

وفي غزوة تبوك خرَج أناسٌ مع النبي -صلى الله عليه وسلم- فتكلموا بكلمات زلت بها ألسنتهم، فقالوا: "‌ما ‌رأينا ‌مثل ‌قُرَّائنا ‌هؤلاء، لا أرغبَ بطونًا، ولا أكذبَ ألسنةً، ولا أجبنَ عند اللقاء" يقصدون النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، فجاء الوحي من السماء، بخبر تلك المقالة السيئة، فقال سبحانه: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ)[التَّوْبَةِ: 65-66]، فجاء القوم يعتذرون، ويقولون: "يا رسول الله، إنما هي كلمات نقطع بها عناء ومشقة الطرقات، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يلتفت إليهم، ولا يزيد عليهم، إلا أن يقول: (أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ)[التَّوْبَةِ: 65-66]، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا في السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ * يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ في الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ)[إِبْرَاهِيمَ: 24-27].

 

بارَك اللهُ لي ولكم في القرآن والسُّنَّة، ونفعني وإيَّاكم بما فيه فيهما من الآيات والحكة، أقول قولي هذا، وأستغفِر اللهَ لي ولكم من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه، إنه كان غفَّارًا.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله، الحمدُ لله ربِّ العالَمِينَ، والصلاة والسلام على الرسول الكريم، محمد بن عبد الله، النبي الأمين، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه والتابعين، ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

 

أما بعدُ، مَعاشِرَ المؤمنينَ: إن كل كلمة يتلفظ بها المرء، مكتوبة عليه، ولسانه يوم القيامة إمَّا شاهدًا له أو عليه؛ (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[النُّورِ: 24]، ولَمَّا كان اللسان بهذه المنزلة، عُدَّ حبسُه من أسباب النجاة يوم القيامة، ففي سنن الترمذي، قال عقبة بن عامر -رضي الله عنه-: "يَا رسولَ اللهِ مَا ‌النَّجَاةُ؟ ‌قَالَ: "‌أَمْسِكْ ‌عَلَيْكَ ‌لِسَانَكَ"، ودعانا -صلى الله عليه وسلم- إلى عفة اللسان، والبُعْد عن السباب واللعان، فأفضل المسلمين من سلم المسلمون من لسانه ويده، وضمن -صلى الله عليه وسلم- الجنة لمن حفظ لسانه وفرجه، بل عد -صلى الله عليه وسلم- الكلمة الطيبة صدقة، ومن الكلمات الطيبات، ذكر رب البريات، فالحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله، تملآن أو تملأ ما بين الأرض والسماوات، وفي الصحيحين، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "‌كَلِمَتَانِ ‌خَفِيفَتَانِ ‌عَلَى ‌اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ في الْمِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ"، قال ابن القيم -رحمه الله-: "وإن العبد ليأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال، فيجد لسانه قد هدمها عليه كلها، ويأتي بسيئات أمثال الجبال، فيجد لسانه قد هدمها، من كثرة ذكر الله وما اتصل به.

 

هذا وصلُّوا وسلِّموا على الحبيب المصطفى، والنبي المجتبى، فقد أمركم الله بذلك فقال جل وعلا: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].

 

اللهمَّ صلِّ على محمدٍ وعلى أزواجه وذريته، كما صليتَ على آلِ إبراهيمَ، وبارِكْ على محمدٍ وعلى أزواجه وذريته، كما باركتَ على آل إبراهيمَ، إنكَ حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهمَّ عن الخلفاء الراشدينَ، الأئمة المهديينَ؛ أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ، وعن سائر الصحابة أجمعينَ والتابعين، ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك وجودك ومنتك يا أرحمَ الراحمينَ.

 

اللهمَّ أعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، واجعَلْ هذا البلدَ آمِنًا مطمئنًّا، سخاءً رخاءً، وسائرَ بلاد المسلمينَ.

 

اللهمَّ آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيد بالحق إمامنا وولي أمرنا، اللهمَّ وفق إمامنا خادم الحرمين الشريفين، وولي عهده الأمين، إلى ما فيه عز الإسلام وصلاح المسلمين، وإلى ما فيه خير للبلاد والعباد، وجميع ولاة المسلمين، اللهُمَّ احفظ علينا ديننا وقيادتنا وأمننا، اللهمَّ وفق رجال أمننا، والمرابطين على حدودنا وثغورنا، برحمتك وفضلك وجودك يا ربَّ العالمينَ، اللهمَّ انصرهم على عدوك وعدوهم، يا قوي يا عزيز، يا ذا الجلال والإكرام.

 

اللهمَّ فرج هم إخواننا المستضعَفين في فلسطين، اللهمَّ كن لهم معينًا ونصيرًا، ومؤيِّدا وظهيرًا، اللهمَّ إنهم حفاة فاحملهم، عراة فاكسهم، جياع فأطعمهم، اللهمَّ عليك بعدوك وعدوهم، يا قوي يا عزيز، يا ذا الجلال والإكرام، اللهُمَّ احفظ المسجد الأقصى، واجعله شامخًا عزيزًا إلى يوم الدين.

 

اللهُمَّ اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات؛ (رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ: 201]، (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)[الْبَقَرَةِ: 127]، (وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)[الْبَقَرَةِ: 128]، (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الصَّافَّاتِ: 180-182].

المرفقات

اللسان... سبب الرضوان أو الخسران.doc

اللسان... سبب الرضوان أو الخسران.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات