اللذة بعبادة رمضان

الشيخ سعد بن عبد الله السبر

2022-10-08 - 1444/03/12
عناصر الخطبة
1/ هنيئاً للصائمين   2/من هدي السلف في رمضان 3/لذة الطاعة وحلاوتها 4/السلف والأنس بالله 5/ أعظم عقوبات المعاصي 6/ للإيمان فرحة ولذة في القلب.

اقتباس

هناك شيء يحمل المتعبدين على الإقبال على عبادتهم من غير ملل، والوقوف فيها من غير نظر إلى تعب أو كلل, وهذا الشيء لا شك ينسي النفس همومها، ويورث القلب تعلقًا يشغله به عن الإحساس بالتعب، أو حتى الالتفات إلى تورم القدم ثم تفطرها وتشققها من طول الوقوف. إنها لذة الطاعة، وحلاوة المناجاة...

 

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه يجب على العبد في عبوديته, وكما يحبه الرب ويرتضيه, أنعم بما لا يحصره الحساب ولا يحصيه, ولا يسعه الكتاب ولا يحويه, كم ذنب قد غفره؛ ولولا الغفران لحاق العذاب بجانبه, أحمده على اللاحق والسابق من أياديه, حمدا يوجب المزيد من كرم الحق لحامديه.

 

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أزاحم بها على باب الجنة داخليه, وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اصطفاه الله من خلقه فسبحان مصطفيه, وارتضاه لتبليغ رسالته فتعالى جد مرتضيه, فشمر عن ساق الجد في مجاهدة أعداء الله ومعانديه؛ حتى اتسق قمر الإيمان في فلك الإسلام ووضح الحق لناظريه, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وحزبه ومحبيه, وسلم تسليما كثير إلى يوم الدين.

 

أما بعد: فأُوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله -عز وجل- فهي شعارُ الصائمين ودثارهم ودليل جنة النعيم (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة: 183] (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].

 

أيها الصائمون القانتون التائبون: هنيئا لكم توبتكم وفرحكم بطاعة ربكم, هنيئا لكم أُنسكم بمناجاة ربكم وذهاب وحشتكم, قيل لبعض الصالحين لما أكثر الخلوة: "ألا تستوحش؟" قال: "وهل يستوحش مع الله أحد؟!", وقال آخر: "كيف أستوحش وهو يقول: وأنا معه إذا ذكرني؟!".

 

فليتك تحلو والحياة مريرة *** وليتك ترضى والأنام غضابُ

وليت الذي بيني وبينك عامر *** وبيني وبين العالمين خرابُ

إذا صح منك الود فالكل هين *** وكل الذي فوق التراب ترابُ

 

هنيئا لكم صيامكم وقيامكم, هنيئا لكم تبديل حسناتكم سيئات, هنيئا لكم تلذذكم وإحساسكم بحلاوة الإيمان, ما أجمل الوصال بعد الهجران!, ما أجمل اللذة بعد الحسرة!, وما أجمل الأوبة بعد الغدرة والزلة!, وما أجمل الصفح والعفو!, (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى) [طه: 82].

 

أيها الصائمون التائبون: عشتم أياما مضت في كنف ربكم ومائدة شهره الفضيل؛ تتقلبون بين لذات لا حسرات فيها وساعات لاكدر فيها, دعاء وتوبة وتضرع وصيام ورجوع وأوبة لربكم ذقتم حلاوة الإيمان وأنستم بمناجاة الديان, وبكيتم على ما سلف من العصيان, قَالَ عُمَر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "اجلسوا إلى التوابين فإنهم أرق شيء أفئدة".

 

أكرم ربكم وفادتكم عليها فزين جنته لكم, وأعدها لسد ظمأكم؛ وليطيب عيشكم وراحة بالكم وخلودكم فيها, هنيئا لكم -معاشر الصائمين الخائفين- طاعة كلها لذات وليست معاصي تعقبها حسرات, عَن قتادة قَالَ: "كان يقال ما سهر الليل منافق", وعَن امرأة مسروق قالت: "ما كان مسروق يوجد إلاَّ وساقاه قد انتفختا من طول الصلاة. قالت والله إن كنت لأجلس خلفه فأبكي رحمة له".

 

إخوة الدين روى الإمام البخاري وغيره عن المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه-: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصلي حتى ترم -أو تنتفخ- قدماه، فقيل له: يا رسول الله أتصنع هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: "أفلا أكون عبدًا شكورًا؟". هذا كان حال رسول الله -صلى الله عليه وسلم=، وصدق ابن رواحة حين قال:

 

وفينا رسول الله يتلو كتابه *** إذا انشق معروف من الفجر ساطع

أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا *** به موقنـات أن ما قال واقع

يبيت يجافي جنبه عن فراشه *** إذا استثقلت بالمشركين المضاجع

 

قال ابن الجوزي: عن سفيان بن عيينة قال: :كان قيس بن مسلم يصلى حتى السحر ثم يجلس فيهيج البكاء فيبكي ساعة بعد ساعة ويقول: "لأمر ما خُلقنا، لأمر ما خلقنا، وإن لم نأت الآخرة بخير لنهلكن", وفي سير أعلام النبلاء للذهبي: "كان عبد العزيز بن أبي رواد يوضع له الفراش لينام، فيضع عليه يده ويقول ما ألينك، ولكان فراش الجنة ألين منك. ثم يقوم فيصلي". وكان عبد الرحمن بن مهدي يختم كل ليلتين, يقرأ في كل ليلة نصف القرآن.

 

إنها لذة الطاعة إن كل هذا الذي سقناه من كثرة الصلاة وطول القيام فيها، وصبر النفس على تحمل مشاق البدن؛ ليدل على أن هناك شيء يحمل المتعبدين على الإقبال على عبادتهم من غير ملل، والوقوف فيها من غير نظر إلى تعب أو كلل, وهذا الشيء لا شك ينسي النفس همومها، ويورث القلب تعلقًا يشغله به عن الإحساس بالتعب، أو حتى الالتفات إلى تورم القدم ثم تفطرها وتشققها من طول الوقوف.

 

إنها لذة الطاعة، وحلاوة المناجاة، وأنس الخلوة بالله، وسعادة العيش في مرضاة الله؛ حيث يجد العبد في نفسه سكينة، وفي قلبه طمأنينة، وفي روحه خفة وسعادة، مما يورثه لذة لا يساويها شيء من لذائذ الحياة ومتعها، فتفيض على النفوس والقلوب محبة للعبادة وفرحًا بها، وطربًا لها، لا تزال تزداد حتى تملأ شغاف القلب, فلا يرى العبد قرة عينه وراحة نفسه وقلبه إلا فيها، كما قال سيد المتعبدين -صلى الله عليه وسلم-: "حبب إليَّ من دنياكم الطيب والنساء, وجعلت قرة عيني في الصلاة". أي منتهى سعادته -صلى الله عليه وسلم- وغاية لذته في تلك العبادة التي يجد فيها راحة النفس واطمئنان القلب، فيفزع إليها إذا حزبه أمر أو أصابه ضيق أو أرهقه عمل، وينادي على بلال: "أرحنا بها.. أرحنا بها".

 

وهذا النوع من لذائذ القلوب والنفوس ذاقه السالكون لدرب نبيهم والسائرون على هديه وسننه، فجاهدوا أنفسهم وثابروا معها وصابروها في ميدان الطاعة حتى ذاقوا حلاوتها، فلما ذاقوها طلبوا منها المزيد بزيادة الطاعة، فكلما ازدادت عبادتهم زادت لذتهم فاجتهدوا في العبادة ليزدادوا لذة إلى لذتهم, فمن سلك سبيلهم ذاق، ومن ذاق عرف.

 

قال بعض السلف: "إني لأفرح بالليل حين يقبل لما يلتذ به عيشي، وتقر به عيني من مناجاة من أحب، وخلوتي بخدمته، والتذلل بين يديه، وأغتم للفجر إذا طلع لما اشتغل به". وكان ثابت البناني يقول: "اللهم إن كنت أعطيت أحدًا الصلاة في قبره فأعطني الصلاة في قبري". وقال سفيان الثوري: "إني لأفرح بالليل إذا جاء، وإذا جاء النهار حزنت". ولقد بلغت لذة العبادة وحلاوتها ببعض ذائقيها أن قال من شدة سروره: "لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه -يعني من النعيم- لجالدونا عليه بالسيوف".

 

أيها الصائمون المخبتون: جربتم الطاعة فهل أنستم بالعبادة وتلذذتم بالمناجاة وفرحتم بالاصطفاء لكم من بين الخلق؟ فكم من كافر محروم وشقي عاصي مغموم, هل أنتم في لذة تتذوقونها كما تذوقها سلفكم؟. سُئل وهيب ابن الورد: "أيجد لذة الطاعة من يعصي؟" قال: "لا", فأعظم عقوبات المعاصي حرمان لذة الطاعات وإن غفل عنها المرء لقلة بصيرته وضعف إيمانه أو لفساد قلبه.

 

قال ابن الجوزي: "قال بعض أحبار بني إسرائيل : يا رب كم أعصيك ولا تعاقبني؟" فقيل له: "كم أعاقبك وأنت لا تدري، أليس قد حرمتك حلاوة مناجاتي؟", قال أحد السلف مبديًا حزنه وتأسفه على الذين لم يشهدوا هذا المشهد: "مساكين أهل الدنيا، خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها". قيل: "وما أطيب ما فيها؟" قال: "محبة الله ومعرفته وذكره", وكان شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- يقول: "إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة". إنها الجنة التي لما دخلها الداراني قال: "إن أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم, وإنه لتأتي على القلب أوقات يرقص فيها طربا من ذكر الله فأقول: لو أن أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب".

 

إنها الجنة التي تنسي صاحبها هموم الحياة ومشاقها، بل تنسيه تعب العبادة ونصبها، وكلَلَ الأبدان وملالِهَا، بل وتنسيه الجوع والظمأ، فتغنيه عن الطعام وتعوضه عن الشراب، فهو بها شبعان ريّان، كما في حديث نهي النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الوصال، فقيل له: إنك تواصل. قال: "إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني" [رواه البخاري ومسلم]. يطعمه اللذة والأنس والبهجة، كما قال ابن القيم: "المراد ما يغذيه الله به من معارفه، وما يفيض على قلبه من لذة مناجاته وقرة عينه بقربه، وتنعمه بحبه والشوق إليه، وتوابع ذلك من الأحوال التي هي غذاء القلوب ونعيم الأرواح وقرة العين وبهجة النفوس والروح والقلب بما هو أعظم غذاء وأجوده وأنفعه، وقد يقوى هذا الغذاء حتى يغني عن غذاء الأجسام مدة من الزمان كما قيل:

 

لها أحاديث من ذكراك تشغلها *** عن الشراب وتلهيها عن الزاد

لهـا بوجهك نور تستضيء به *** ومن حديثك في أعقابها حادي

إذا شكت من كلال السير أوعدها *** روح القدوم فتحيا عند ميعاد

فقوت الروح أرواح المعاني *** وليس بأن طعمت وأن شربت

 

أقول ما سمعتم واستغفر الله

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله بجميع ما حمد به الحامدون على كل نعمة وصل إليها من كرامته الواصلون, ومن أولى بالحمد من منعم من بحر أنعمه أنعم المنعمون, وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة من لم يزل عبده, ولا رأى إلا رفده, ولا خاف إلا وعيده, ولا رجا إلا وعده, عسى بكلمة الإخلاص أن نحصل على الإخلاص, ولات حين مناص إلا للموحدين, وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي عبده حتى أتاه اليقين, ورسوله الذي جاء بالحق وصدق المرسلين, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين, رضوان الله عليهم أجمعين.

 

أما بعد فاتقوا الله أيها الناس.

 

أيها المسلمون: سئل الامام أحمد بن حنبل -رحمه الله-: بم تلين القلوب؟ قال: "بأكل الحلال". قال عبد الله بن وهب -رحمه الله-: "كل ملذوذ إنما له لذة واحدة إلا العبادة فإن لها ثلاث لذات إذا كنت فيها وإذا تذكرتها وإذا أعطيت أجرها". يقول ابن المنكدر - رحمه الله-: "ما بقي في الدنيا من اللذات إلا ثلاث: قيام الليل, ولقاء الأخوان, والصلاة في جماعة".

 

قال ابن القيم -رحمه الله-: "فإن للإيمان فرحة ولذة في القلب, فمن لم يجدها فهو فاقد الإيمان أو ناقصه, وهو من القسم الذين قال الله -عز وجل- فيهم (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ) [الحجرات: 14], وقال بعضهم: "سقت نفسي إلى الله وهي تبكي، فمازلت أسوقها حتى انساقت إليه وهي تضحك". قال الحافظ ابن رجب -رحمه الله-: "واعلم أن نفسك بمنزلة دابتك، إن عرفت منك الجد جدت وإن عرفت منك الكسل طمعت فيك، وطلبت منك حظوظها وشهواتها", قال الحسن البصري -رحمه الله-: "أفضل الجهاد مخالفة الهوى والأمر, كما قال ربنا تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت: 69].

 

 

 

المرفقات

بعبادة رمضان

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات